خلال أقل من شهر‏,‏ أسهمنا في مناسبتين مهمتين ركزتا علي أهمية الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات‏,‏ في عالم اليوم الذي يموج بكثير من الصدامات والصراعات‏,‏ التي تكتسب للأسف طابعا دينيا أحيانا‏,‏ بينما هي في الحقيقة صدامات مصالح وصراعات سياسة ونفوذ‏!‏
المناسبة الأولي التي اكتسبت أهمية عربية إسلامية دولية‏,‏ هي تلك التي دعا إليها السيد عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية‏,‏ وعقدت في رحابها‏,‏ بعنوان الملتقي الثقافي الفكري العربي للحوار حول التواصل لا الصدام مع الغرب‏,‏ وحضرها جمهور كبير من المثقفين والمفكرين العرب في الداخل وفي المهاجر الغربية‏.‏
أما المناسبة الثانية‏,‏ وقد كانت مهمة هي الأخري‏,‏ فهي تلك التي نظمها الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي‏,‏ وعقدت في القاهرة أيضا‏,‏ بحضور عدد مميز من المثقفين ورجال الدين الاسلامي والمسيحي‏,‏ خصوصا العرب الذين يمثلون كنائس الشرق الأوسط‏.‏
ولحسن الحظ فقد أسهمنا في المناسبتين ببحثين مكتوبين‏,‏ فضلا عن المشاركة المتواضعة في المناقشات‏,‏ وكان الهدف ولايزال هو الاجتهاد في البحث عن طرق ووسائل تنشيط الحوار الهادئ العاقل‏,‏ بين الحضارة العربية الإسلامية بأطرافها المسيحية الشرقية من ناحية‏,‏ والحضارة الأوروبية الأمريكية‏,‏ الغربية من ناحية أخري‏,‏ بحثا عن نقاط لقاء مشترك‏,‏ واستكشافا لقيم وأفكار إيمانية وثنائية عديدة تجمع في حقيقة الأمر بين الأديان السماوية الإبراهيمية الراسخة في العقول والقلوب‏,‏ وكم هي كثيرة عديدة ومفيدة‏!‏
لكن تصادم المصالح والأهداف السياسية والاستراتيجية العامة‏,‏ بين مجموعات الدول والشعوب والنظم‏,‏ التي تمثل هذه الأديان‏,‏ أدت وتؤدي الي بعض مانعرفه عبر التاريخ‏,‏ ومانراه اليوم ونعايشه من صدامات ساخنة‏,‏ وصلت إلي حد الحروب الدامية‏,‏ بكل ما تحمله من آثار وخيمة ومرارات تكمن في النفوس‏,‏ فتحفر العداء وتثير كثيرا من عوامل الكراهية المتبادلة‏,‏ من الحروب الصليبية في العصور الوسيطة‏,‏ إلي حروب فلسطين وأفغانستان والعراق في العصور الحديثة‏..‏
وها نحن نعيش اليوم مرحلة عصيبة من هذا الصدام المدوي بين هاتين الحضارتين المهمتين‏,‏ تبلورت بسرعة شديدة في العقول والقلوب‏,‏ مثلما انعكست علي السلوك والممارسات والعلاقات المتوترة‏..‏
‏**‏ في الفكر والوجدان‏,‏ نمت في أركان الحضارة الغربية علي شاطئ المحيط الأطلسي شرقا وغربا‏,‏ دعوات معادية للإسلام متطرفة ضد العروبة‏,‏ دينا وقومية‏,‏ تستمد من صدامات القرون الماضية بعض ملامحها التاريخية‏,‏ المعبأة بالعداء ـ الصدام المرير‏,‏ وتستند علي اختلاف الأهداف السياسية العسكرية والمصالح الاقتصادية التجارية الراهنة‏,‏ بين دول وشعوب ارتقي الغربي منها وتقدم‏,‏ وانحدر الشرقي منها وتأخر‏,‏ فسادت الأولي وحكمت واستحكمت علي حساب الثانية‏.‏
ولقد لخص مفكر أمريكي معروف هو صامويل هاتنجتون الاستاذ بجامعة هارفارد الأمريكية العريقة‏,‏ المسألة كلها بنظريته المعروفة صدام الحضارات التي أطلقها في بدايات تسعينات القرن العشرين‏,‏ وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وزوال شبح العدو الرئيسي للغرب الرأسمالي الليبرالي‏,‏ ألا وهو الشيوعية‏,‏ فإذا به يبحث عن عدو‏,‏ بل أعداء جدد للحضارة الغربية المسيحية اليهودية وحصرهم في سبع أو تسع حضارات قديمة‏,‏ كان أهمها الحضارة العربية الإسلامية بمكونها المسيحي الشرقي‏.‏
ولقد أذكت نظريته هذه القائمة علي أفكار سابقة لمفكرين ومستشرقين عديدين‏,‏ في مقدمتهم برنارد لويس صاحب الدراسات الكثيرة والخبيثة عن الاسلام والمسلمين‏,‏ أذكت أفكار العداء وقيم الاحتقار‏,‏ وضرورات الخوف والحذر الغربي‏,‏ تجاه العالم العربي الإسلامي‏,‏ الذي ساعد هو الآخر‏,‏ بفضل ممارسات بعض أبنائه الخاطئة ـ فكرا وسلوكا ـ تطرفا وغلوا ـ في تكريس هذا الحذر وتلك الكراهية‏,‏ التي صارت متبادلة للأسف‏!‏
‏**‏ أما في الممارسات والسلوك‏,‏ فقد فجر الهجوم الانتحاري الإرهابي الذي قامت به مجموعة عربية إسلامية متطرفة علي نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر‏,‏ موجة العداء الغربي ودفعته للانتقام والثأر الساحق الماحق‏,‏ الذي صاحبته ولاحقته دعوات تحريضية علي أعلي مستوي‏,‏ من عينة ماقاله الرئيس الأمريكي بوش عن الحرب الصليبية‏,‏ وما قاله رئيس وزراء ايطاليا بيرلسكوني عن تطرف الاسلام وانحطاط المسلمين‏,‏ فضلا عن مئات من المقالات الصحفية والتصريحات السياسية والدراسات البحثية‏!‏
علي أن ذلك كله عبر عن نفسه ـ عمليا ـ من خلال حربين شرستين‏,‏ قادت الحرب الأولي‏,‏ الولايات المتحدة الأمريكية ضد نظام طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان‏,‏ وقادت الثانية‏,‏ إسرائيل ضد السلطة الوطنية والشعب الفلسطيني‏,‏ ضمن موجات تصعيد العداء‏,‏ وأمام انكسار واضح للمسلمين عموما والعرب خصوصا‏,‏ وانتظارا لامتداد الحرب إلي دول عربية وإسلامية أخري متهمة بمساعدة الإرهاب‏,‏ مثل العراق والصومال واليمن وسوريا ولبنان‏,‏ فضلا عن منظمات المقاومة الفلسطينية‏,‏ الواقعة بقسوة بين الضغط الأمريكي والعدوان الإسرائيلي‏..‏ والتخاذل العربي‏!‏
‏***‏
في هذا التوقيت الضاغط‏,‏ وتحت وطأة الضرب وقسوة القصف الغربي نشطت في عالمنا العربي الإسلامي‏,‏ دعوات الحوار مع الغرب الهائج‏,‏ ورغم إيماننا بأهمية مثل هذا الحوار وضروراته الآن وفي كل آن‏,‏ استشرافا للتفاهم والتعاون والتعايش المشترك‏,‏ فإننا نعتقد أنه سيكون الآن حوارا غير متكافئ ولا متوازن‏,‏ هو حوار بين القوي والضعيف‏,‏ بين المنتصر والمنكسر‏,‏ تباعد بين طرفيه اختلالات سياسية وفكرية اقتصادية وعسكرية‏,‏ تعكس خللا صريحا في موازين القوي‏,‏ وتأملوا الفرق العملي بين قوة أمريكا وقوة أفغانستان‏,‏ ثم بين قوة إسرائيل وقوة الفلسطينيين‏,‏ لتدركوا مايمكن أن ينتج عنه الحوار‏,‏ ولن يكون بالطبع أفضل مما تنتج عنه الحرب في هذه الظروف‏.‏
وليست هذه دعوة منا إلي وقف الحوار وقطعه‏,‏ ولكنها دعوة إلي إدراك ظروفه وطبيعته وموازينه وقوانينه‏,‏ علي الأقل لمحاولة إصلاح حالنا المعوج‏..‏ ومن أهم طبائع الإدراك السليم ان نعرف أن اطراف الحوار تعصف بها في الوقت الراهن ثلاث أصوليات متصادمة‏,‏ هي الأصولية اليهودية الصهيونية‏,‏ والأصولية المسيحية البروتستانتية الأمريكية تحديدا‏,‏ ثم الأصولية الإسلامية التي عبرت عن نفسها في شكل دعوات ومنظمات متشددة تورط بعضها في القتل والإرهاب والتكفير‏.‏
وأن نعرف أيضا أن أبرز مظاهر صدام هذه الأصوليات الناشئة من الأديان السماوية الثلاثة‏,‏ تقع الآن علي الساحة الأمريكية‏,‏ حيث النزال والتنافس والصدام المدوي‏,‏ وتعبر عن نفسها بالفكر والدعوة تارة‏,‏ وبالعراك الساخن تارة أخري‏,‏ تتقاطع فيها التحالفات‏,‏ وهي تحديدا تتجسد في تحالف بروتستانتي يهودي‏,‏ أصبح يعرف بالمسيحية اليهودية‏,‏ مقابل تحالف اسلامي أقل شأنا‏!!‏
وهي ترتكز علي عمق اجتماعي بشري قوامه‏63%‏ من الأمريكيين بروتستانت‏,‏ وستة ملايين من اليهود‏,‏ مقابل ستة أو سبعة ملايين من العرب والمسلمين الأمريكيين‏,‏ وهي أيضا تحالفات متصادمة تثير نشاطا بحثيا فكريا وعملا تنظيميا اجتماعيا‏,‏ حيث تعمل‏110‏ مراكز لدراسة وتوثيق العلاقات اليهودية المسيحية في أمريكا‏,‏ مقابل مركزين بحثيين فقط للعلاقات المسيحية الإسلامية‏...‏ وهذا أحد أبرز الفروق الشاسعة‏!!‏
والواقع أننا ونحن نطلب الحوار والتفاهم والتعايش المشترك‏,‏ نعاني ثلاثة أنواع من المواقف المختلفة‏,‏ بل المتعارضة‏,‏ وهي علي التوالي‏.‏
‏**‏ أولا‏..‏ مواقف متباعدة بشأن جدوي الحوار الآن‏..‏ فالجانب العربي الإسلامي يطلب الحوار فورا وينشط من أجله في ظل انكساره وشبح هزائمه‏,‏ بل في ظل الهجوم والقصف الغربي‏,‏ بمدفعية الفكر والدعوة التحريضية‏,‏ وتحت دوي المدافع والصواريخ الحارقة‏,‏ وهو يطلبه ـ فورا ـ ربما توقيا لتصعيد اخطر في هذه الحرب غير المتكافئة فكريا وسياسيا وعسكريا‏,‏ ورغبة في حصر الخسائر في أضيق الحدود‏.‏
أما الجانب الغربي‏,‏ فهو لا يعير الدعوة العربية الاسلامية للحوار الآن أدني اهتمام‏,‏ لأنه وهو في أعلي موجات الصعود والتقدم والانتصار الكاسح ـ المادي والمعنوي ـ يري أن لا ضرورة ملحة له‏,‏ فلماذا يتحاور ومع من؟‏,‏ هل مع الإرهابيين‏,‏ بعد أن عمم تهمة الإرهاب لتطول العربي والمسلمين عموما بل لتطول الدين الإسلامي ذاته؟‏!‏
‏***‏
‏**‏ ثانيا‏...‏ مواقف متعارضة‏,‏ حيث يهدف العرب والمسلمون من وراء الحوار المنشود‏,‏ إلي إعادة تعريف الغرب بقيم الإسلام ومبادئه وقواعده‏,‏ الداعية للتسامح والتعايش وفق المبدأ الذهبي لكم دينكم ولي دين وجادلهم بالتي هي أحسن‏,‏ وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم‏,‏ وإلهنا وإلهكم واحد‏..‏ صدق الله العظيم‏.‏
لكن الغرب المسيحي اليهودي‏,‏ في ظل صعوده وثورته وتحت تأثير الدعوات التحريضية ضد الإسلام‏,‏ يجاهر بجرأة يحسد أو لا يسحد عليها‏,‏ بإعادة تعريف الإسلام وتطويره‏,‏ بل وتعديله جذريا‏,‏ لينتقل من دين العنف والتطرف والتشدد ـ المنتج للإرهاب ـ إلي صورة حديثة تتماشي مع قيم وأفكار الغرب وعقائده‏,‏ حتي يتمكن من التعايش مع العالم الديمقراطي الحديث‏!!‏ هكذا‏...‏
‏*‏ ثالثا‏...‏ هنا تأتي المواقف المتناقضة بين أطراف الحوار المطلوب‏,‏ وقد لعبت اليهودية السياسية المتعصبة الصهيونية الحديثة‏,‏ أخطر الأدوار في الإيقاع بين الإسلام والمسيحية عبر طريقين‏.‏
أولا ـ من خلال التسلل القديم لبعض الأفكار والعقائد والكنائس البروتستانتينية‏,‏ سواء في أوروبا قديما منذ نشأة الدعوة اللوثرية ـ أساس البروتستانتية ـ أو في أمريكا حديثا كما نشاهد تأثيرها علي بعض الكنائس البروتستانتية الأمريكية‏.‏
وثانيا ـ من خلال تنشيط دس مايعرف بالإسرائيليات‏,‏ تلك الأفكار والشروحات المشوهة لتعاليم ومبادئ الإسلام‏,‏ وبثها في عقول عديد من المستشرقين ودارسي الإسلام في الغرب الأوروبي الأمريكي‏,‏ قديما وحديثا‏,‏ الأمر الذي رسم في العقل والوجدان الغربي صورة عن الإسلام والمسلمين مناقضة أو محرفة للحقيقة‏.‏
وفي المقابل‏,‏ تكاسل العرب وتخاذل المسلمون ـ كالعادة ـ عن مقاومة هذا الدس وتعرية وكشف الوقيعة‏,‏ وتنقية الدعوة الإسلامية من الإسرائيليات المدسوسة‏,‏ اكتفاء بالقول إن للبيت ربا يحميه‏,‏ لكن الرب الذي يحمي‏,‏ نهانا عن الكسل وأرشدنا إلي العمل‏...‏ فمن يتعظ‏!!!‏
هكذا‏...‏ حين أفقنا علي دوي القنابل وضجيج القصف ودمار الصواريخ ـ السياسية والفكرية‏,‏ والعسكرية ـ كانت الصهيونية المسيحية‏,‏ قد نجحت بعد جهد سنوات وعقود‏,‏ في استقطاب الغرب وتجنيده‏,‏ وفي تشويه صورتنا وتلويث مواقفنا ومبادئنا‏,‏ فإذا الإسلام ـ ولا المسلمون ـ هو المتهم بالارهاب‏,‏ وحين تم تثبيت التهمة بدأ القصف من الغرب بكل قسوة‏,‏ ونشط الحوار ـ أو طلب الحوار ـ من ناحيتنا بكل الحاح‏,‏ بينما خيوط التفاهم مرتبكة‏,‏ وخطوط التواصل مقطوعة‏,‏ لأن الأصولية اليهودية ـ الصهيونية ـ لعبت لعبتها في غيبة عن الجميع بما فيها الأصوليات الإسلامية والمسيحية‏,‏ والأصولية هنا بمعني التطرف والتعصب والتشدد‏,‏ وليس بمعناها الحرفي السليم وهو العودة للأصول القديمة‏!!‏
هكذا أفقنا فوجدنا أنفسنا منحشرين في مأزق عميق ومعقد‏,‏ وهو ليس مجرد مأزق سياسي أو فكري‏,‏ لكنه للأسف مأزق ديني أيضا‏,‏ إن كان الطرف المعادي قد لعب ـ بالدس المشهود ـ دورا فيه‏,‏ فقد لعبنا نحن ـ بالتخاذل المعهود ـ أدوارا وأدوارا‏.‏
وفي لحظة الإفاقة علي وقع الانكسار‏,‏ طلبنا الحوار‏,‏ لكنه للأسف حوار بلا شطآن‏,‏ لأن الشاطئ الآخر المقابل‏,‏ منشغل عنا باهتماماته وأولوياته وانتصاراته‏...‏ ولذلك فإن الأمر يتطلب جهدا أكبر وواقعية أكثر‏,‏ حتي نحقق الهدف الأسمي‏,‏ وهو التعاون والتفاهم والتعايش المشترك وفق قاعدة التوازن والتكافؤ‏,‏ لا وفق قاعدة الاستجداء‏!‏
‏***‏
‏**‏ خير الكلام‏:‏ يقول المتنبي‏:‏
المجد عوفي إن عوفيت‏,‏ والكرم
وزال منك إلي أعدائك الألم (الأهرام المصرية)