ولدت مؤسسة الدولة الحديثة في سياق التطور السياسي الاوروبي الغربي خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر. وقد اصبحت هذه المؤسسة انموذجا يحتذي في العالم بعد ذلك، اولا بفعل الانتشار الامبريالي الاوروبي عبر العالم، وثانيا بفعل مشاريع التحديث الوطنية التي قادها رجال الدولة في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية. ولكن القوة الدافعة الرئيسية وراء الدولة في نسختها الاوروبية الي انموذج عالمي كان بلا شك الخلل الهائل في ميزان القوي لصالح المجموعة الاوروـ امريكية التي تسيطر علي مقاليد القوة، الاقتصاد، الثقافة، وتقدم رؤاها للاجتماع والسياسة باعتبارها ذروة تقدم التاريخ الانساني كله.
وقد ظل الحوار الغربي حول الدولة وعلاقتها بالمجتمع محصورا في تصورين او احتمالين رئيسيين. يتعلق الاحتمال الاول بدولة قوية ومجتمع ضعيف، والثاني بمجتمع قوي ودولة ضعيفة. يعكس الاحتمال الاول حالة متفاوتة المستويات من دولة متغولة تحتكر وسائل العنف والقوة، سواء العسكرية والامنية منها او الاقتصادية والثقافية، يقابلها مجتمع مفكك وخاضع، او مجتمع مخضع، مجرد من عناصر المقاومة والمناعة ضد السيطرة، كما يفتقد الحياة المدنية ومؤسساتها القادرة علي كبح جماح الدولة وادواتها. في ظل هذا الوضع تتكرس سيطرة الدولة ليس فقط من خلال القمع والعنف بل ايضا من خلال توظيف ادوات السيطرة لتوليد خطاب يسوغ هذه السيطرة ويعيد انتاجها، خطاب تحمله القوانين والتشريعات ويحمله المنتج الثقافي والفني والتعليمي والسياسي.
اما الاحتمال الثاني، فيجسد حالة من الدولة الهامشية التي لا تحمل من سمات الدولة الحديثة الا الاسم، دولة تفتقد الي وسائل العنف والقوة من جيش وادوات امنية وذلك اما لخصوصيات تتعلق بولادة هذه الدولة، او نظرا لواقع اقليمي او دولي. يفترض في هذه الحالة ان يكون المجتمع قادرا علي تسيير شؤونه بدون حاجة لمؤسسة الدولة، وان تكون حدود البلاد وسيادتها مكفولة ليس بقدرة الدولة علي تأمين الحدود وحماية السيادة بل بفعل معادلات اقليمية ودولية ما او اللجوء لخيار الحياد.
الواضح بالطبع، علي الاقل في تجربة العالم السياسية خلال نصف القرن الأخير، ان الحالة الاولي، حالة الدولة القوية والمجتمع الضعيف، هي السائدة، بل هي الاصل لتصور الدولة الحديثة وتجسدها. علي ان العالم يشهد تفاوتا وتنوعا في مستويات ووسائل الدولة وسيطرتها. ثمة مجموعة من الامم التي تشكل نادي الاقوياء في العالم تعيش مستوي عاليا ومميزاً من الرفاه توفره علاقات السيطرة والتبعية علي مستوي العالم ككل. ومثل هذه الدول لا تواجه تحديات ملموسة تمس كيانها وبقاءها. بالنسبة لهذه المجموعة، تستمر عملية سيطرة الدولة في مناخ هاديء ورتيب، بعيد عن التدافع الداخلي الحاد، الاجراءات الاستثنائية او الحاجة لتأمين السيطرة عبر تحكم مباشر وفج في ادوات القوة وانتاج الخطاب. اما بالنسبة للامم التي تعيش حالة من عدم الاستقرار الداخلي او التهديد الخارجي، مهما كانت نوعية هذا التهديد وعدم الاستقرار، فان سيطرة الدولة هي عملية سافرة، تأخذ في احيان كثيرة طابعا حادا وتتجلي في اللجوء الي فرض مناخ من الخوف والي نشر وسائل القوة والعنف علي نطاق واسع. وتقع معظم انحاء العالم الاخري في محطات وسطي بين هاتين الحالتين لانموذج الدولة المسيطرة. التصور الثاني للدولة، حيث مجتمع قوي ودولة هامشية او دولة بلا اسنان ولا اظافر، فهو تصور نظري في الاغلب، وان وجد فعلا فان وجوده يرتبط بحالة استثنائية، حيث تنهار بنية الدولة وتتفكك بفعل الحروب الاهلية او المجاعات الطاحنة، او كلتيهما معا. بل ان الامم الاوروبية المحايدة تقليديا، مثل ايرلندا وسويسرا والنمسا، تمتعت دائما بمؤسسات دولة قوية وفعالة.
كل الدول العربية الحديثة هي دول مركزية بالغة القوة والسيطرة، بغض النظر عن توجهها الايديولوجي او السياسي او تحالفاتها الدولية. وقد روج المثقفون العرب المحدثون خلال مرحلة ما قبل الاستقلال والعقود القليلة التالية لرحيل الاستعمار الاجنبي لفكرة الدولة القوية وقدموا مؤسسة الدولة في صورة بالغة الايجابية. من عصبة العمل القومي وطلائع البعث الاولي الي الخطاب الناصري واليساري في الستينات والسبعينات، كان المثقف العربي صوت وعقل وقلم الدولة العربيــــة الحديثة وهي تصعد وتنتشر وتسيطر وتلتهم قوي المجتمع ومستودعات قوته التاريخية الواحدة بعد الاخري. بل حتي حين اغلقت الدولة ابواب السجون والمعتقلات علي عشرات الالوف، واخذت تعلق معارضيها علي اعواد المشانق وتعبث في القانون وقيم العدل، تورط العديد من المثقفين العرب المحدثين في تسويغ جرائم الدولة او اداروا رؤوسهم كأنهم لا يرون. بشكل من الاشكال، اعمت اليوتوبيا الايديولوجية المثقف العربي الجديد وسيطر عليه حلم انطلاق اداة الدولة لتحقيقها.
في حالات ضئيلة تراجع دور الدولة العربية، وذلك عندما اطاحت الحروب الاهلية في اليمن ولبنان والصومال خلال العقود القليلة الماضية مؤسسة الدولة وحدت من فعالية ادوات السيطرة والعنف لديها. ولكن ضعف الدولة المفاجيء فتح الباب واسعا لتدخلات اجنبية متفاوتة وعرض البلاد للاستباحة.
وقد شهدت المنطقة العربية تطورا نوعيا في الحوار حول الدولة ودورها في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، اطلقته التحولات الهائلة في الوضع العالمي وانهيار الكتلة الشيوعية وتراجع اليسار الماركسي. ولفترة قصيرة ارتفع صوت العديد من المثقفين العرب اليساريين السابقين في دعوة الي احياء الحياة المدنية وتنشيط قوي المجتمع المدني، مبدين في الان نفسه شكوكا عميقة في جدوي دولة السيطرة العربية. تحول المثقف اليساري السابق في ليلة وضحاها الي داعية عالي النبرة للديمقراطية وحقوق الانسان وحرية السوق. ولكن حتي في طوره الجديد، لم يكن المثقف العربي مبدعا ولا اصيلا بل مجرد صدي للخطاب الغربي السائد، وقد حفل خطابه الجديد بجهل فادح بتاريخ الدولة الحديثة وسماتها التكوينية، غربية كانت او عربية، ليبرالية كانت او شيوعية.
بيد ان هذا التوجه لم يستمر طويلا بعد ان اصبح واضحا خلال عقد التسعينات ان الانفتاح السياسي والثقافي العربي وتخفيف حدة سيطرة الدولة يعني بالضرورة انتعاشا للقوي الاسلامية. وبالرغم من التحرك النشط للقوي اليسارية والليبرالية في مجال ما يسمي بمؤسسات المجتمع المدني الجديدة وتعزيز الروابط بينها وبين عواصم التأثير والضغط الغربية، فقد بدا سريعا ان هذه المؤسسات معزولة عن القطاعات الشعبية وانها نخبوية الطابع وعاجزة عن اقامة روابط وثيقة بينها وبين اهل بلادها. لا شيء بدا قادرا علي اطاحة الاسلام السياسي عن كونه الاطار الرئيسي والاهم للتعبير والمعارضة السياسية، ولا ازاحة الاسلام عن كونه المرجع لخطاب المجتمع، كيفما تم تفسير الاسلام او اعادة تفسيره.
في مواجهة هذا الوضع، اختار قطاع من المثقفين العرب الوقوف في مواجهة اغلبية الناس، بمعني الوقوف الي جانب قمع الدولة وعنف اجهزتها في محاولة لتقويض مواقع الاسلام السياسي. كانت هذه هي معركة التسعينات الكبري التي ادت الي حالة من الاستقطاب الفكري والسياسي في الساحة العربية والي انفجار العنف محليا واقليميا، ومن ثم عالميا.
ولكن هذه المعركة لم تدم طويلا، اذ سرعان ما انتصرت الدولة علي قوي العنف الداخلي واخذت حاسة البقاء لديهـا في العمل من جديد لاعادة حالة من التوازن بينها وبين المجتمع. في حين كانت معركة المثقف العلماني مع الاسلام ذاته، اما معركة الدولة فكانت مع القوي التي هددت وجودها.
بالنسبة للمثقف العلماني، كانت المعركة ضد الاسلام ترتبط ارتباطا وثيقا بالسلام مع الكيان الصهيوني والحاق المنطقة ككل بالمنظومة الغربية الثقافية والفكرية، ولكن الدولة المسكونة بحاسة البقاء تدرك مخاطر سلام يفتقد الي التوازن والحاق يقوض ما تبقي من الاستقلال. وقد كان العام الماضي حاسما في تحديد العلاقة بين الدولة العربية الحديثة والمثقف العربي العلماني، اولا لانه كان عام انتفاضة فلسطينية عارمة عكست حالة اليأس العربي الجماهيري والرسمي علي السواء من عملية السلام والانحياز الغربي السافر للدولة العبرية. وثانيا لأنه العام الذي شهد احداث ايلول (سبتمبر) التي مثلت ذروة العنف الاسلامي ثم الحرب الامريكية علي افغانستان التي استهدفت تغيير نظام حكم من جذوره وليس فقط مكافحة الارهاب.
هنا كشف المثقف العربي العلماني عن جلده، انسحب من تحالفه مع الدولة العربية مدينا ضمنيا ترددها في شن حرب نهائية وقاطعة ضد الاسلام واعلان استسلامها للحداثة العبرية، واعلن انحيازه الكامل لسياسة التدخل الامريكي الفعال في شؤون كل شعوب العالم، والشعوب الاسلامية بشكل خاص. في آخر محطات تحوله منذ ارتباطه الايديولوجي الاعمي بموسكو السوفييتية او الدولة الشمولية العربية، اصبح المثقف العربي موظف دعاية متبرعا لدي وزارة الدفـــاع الامريكية.
ان لم تكن الدولة العربية الحديثة راغبة في او قادرة علي اقتلاع الاسلام من جذوره في المجتمع العربي، فلتقم بذلك القوة الامريكية السافرة. خلال عقد واحد من الزمان، لم يعد الحوار يدور حول دولة قوية او هشة، مجتمع نشط او ضعيف، بل حول حق الولايات المتحدة في التدخل المباشر لتدمير قيم وثقافات ووجهات نظر واستبدالها بقيم وثقافة ووجهة نظر. المسألة باختصار تتعلق الان باخضاع الدولة والمجتمع معا للارادة الامريكية الشمولية، ان لم ينجح هذا المشروع فهل يمكن لاحد ان يتوقع التحول المقبل في اوديسة المثقف العربي العلماني المؤلمة نحو الخلاص؟(القدس العربي اللندنية)