ترتبط الملاحظة الاولى بالوزارة ذاتها، والثانية بتركيب السلطة ومفهوم الحكومة في عالم القطب الواحد.
اما الملاحظة الاولى فيمليها إجماع الصحافة، السورية واللبنانية، على ان وزارة الدكتور ميرو لم تقم بما كان منتظراً منها كأول وزارة كلفت رسمياً بإصلاح الاحوال في سوريا ما بعد .1970 من هذا الاجماع ما كتبه الاستاذ زياد حيدر، مراسل جريدة "السفير" في دمشق، يوم 18 من الشهر الجاري، ويدور حول "انتقادات كثيرة وجهت الى الحكومة الحالية بالبطء، وعدم تنفيذ القوانين، وعدم انسجام عملها، او حتى عدم تطبيق الاتفاقات الموقعة بين سوريا والدول العربية". وما نسبه الى مصادر ديبلوماسية غربية عبرت عن "الدهشة من الفرق بين الاهداف المعلنة للحكومة السورية وما تحقق حتى الآن"، وما عزاه الى نائب طلب عدم ذكر اسمه حول استقالة الحكومة التي جاءت "نتيجة عجزها عن إنعاش الاقتصاد وجذب الاستثمارات الخاصة وتحريك النمو، وعملها بسرعات متعددة"، في اشارة الى تولي وزراء مناصبهم لأكثر من خمسة عشر عاماً، بينهم وزير المال محمد خالد المهايني ووزير الاقتصاد محمد العمادي.
ثمة مسألة مهمة يطرحها "فشل" وزارة ميرو في تنفيذ ما كلفت به، تتعلق بخيارات البيروقراطية السورية التي "فشلت" تدابير سابقة في اصلاحها، منها "لجنة المحاسبة"، التي شكلها الرئيس الراحل حافظ الاسد عام ،1978 وأوكل اليها مساءلة المسؤولين وذويهم عن مصادر ممتلكاتهم وثرواتهم، ومحاربة الفساد الذي كان بدأ يستشري آنذاك في اوساطهم، وأعلن في خطاب متلفز عزوفه كصاحب خيارات اشتراكية عن امتلاك اي شيء، وتخليه عن مسكنه الخاص، وعن قطعة ارض كان ورثها في قريته، للدولة، وأفصح عن رغبته في ان يحذو رفاق الحزب والدولة حذوه.
لم تسر البيروقراطية السورية في الطريق الذي أراد الرئيس الراحل ان تأخذ به، بل عاودت نهب الدولة والمجتمع، بعد تجميد نشاط "لجنة المحاسبة" الذي استغرق فترة قصيرة. فلماذا فعلت ما فعلت، رغم النتائج الوخيمة التي نجمت عنه ويمكن ان تنجم بالنسبة الى العباد والبلاد؟ يوجد من يعتقد ان البيروقراطية ليست غير اداة تنفيذية محايدة، تطبق اية قوانين تأتيها من فوق، بغض النظر عن موقفها منها، لارتباطها بالفئة المقررة، وافتقارها الى مصالح خاصة بها، ومنظورات موحدة، وارادة في السيطرة.
هذا الكلام ينطبق، الى حد بعيد، على المجتمعات الغربية، حيث الدولة فوق السلطة ومنفصلة عنها، والمجتمع المدني مستقل نسبياً عنهما، والسلطتان القضائية والتشريعية تراقبان السلطة التنفيذية، والنظام التمثيلي انتخابي يقوم على مساءلة الجميع ومحاسبتهم، حاكمين ومحكومين، أينما كانت صلاحياتهم ومواقعهم البيروقراطية، في هذا النموذج من التنظيم السياسي/ الاجتماعي، وسط محايد وأداة تنفيذ.
اما عندنا، فللبيروقراطية خياراتها ومصالحا ومنظوراتها، ولا مواقف تتماهى مع مواقف سلطة وخياراتها. هي نواتها الصلبة وجزء مهم من فئتها القيادية المبثوثة في كافة مراكز الدولة. لذلك نجدها تقاوم الاصلاح، إن لم تجد مصلحة لها فيه. كأن يبدل توازنات الامر القائم، او يفرض عليها خيارات في غير وقتها. او يُدخل الى ساحة العمل العام قوى جديدة، مجتمعية وسياسية، او يغير الاجواء العامة، التي تتيح لها الاستئثار بالقوة والمعرفة والثروة... الخ. فهل يمكن في اوضاع كهذه فصل عمل الحكومات والوزارات عن مصالح البيروقراطية وخياراتها؟ وهل يكون فشل الاصلاح المتكرر مجرد تقصير يسم عمل حكومة هنا ووزارة هناك؟ وهل يمكن إنجاح اي اصلاح دون تبدل عميق في دور البيروقراطية وموقعها السياسي والاجتماعي، ودورها في الاقتصاد والاعلام... الخ؟ وهل صحيح ان فشل حكومة ميرو يرجع الى تقادم وزرائها وتباين سرعاتهم، اذا كان الجميع يقرون بـ"إلمامه بالتعقيدات الادارية، وبقدرته على حلحلتها"، على حد قول "السفير".
تنصبّ الملاحظة الثانية على تركيب السلطة ومفهوم الحكومة في عالم القطب الواحد، عندنا وعند من هم مثلنا. نشأ نمط السلطة الراهن في عالم ثنائي القطب، لعب انقاسمه معسكرين متصارعين يملكان توازناً دقيقاً دوراً كبيراً في تحديد اشكال النظم في مختلف البلدان وفي تعيين آليات عملها، وكان، في حالات كثيرة، مصدر شرعيتها، وقوتها وضعفها. وبسبب التوازنات المعقدة في العالم المنقسم قوتين متنافيتين، نشأت الحاجة الى يد قوية تمسك بالقرار، ويتمحور حولها عدد محدود من المساعدين، وتمتلك قدراً كاسحاً من القوة والتأييد، يمكّنها من فرض خياراتها على جميع مستويات السلطة والمجتمع وتكويناتهما. وفي وضع متشابك خارجياً وداخلياً، وعلى هذا القدر من الحساسية، تشكل نمط من تقسيم العمل الحكومي، استند الى تراتب منح بعض الوزراء سلطة وصلاحيات خاصة، باعتبارهم أقرب من سواهم الى مركز القرار، بل ينتمون اليه. وقد سمي هؤلاء وزراء سيادة، وهم وزراء الدفاع والخارجية والاعلام والداخلية، الذين يؤدون ادواراً إن تكاملت بفاعلية كفلت استقرار النظام، وأمدته بالقدرة على المناورة في عالم يحكمه جبابرة كبار.
هذه الصورة تغيرت بسقوط أحد طرفي الصرع، فلم يعد بقاء النظام رهناً بإتقان قيادته لعبة التوازن بين قوتين متنافيتين، وإنما غدت امراً من اثنين، هما: الحفاظ على استقلال البلد وحريته بقواه وإمكاناته الذاتية، وهذا امر يتطلب نمطاً من السلطة والحكم له اولويات سياسية واقتصادية واجتماعية تختلف عن النمط القائم واولوياته، او الالتحاق بالعالم المتقدم، عبر الشراكة الاوروبية، او "الغات"، او منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والشركات المتعدية الجنسية... الخ، الامر الذي يتطلب بدوره التخلي عن نمط السلطة الراهن، وإحلال نمط جديد مكانه يعيد البلد الى التبعية ويأخذه اليها.
لصون استقلالنا وحريتنا ولعب دور يخدم مصالحنا في عالم القطب الواحد، عالم الدول التي تغيرت طبائعها وادوارها، وارتبطت قدراتها العسكرية والسياسية بحسن سير اقتصادها وحرية مواطنها وعدالة نظامها، من الضروري ان نسارع الى اعادة تنظيم السلطة وإصلاحها، والى اعادة النظر في عمل الحكومة ووزاراتها، لنتمكن من مواجهة مخاطر مهلكة، وننجح في تقوية الدولة في الخارج والداخل، ونعيد تعريف موقعها من المجتمع ووظائفها. عندئذ، ستكون وزارات التربية والتعليم العالي والعدل، التي تربي المواطن بروح الحرية والمعرفة والعدالة والمسؤولية، أهم الوزارات، تليها تلك الوزارات التي تنمي الثروة الوطنية، انطلاقاً من موهبة المواطن وحريته وعمله، كوزارات الزراعة والري والصناعة والاقتصاد، والتي سيتوقف استقلال الدولة وتقدمها على حسن ادائها ونجاح اعمالها. بقول آخر: لن تكون وزارة الاعلام وزارة سيادة في وضع كهذا، لان سيادة البلد لن ترتبط بإجماع ايديولوجي مستحيل التحقيق، بل بتنوع الآراء وعفوية الاقتناع. ولن تكون وزارة الداخلية سيادية، لأن قوة النظام لن تتوقف على الترهيب، بل على خيارات المواطن الحر وولائه الطوعي. ولن يكون لوزارتي الخارجية والدفاع دورهما الراهن، لأن الدفاع عن الاستقلال سينتقل اساساً الى المجال الاقتصادي، ولأن وضع الدولة الخارجي سيصير أحد متحولات وضعها الداخلي، وليس العكس.
من الصعب رؤية الحكومة ووزاراتها في معزل عن هاتين النقطتين. ومن الصعب كذلك تحقيق إصلاح حقيقي دون الزام البيروقراطية بخيارات وسلوكات ومصالح جديدة، رسم رئيس الجمهورية في خطاب القسم بعضاً من حاضنتها السياسية، عندما تحدث عن حق المواطن في المشاركة والمسؤولية، وكرر امام الحكومة الجديدة ما قاله هناك، وإن بصياغة مختلفة، حين أعلن ان القانون فوق الجميع، وان محاربة الفساد في صعده وأوجهه وتوضعاته كافة مهمة دائمة. من الصـعب، ايضاً، تحـقيق اصلاح حقيقي دون اصلاح السلطة واقامة نمط جديد منها، هو دولة حق وقانون قوية، دولة مؤسسات، تصون حقوق المواطن وحريته، وتنتج نفسها من تحت، عبر مشاركة تستند الى توافقات وطنية ومجتمعية عامة، تحشد قدرات الــبلاد والعباد، في وجه تحديات داخلية وخارجـية غير مسـبوقة.
(دمشق)
&
كاتب سوري (النهار اللبنانية)