إذا كان صحيحاً أن تفاهماً جرى التوصل إليه بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإذا كانت صحيحة بنوده المنشورة، فليس في الأمر ما يسر.
يجب القول، بادئ ذي بدء، إن من الصعب جداً إقناع الفلسطينيين بأن دولة خاصة بهم ليست تطوراً إيجابياً. فهذا الشعب ناضل كثيراً، وضحى كثيراً من أجل أن يصبح شعباً عادياً، أي شعباً له دولة ترعى حقوقه وتدافع عنه في <<منافيه>> الصعبة حتى لو كانت عربية.
ومع ذلك لا بد من القول إن الصيغة التي يرتديها <<مكسب>> الدولة، حسب التفاهم، تثير قلقاً مشروعاً سواء عند المعنيين بها مباشرة أو عند المعنيين بهم فعلاً.
إذا جاز تلخيص ما توافق عليه شمعون بيريز وأحمد قريع فإن الحصيلة تكون التالية: تطبيق خطة تينيت وتوصيات ميتشل أولاً ثم الانتقال إلى اعتماد خطة... شارون.
أي إن البدء يكون بإجراءات أمنية وخطوات لبناء الثقة شبه متوازية، ليصار بعد ذلك إلى إعلان دولة فلسطينية، وتتولى الدولة الوليدة التفاوض مع إسرائيل على قضايا الوضع النهائي: اللاجئين، المستوطنات في الأراضي الفلسطينية، الأمن، المياه، والعلاقات مع الدول الأخرى.
يعني ذلك، عملياً، قيام دولة على حوالى 42 في المئة من الضفة والقطاع، مقطعة الأوصال، منزوعة السيادة، ومضطرة إلى أن تناقش مع إسرائيل قضايا من نوع قوات حفظ السلام والاقتصاد والدعم المالي للاقتصاد الفلسطيني والتعاون الإقليمي والاقتصادي والتحكيم... ويقود ذلك إلى إعطاء إسرائيل حق النقض حتى في مجال حساس من نوع التحكيم الضروري عند بروز خلاف.
لقد كان المفترض، حتى حسب أوسلو، أن تمر مرحلة انتقالية، ثم يجري التفاوض على قضايا الوضع النهائي، وتكون الخاتمة إعلان دولة. ومع أن بنوداً تفصيلية كثيرة في أوسلو لم تنفذ فإن التفاهم الجديد ينسف الهندسة السابقة كلها. ولعل أخطر ما فيه أنه يقدم فكرة الدولة على مطلب إنهاء الاحتلال، ولا يقيّد إسرائيل في شيء حتى لا تمضي، وهي تفاوض، في بناء أمر واقع يلغي النتائج المحتملة مسبقاً، ولا يحدد مرجعية واضحة إلا القرار 242 (والخلاف عليه معروف) دون سائر القرارات الدولية الأخرى.
إن القفز إلى <<الدولة>> دون المرور بإزالة الاحتلال عن أقل قليلاً من 60 في المئة من الضفة والقطاع سيؤدي إلى نتائج سياسية في غير مصلحة الفلسطينيين. سيبدو كأنهم نالوا حقوقهم السياسية (لا الوطنية) كلها وبات عليهم، عبر الإجراءات والتنازل الإقليمي، تأمين الأمن الإسرائيلي.
إن هذه الوجهة هي التي دافع عنها أرييل شارون باستمرار. وهي، هنا، مصوغة بلغة بيريز ولكنها لا تستبعد <<القطبة المخفية>> الشارونية التي هي كناية عن الدعوة إلى حل مؤقت مديد. فرئيس الوزراء الإسرائيلي لا يعارض <<فترة اختبار>> من عشرين سنة وهو يدرك أنها مهلة كافية من أجل مصادرة المطالب الوطنية الفلسطينية عملياً وجعلها شبه مستحيلة التحقق. ولعل مساهمة وزير خارجيته هي تحديد مهل زمنية أقصر لانتهاء التفاوض حول الوضع النهائي (24 شهراً حسب بيريز، 18 شهراً حسب أحمد قريع) غير أن هذه المساهمة لا تكلف نفسها عناء توضيح البديل إذا استمرت الخلافات.
ليس سراً أن الولايات المتحدة تدعم هذه الأفكار. وهي تؤيد الانتقال من الهدنة إلى الدولة حتى لو بقي الاحتلال. فما يهمها هو الهدوء أولاً، وإحياء مؤسسة التفاوض ثانياً، وتقديم هدية ملغومة إلى الشعوب العربية والإسلامية ثالثاً، وضمان المصالح الإسرائيلية على طول الخط. وربما وجدت هذه الاقتراحات هوى عربياً ما دام الوضع متهالكاً إلى حد بعيد، وأحداث ما بعد 11 أيلول زادته تهالكاً.
لقد علّمتنا تجربة عقد من المفاوضات أنه لا يجوز الركون إلى وثائق وتفاهمات واتفاقات مهما بدت <<مدعومة>>. غير أن ذلك لا يمنع من التنبيه إلى السلبيات الكثيرة في ما هو متداول حالياً.(السفير اللبنانية)