لم يكن توقيت الهجوم الذي نفذ ضد نيويورك وواشنطن مناسبا، ذلك أنه علي الرغم من عدم تأكدنا من الذين قاموا بالهجوم او دوافعهم، فإن نتائجه في نهاية الامر جاءت في صالح الرئيس الامريكي جورج بوش، ذلك ان الرئيس كان يعاني من بعض الصعوبات في بدء ولايته، أولها أنه كانت هناك شكوك تحيط بأحقيته في تولي الحكم بعد الاختلاف حول نتيجة الانتخابات، وثانيها شكوك حول قدراته السياسية في التعامل مع عالم معقد أشد التعقيد. ويبدو ان الفريق الذي اختير للعمل مع الرئيس وجد نفسه في حيرة في اختيار الاولويات التي تساعد علي اجتياز الرئيس مرحلة الاختبار الاولي، وانتهي الامر بهؤلاء الي اختيار اتجاهين، الاول تأكيد عدم انشغال الولايات المتحدة بالصراع في الشرق الاوسط وجعل القضية كلها تبدو وكأنها في ملعب الاطراف التي تتعامل فيها وهو ما يعطي اسرائيل ميزة التنكر لكل الانجازات التي تحققت في مراحل سابقة، والثاني إثارة موضوع الدرع الصاروخي والخروج من اتفاقية الصواريخ البالستية حتي يحدث من خلال ذلك جدل يظهر الرئيس وكأنه يتحكم في قضايا عالمية كبري تلعب فيها الولايات المتحدة دور الصدارة، ولكن فجأة جاءت الاعتداءات لتغير الاستراتيجية الامريكية بأكملهــــــا، ذلك ان الولايات المتحدة لم تستغرق اكثر من شهر لتحدد استراتيجية جديدة تستند علي فكرة محاربــــة الارهاب في العالم، ولم تكن هذه الاستراتيجية تحتاج الي كبير جهد لتسويقها، فقد كان يكفي ان تحدد الولايات المتحدة عدوا سريعا تتحرك نحوه ثم تجعل من تحركها عنوانا لسياسة كاملة تحقق من خلالها مصالحها علي المستوي الدولي.
وكانت الولايات المتحدة واثقة من نجاح هذه الاستراتيجية الجديدة من منظورين، الاول حضاري، فقد كانت الولايات المتحدة واثقة انه لا توجد دولة في العالم تعارض فكرة محاربة الارهاب من هذا المنظور، والثاني براغماتي إذ كانت بعض الدول تتحين الفرص لتحسين علاقتها مع الولايات المتحدة ولم يكن هناك افضل من ان تساند موقفها من اجل تحقيق هذا الهدف، وكانت الولايات المتحدة تعرف ان ذلك لن يكلفها شيئا، ذلك أنها كثيرا ما بذلت الوعود بتقديم المساعدات للدول ولكنها نادرا ما وفت، حدث ذلك مع روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي ويحدث الان مع باكستان التي وعدت بالمليارات ولم تتلق منها شيئا بل وجدت نفسها تواجه حربا ربما كلفتها المليارات، من ناحية اخري كانت هناك مجموعة من الدول ومنها دول في منطقة الشرق الاوسط تلح علي الدول الغربية بالتعاون معها لتسليم بعض من تعتبرهم ارهابيين سابقين ولكن الدول الغربية كانت تتمنع، وقد جاءت الفرصة مع إعلان حرب الارهاب كي تلبي الدول الغربية ما تريده منها تلك الدول وهو ما يحدث في نواح كثيرة في الوقت الحاضر.
ولم تكن الولايات المتحدة تحتاج الي كبير جهد للسير في هذا الطريق .وبالنسبة للعالم العربي فقد أعلن الرئيس بوش أنه لا يخوض حربا ضد الاسلام، بل وبالغ في مواقفه التي تظهر حياده في المسائل التي تتعلق بالاسلام، ومن ناحية أخري صدرت الاوامر لاسرائيل كي تخفف من غلوائها ضد الفلسطينيين، بل وتباري الزعماء الامريكيون في القول إن قيام الدولة الفلسطينية كان دائما جزءا من اهتمامهم، ولم يكن القادة العرب بحاجة الي اكثر من ذلك حتي يندفعوا بكل قواهم خلف الولايات المتحدة، ليس بالطبع لانهم كانوا يرجون الجائزة بعد الحرب بل لان تلك التصريحات كانت تعفيهم من الحرج أمام شعوبهم، وهكذا صدرت تصريحات ومواقف القيادة الفلسطينية التي أصبحت تتباري مع القادة العرب الاخرين في إصدار المواقف المهادنة والمستسلمة من العدو الاسرائيلي والولايات المتحدة.
وجاءت المفاجأة عندما ظهرت نتائج الحرب في أفغانستان وهي التي توقع لها الامريكيون ان تستمر سنوات، فقد صعدت اسرائيل علي إثر ذلك من اعتداءاتها علي الفلسطينيين وحاصرت مدنهم بل وفرضت الاقامة الجبرية علي الرئيس ياسر عرفات، واعلنت أنها توجه حملة مماثلة لحملة الولايات المتحدة ضد المنظمات الفدائية التي تعتبرها إرهابية، وفجأة غيرت الولايات المتحدة مواقفها وبدأت توجه اللوم للفلسطينيين وتدعو الرئيس ياسر عرفات الي بذل المزيد من الجهد من أجل توفير الحماية لاسرائيل، ولم يكن هناك من عائد علي الفلسطينيين سوي وعد باستئناف المفاوضات، مع أن أي تفكير عقلاني لا يتطلب أكثر من خروج اسرائيل من الاراضي الفلسطينية والسماح للفلسطينيين بإقامة دولتهم لتنتهي كل المشكلات.
ولم تواجه الدول العربية هذا الموقف الامريكي والاسرائيلي بأي درجة من الحزم، فقد فشل العرب في عقد مؤتمر لوزراء الخارجية العرب لمناقشة الامر وقرروا ان تكون اجتماعات الوزراء العرب علي هامش اجتماعات وزراء خارجية دول العالم الاسلامي، ولم يستطع هؤلاء ان يصدروا قرارات ذات قيمة، وكل ما فعلوه هو اصدار كلمات الشجب والتأييد والمعارضة وقالوا إن ذلك كل ما يستطيعون فعله، وعقدت الجامعة العربية مؤتمرا للمثقفين العرب كنوع من الترف السياسي لتظهر أنها في عهد امينها الجديد ستتجه الي المفكرين بعد أن فشلت في حشد جهود الوزراء، وكانت تلك خطوة من أجل العلاقات العامة ولا تعكس توجها حقيقيا، ثم جاء اجتماع وزراء الخارجية العرب لتتكرر التمثيلية، بعض الوزراء يعلنون مواقف متشددة يفشلون في تحقيقها ويوقعون في آخر الامر علي بيان الاغلبية بالدعم والشجب وتقديم المساعدة دون أن يتحقق شيء في عالم الواقع، لتثبت الجامعة العربية أنها مؤسسة غير ضرورية بل هي في الواقع مؤسسة تعمل ضد المصالح العربية لانها مخترقة من قبل العالم الغربي، كما أن وجود أمين عام جديد علي رأسها لا يعني شيئا لان الامين العام الذي هلل له العالم العربي هو الذي كان يقود السياسة المصرية تجاه اسرائيل علي مدي عشرة اعوام ولسنا بحاجة الي الخوض في تفاصيل ذلك.
وأخيرا جاءت عملية الاذلال التي تمارسها اسرائيل ضد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي تطالبه اسرائيل ببذل المزيد من أجل حماية امنها دون ان تقدم له شيئا غير المزيد من الارهاب ووعود بمستقبل غامض، وهو مستمر في تقديم التنازلات ومواجهة المناضلين من أبناء شعبه دون أن يرضي السلطات الاسرائيلية، التي وصلت الي حد منعه من حضور قداس أعياد الميلاد في بيت لحم، بل ومنعه من التحرك خارج رام الله دون أن يحرك ذلك ساكن الدول العربية، وكل الذي سمعناه منها نقد وجهه فاروق الشرع وزير خارجية سورية يطالب فيه عرفات بالمواجهة مع العدو وتلك مواقف تعودناها من سورية التي تتخذ مواقف في أقصي يسار الدول العربية حتي كأنها هي الدولة الوحيدة الواقفة علي خط النار مع أن الجولان محتلة منذ اربعة وثلاثين عاما دون أن تطلق سورية طلقة واحدة من أجل استردادها، وهكذا فقدت المواقف السورية المخالفة للإجماع العربي صدقيتها لانها لا تنطلق من مواقف مدعمة بغير ما تفعله الدول العربية الاخري. ولا تختلف مواقف العراق عن مواقف سورية فقد اتهم طارق عزيز الحكام العرب بأنهم جبناء دون أن يوضح ما الذي فعلته شجاعة مواقفه، ولا أحد يريد إجابة لان الكل يعرفون مغزي هذه المزايدات الكلامية التي اوصلت العرب الي هذه الحالة المأساوية التي فقدوا فيها صدقيتهم.
وليس العرب وحدهم الذين خرجوا خاسرين من حرب الارهاب، وانما باكستان ايضا التي قدمت أقوي دعم للولايات المتحدة في حربها ضد الارهاب والذي بدونه لم يكن في مقدور الولايات المتحدة أن تحقق ما حققته.ولم تلق من ذلك الا جزاء سنمار، فقد وعدت الولايات المتحدة انها ستقدم مليار دولار الي باكستان وستعفيها من ديونها ثم تقلص المبلغ الي ستمئة مليون ثم أصبح مئة مليون وأخيرا وجدت باكستان نفسها تواجه إحتمالات حرب تنحاز فيها الولايات المتحدة بشكل كامل الي الهند، ذلك أن الولايات المتحدة تدرك أن المبرر الوحيد لباكستان كي تصبح دولة مستقلة، هو أنها دولة اسلامية، وسواء كان اسلامها هو اسلام محمد علي جناح المعتدل أو اسلام بن لادن المتطرف، فإن ذلك هو ما يستدعي عدا ء الولايات المتحدة، ومساندتها للهند، وتبدو الخطورة واضحة في مسار باكستان التي تشكك الهند في أنها تمتلك السلاح النووي ويؤكد بعض علمائها ان التجارب التي أجرتها علي أسلحة نووية وصاروخية لم تكن الا علي سبيل الاستعارة من الصين بينما لا تملك باكستان حقا هذا السلاح، وسواء كان ما قالته الهند صحيحا أم غير صحيح فلا تتوقع باكستان دعما حقيقيا من الصين أو من روسيا لان هاتين الدولتين لا تتعاطفان مع الاسلام من جهة، وهما لا تريان في المشروع الباكستاني ما يخدم أهدافهما، وبالنسبة للصين بصفة خاصة فهي تري ان دعم باكستان للانفصاليين في حدودها الغربية هو سبب المتاعب الانفصالية في غرب الصين. وتبدو باكستان كما الدول العربية مكشوفة الظهر تخوض معارك فاشلة لن توصلها الي تحقيق اهدافها سواء كان ذلك في تأمين نظامها الاسلامي أو في تحقيق تفوقها علي دولة كالهند تؤكد كل الدلائل علي أنها تتفوق علي الصين في عدد الرؤوس النووية التي تملكها.
وإذا عدنا نقوم وضع الدول العربية وباكستان بعد حرب الارهاب، وجدنا انه علي الرغم من سيادة روح الانهزام والتراجع، فإن ذلك في الواقع لايتناقض مع توجهات نظم الحكم في المنطقة، ذلك أن ما حققته الولايات المتحدة في أفغانستان رفع الحرج عن معظم الدول العربية والاسلامية التي تري الاستمرار في سياساتها الاستسلامية تحت ذريعة أنها تواجه قوي دولة جبارة هي الولايات المتحدة، كما ان هذه الظروف الجديدة وفرت لمعظم هذه الدول الفرصة لضرب معارضيها وملاحقتهم تحت ذريعة انها تضرب الارهاب، ولن تجد الدول العربية التي لا تكف عن لوك الشعارات وضعا أفضل من هذا الوضع الذي فيه تبرير لسياسات الاستسلام وضرب لكل من تسول له نفسه الوقوف مع المعارضة، ولا يهم بعد ذلك ان تصادر الولايات المتحدة أموال العرب أو لا تصادرها لان ما عند الحكام يكفي لاستمرار هذه اللعبة الجميلة.(القدس العربي اللندنية)