إن أصدق تعبير عن الاستراتيجية الأميركية تجاه العراق هو ما صرح به مساعد وزير الخارجية الأمريكية أمام لجنة العلاقات الدولية للكونجرس في أواخر التسعينيات عندما قال نصا إن استراتيجية الولايات المتحدة تجاه العراق ستبقي ثابتة لا تتغيرـ بغض النظر عن الحزب الحاكم في البيت الأبيض‏,‏ وبغض النظر عن المتغيرات الدولية‏-‏ وهي الحيلولة دون حدوث أي تهديد يصدر عن النظام الحاكم بالعراق يخل بأمن واستقرار المنطقة إذ أن ذلك في غاية الأهمية الحيوية بالنسبة للمصالح الوطنية والاستراتيجية للولايات المتحدة‏,‏ ثم أضاف وقائلا‏:‏إن كلا من الديمقراطيين والجمهوريين حرصا دائما علي المحافظة علي هذا الهدف‏,‏ وذلك عن طريق تطوير السياسات والترتيبات اللازمة لتحقيق ذلك سواء كانت علي المستوي السياسي أو العسكري أو الاقتصادي‏.‏
إن الولايات المتحدة تدرك جيدا أن العراق دولة عربية مميزة لما بها من مخزون ضخم للنفاط‏,‏ بالإضافة إلي توافر المياه العذبة من نهري دجلة والفرات‏,‏ أي أن لديها ما هو غير متوافر في باقي دول المنطقة وهو النفط والماء معا‏.‏ كما تدرك جيدا أن العراق له أهمية استراتيجية في مواجهة أي تحرك إيراني خارج حدوده‏,‏ كذلك تدرك أيضا أن العراق بقدراته الأصلية ـ لو ترك دون رقابة ـ لكان تهديدا مباشرا لمصالحها في المنطقة ولحليفتها إسرائيل‏..‏ لذلك فهي تتابع دائما سياسات العراق الداخلية والخارجية بحيث لا تسمح أن يتعدي الخطوط المرسومة له فيختل أمن واستقرار المنطقة‏,‏ كما أنها لا تنسي الولايات المتحدة ما قام به النظام في العراق منذ عشر سنوات تجاه الكويت ومنابع النفط به أو سقوط صواريخه أرض أرض ـ لأول مرة ـ في وسط عاصمة حليفتها إسرائيل‏.‏
ولو عدنا لسياسة الولايات المتحدة تجاه العراق بعد حرب الخليج نجد أنها منذ شهر أبريل عام‏1991‏ تقوم ـ بالتعاون مع حليفتها بريطانيا ـ بحماية مناطق حظر جوي حددتها شمال وجنوب العراق شمال خط العرض‏36‏ وجنوب خط العرض‏32‏ الذي عدلته منذ عام‏1996‏ إلي خط العرض‏33‏ تحت مسماة بأنه إجراء انسائي لحماية أكراد العراق في الشمال وشيعة العراق في الجنوب من اعتداءات الجيش والطيران العراقي عليهما عدة مرات‏.‏ وقد بلغ عدد الطلعات الجوية البريطانية والأمريكية فوق العراق منذ القيام بها عام‏1991‏ حتي الآن‏(‏ وفقا للتقرير الصادر من هيئة كابو البريطانية أكثر من‏199541‏ طلعة جوية‏).‏ أن ذلك الحظر الجوي يحقق للولايات المتحدة مصالح استراتيجية أخري أوضحها الجنرال الأمريكي أركان حرب القيادة المركزية أمام مجلس الشيوخ الأمريكي عام‏2000‏ عندما قال‏:‏ إن استمرارنا في حماية مناطقة الحظر الجوي شمال وجنوب العراق يحقق حماية للمدنيين المقيمين بهما‏,‏ بالإضافة لتحقيق مصالح استراتيجية مهمة بالنسبة لنا تتلخص فيما يلي‏:‏
أـ حرمان القوات الجوية العراقية من‏40%‏ من سيادتها الجوية علي أراضيها‏.‏
ب ـ استمرار حصولنا بشكل دائم علي معلومات مصورة عن دفاعات العراق ومدي تطوير قواته المسلحة‏.‏
جـ ـ توفير الانذار المطلوب عن أية تحركات عسكرية عراقية كبيرة‏.‏
د‏-‏ استمرار التعاون العسكري بين القوات الجوية الأمريكية مع حليفتها القوات البريطانية‏.‏
وفي‏16‏ فبراير‏2001‏ أصدر الرئيس بوش قرارا بضرب أهداف عسكرية عراقية متطورة خارج مناطق الحظر الجوي وقريبة من العاصمة بغداد بهدف استمرار الولايات المتحدة المحافظة علي استراتيجيتها تجاه العراق للحيلولة دون حدوث أي تهديد من القوات العسكرية العراقية يخل بأمن واستقرار المنطقة‏.‏
وجاءت أحداث‏11‏ سبتمبر الدامية وتحركت بعدها الولايات المتحدة بحملة عسكرية ضخمة تجاه أفغانستان تساندها جميع دول العالم بهدف محاربة الإرهاب الدولي والقضاء علي نظام طالبان والقاعدة التي يرأسها أسامة بن لادن بعد أن وجهت إليه تهمة التخطيط لتلك الأحداث الرهيبة‏,‏ وكان من البديهي أن تنتصر الدولة العظمي الولايات المتحدة بشكل حاسم وعاجل‏,‏ ثم أعلن الرئيس بوش أن حملته ضد الإرهاب لن تقف عند حدود أفغانستان‏,‏ وانما ستلاحق الإرهاب ومن يعاونه في جميع أنحاء العالم‏,‏ كما بدأت تصدر بعد ذلك تصريحات أمريكية تشير إلي أن العراق قد يكون هو الهدف التالي للحملة الأمريكية‏,‏ خاصة أن الرئيس بوش طالب النظام بالعراق منذ أسابيع قليلة بالسماح لمفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة بالعودة إلي العراق واستئناف مهامهم‏..‏ وإلا فإن الرئيس العراقي سيتحمل النتائج‏.‏
لاشك أن استغلال الحملة الموجهة للإرهاب الدولي ضد النظام العراقي من جانب الولايات المتحدة هو أقصر الطرق لتنفيذ الاستراتيجية الأمريكية السابق ذكرها‏.‏ إلا أن هنا بعض القيود والملاحظات التي قد تحول دون تنفيذ عاجل لها‏,‏ خاصة بعد حوار لي منذ أيام بوزارة الخارجية البريطانية ـ بصفتي نائب الرئيس المنتخب للهيئة البريطانية كابو مجلس التفاهم العربي البريطاني ـ ويمكن تلخيصها فيما يلي‏:‏
أولا‏:‏ تحرص الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا‏-‏ بوجه خاص‏-‏ أن يستمر ذلك التحالف الدولي الذي تم تشكيله ضد بن لادن وأفغانستان متماسكا ومترابطا دون حدوث أي انشقاق أو انفراط له‏..‏ وذلك أمر غير محتمل إذا ما أعلن ضرب العر اق‏.‏
ثانيا‏:‏ من المهم إبراز دليل واضح لمجلس الأمن ـ كما حدث بالنسبة للحملة علي أفغانستان ـ علي أن العراق ساهم أو ساعد في عمليات الإرهاب التي تمت‏,‏ إن الجهود التي بذلت لتوفير هذا الدليل لم تكلل بالنجاح حتي الآن رغم التصريحات المتشددة التي يعلنها من آن لآخر نائب وزير الدفاع الأمريكس بول ولفوتيز حول اتهام العراق‏,‏ وضرورة التحرك العاجل عليه‏.‏
ثالثا‏:‏ تحرص روسيا في الوقت الحاضر علي الاستفادة لأقصي حد ممكن من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية التي وقعتها في الفترة الأخيرة مع العراق‏,‏ ولهذا يحتمل أن تستمر في عدم الموافقة علي ضرب العراق ما لم تسع الولايات المتحدة للمساومة بهذه القضية مع القضايا الأخري الموجودة حاليا في ملف العلاقات الأمريكية الروسية مثل قضية الآثار المترتبة علي الوجود الأمريكي الجديد في آسيا الوسطي‏,‏ قضية درع الصواريخ‏,‏قضية الاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارات الأمريكية في روسيا وغيرها‏.‏
رابعا‏:‏ هناك مخاوفة تركية كبيرة من تنفيذ التحرك الأمريكي المفترح علي العراق بنفس الأسلوب الذي اتبعته في أفغانستان بعد اتفاقها العسكري مع التحالف الشمالي ضد نظام طالبان‏,‏ أي أن تقوم الولايات المتحدة بالاتفاق مع قوي عراقية محلية مثل الأكراد في الشمال أو الشيعة في الجنوب لتقدم له العون العسكري للتحرك ضد النظام الحاكم في بغداد‏,‏ ان تنفيذ ذلك يثير لتركيا قضية حادة وهي احتمال تشكيل الدولة الكردية مستقبلا من الحزبان الكرديان الحاليين بشمال العراق مكافأة لهما بعد تعاونهما العسكري مع الولايات المتحدة‏,‏ إن حدوث ذلك يسبب ضررا بالغا لتركيا ويعرضها لانفصال الأكراد الأتراك عنها‏.‏
خامسا‏:‏ من المشكوك فيه أن يتحرك الحزبان الكرديان بشمال العراق تجاه بغداد‏,‏ حيث ان ذلك لم يكن في يوم ما من أطماعهما أو خططهما‏,‏ بعكس ما كان ذلك ضمن خطط التحالف الشمالي في أفغانستان للزحف تجاه العاصمة كابول بعد أن طرده نظام طالبان منها‏.‏
سادسا‏:‏ ان التحالف مع الشيعة في جنوب العراق ضد بغداد أمر يحتاج لوقفة طويلة وحسابات دقيقة‏,‏ حيث إنه يتعارض مع أهمية توفر توازن سياسي وعسكري في مواجهة إيران التي تخشاها إسرائيل والتي لاتثق فيها الولايات المتحدة حتي الآن‏.‏
سابعا‏:‏ يجب ألا نقلل اطلاقا من هذه القضية من الموقف العربي المحتمل علي ضوء التصريحات الأخيرة التي أعلنها الأستاذ عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية في ختام الاجتماع العاجل الذي عقد أخيرا بالقاهرة للسادة وزراء الخارجية العرب‏.‏
وعلي ضوء تلك الملاحظات السابقة‏,‏ أعتقد أنه لا يحتمل في المستقبل القريب أن تقوم الولايات المتحدة بعمليات عسكرية رئيسية في العراق طالما أن استراتيجيتها التي ذكرتها في أول المقال محققة بأساليب أخري‏.‏ ورغم ذلك فإن العمل العسكري ضد العراق ليس مستبعدا نهائيا في المستقبل البعيد‏..‏ عامة لا أجد ختاما لهذا العرض إلا ما قاله الله تعالي في كتابه الكريم كل يوم هو في شأن صدق الله العظيم‏.‏(الأهرام المصرية)
رئيس مركز الدراسات العربية‏-‏ لندن