التقية التي بالغ في لبسها البعض من المثقفين المسيحيين العرب، ومعهم جمع من المثقفين من مذاهب اسلامية، في الدفاع عن التطرف الاسلامي، أثارت شعورا بالامتعاض، بل لنقل بصراحة، الغضب من هذه الانتهازية التي تلعب في المعسكر الديني السياسي في المنطقة من قبل اناس هم رواد دعوة اخراج الدين من حقل السياسة.
بدعوى كراهية الغرب بررت هذه الفئة المثقفة موقفها المناصر للجماعات المتطرفة، وهي في هذه الحالة تحديدا أظهرت كراهية مفتعلة لما فيها من تناقض مريب، فها هم مثقفون مسيحيون عرب ويدافعون عن رجل مثل بن لادن يدعو صراحة الى قتل النصارى. والتناقض يمتد الى معسكرات بعض المثقفين من المسلمين غير السنة الذين رغم معرفتهم بفكر بن لادن المبدئي ضد طوائفهم، رأيناهم يجاهرون بالدفاع عن تنظيمه وأفعاله. وإذا أراد أحد أن يطلب مني الدليل الملموس على نفاق معظم المدافعين عن "القاعدة" من المثقفين العرب، مسيحيين وابناء الطوائف الاخرى، فانني لا أملك الا ان أعيده الى بياناتهم ومقالاتهم، فهي دليل على رياء سياسي صارخ. كان لهم ان يكتفوا بالصمت، وبالتالي تحاشي تهمة موالاة الولايات المتحدة، وهي الفكرة التي تقلقهم دائما وفي نفس الوقت تجنب التصفيق المزور لـ"القاعدة".
لم يعد التخفي ضرورة لأي فرقة دينية كانت، الا تلك التي تتعمد القتل وعزل الآخرين، خاصة بعد ان أصبح العالم مفتوحا وواسعا يقبل كل الفرق إلا فرقة التطرف. صار شجب الحركات المتطرفة، مهما كان دينها أو فكرها، مذهبا مشتركا في كل العالم. وهنا لا نخلط بين التشدد والعنف، فالعالم يتسع لكل الزوايا الدينية بما فيها الاصولية الاسلامية وحقها في أن تكون موجودة، ولكن بطريقة سلمية. فمن حق المسلم المتشدد ان يعيش بلا جهاز تلفزيون، وان يلتحف ما يشاء. فهذا حقه وعلينا ان ندافع عنه. وهو عمل ليس غريبا على المتشددين المسلمين، بل يمارسه المتشددون في كل ديانة بمن فيهم المسيحيون في قلب الولايات المتحدة الاميركية المتقدمة صناعيا، حيث يحرم "الايمش" على أنفسهم وأولادهم كل ما هو مصنع، من ركوب السيارات الى استخدام ازرار الملابس البلاستيكية. لكننا لا نستطيع ان نساير التطرف المسيحي في واكو الاميركية او الاسلامي في تورا بورا الافغانية، الذي يعتبر قتل مخالفيه واجبا دينيا واسلوب حياة، فهنا نفترق.
وهذا القول ينسحب على الليبراليين السنة الذين هم اسود في الحديث عن نظرية الحقوق المدنية، ونعام عند امتحانها في اول مظاهرة. رأينا كثيرين منهم يتحولون الى العصبية الدينية او المحلية سائرين يدا بيد مع الاصوليين، ورافعين شعارات تطالب حكوماتهم بما كانوا يرفضونه هم أنفسهم. الليبراليون العرب امضوا عقودا طويلة في محاربة مشروع كطالبان، وحملوا حكوماتهم مسؤولية غياب الحريات الشخصية، لكنهم لانوا سريعا قبالة تقارير غوغاء الاعلاميين، وطوفان تظاهرات العداء للأجنبي، فركبوا الموجة بصورة مماثلة للمثقفين المسيحيين، باستثناء ان المثقفين المسيحيين فعلوها نفاقا والليبراليين المسلمين تبنوها بفعل فقدان سريع للذاكرة، فلبسوا اللباس الذين كانوا يشتكون من ضيقه. هذه الأزمة كشفت هشاشة الليبراليين على التمييز، وضعف مَنْ قدر منهم على التمييز على الصمود، واظهرت الأزمة قلة الواضحين مع انفسهم ومجتمعهم.(الشرق الأوسط اللندنية)