هناك اتفاق بين معظم الناس علي أن عام 2001 كان عاماً اسود في العالمين العربي والإسلامي، لا يماثله في صفته هذه إلا عام 1967 الذي شهد تفتت القومية العربية، وعام 1991 الذي شهد تدمير العراق، فانفتح إذذاك جرح نازف في المجتمع العربي لم يندمل حتي الآن.
وفي عام 2001 أعلنت الولايات المتحدة حرباً شاملة علي الإرهاب الإسلامي ، وهددت بمجابهة وسحق احزاب وتنظيمات ودول اسلامية، في حملة عقابية شاملة تمتد من أقصي العالم إلي أقصاه، ولم تسلم دولة إسلامية واحدة من أذي الصدمة التي ولدتها أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة. حتي المملكة العربية السعودية ومصر، وهما حليفتان للولايات المتحدة منذ وقت طويل، تعرضتا لحملة تشويه وتجريح لا مثيل لها، في وسائل الإعلام الأميركية، بل وجّه إليهما الاتهام بأنهما يخلقان ظروفاً من شأنها أن تساعد علي ازدهار الإرهاب الإسلامي . وسعت إسرائيل، وهي تحت قبضة المتطرفين من غلاة القوميين والاصوليين اليهود، إلي أن تُغرق الانتفاضة الفلسطينية بالدماء علي مرأي من العالم العربي والإسلامي الذي كان يشاهد ما يجري، من دون أن يحرك ساكناً.
وفي الوقت ذاته كانت الجزائر التي غزاها الطوفان، تقطف ثمار الحرب الأهلية البشعة التي كلفت الجزائريين ما لا يقل عن مئة ألف قتيل، بسبب عدم تحمل وطأة جبهة الإنقاذ الجزائرية التي فازت بانتخابات ديموقراطية منذ عشر سنوات. وبدأت باكستان - وهي الخاسرة الاستراتيجية في حرب أفغانستان - تعاني من تمزق مجتمعها، وتواجه الآن خطر حرب ضروس مع الهند، تتهدد وجودها بالذات، بسبب اخفاقها في السيطرة علي نشاطات الجماعات الإسلامية في كشمير. وتفاقم الوضع، وبلغ مستويات خطيرة من التوتر، بعد الهجوم علي البرلمان الهندي في 31 كانون الأول (ديسمبر) من هذا العام.
كل الدلائل تشير إلي أن هذا العالم الإسلامي، المترامي الأطراف، يعاني من محنة ماحقة، ولكن، علي رغم السواد والقتام اللذين يلفان كل شيء، فإنني ما زلت أري بصيص نور في نهاية النفق. وأتوقع أن تكون السنة الجديدة أفضل بكثير من العام المنصرم.
حدود العمل العسكري الأميركي
بادئ ذي بدء، لا أعتقد أن المزاج الأميركي الساخن الراهن الذي يبالغ بغطرسته العسكرية سيدوم إلي ما لا نهاية. لقد كانت الولايات المتحدة التي نزفت بغزارة في الحادي عشر من أيلول، بحاجة ماسة إلي تحقيق نصر باهر في أفغانستان لإستعادة كبريائها الوطنية قدر حاجتها إلي استرداد شعورها بالأمن وصيانة قيادتها العالمية. ولكن، الآن، وقد كادت أن تنتهي الحرب الأفغانية، فإنني اعتقد بأن الولايات المتحدة ليست علي استعداد للقيام بخضة عسكرية كبيرة علي امتداد العالم، علي رغم تحريض حفنة من الصقور ما زالت تمارس نفوذاً واسعاً في العاصمة واشنطن.
ويري هؤلاء الصقور أن سقوط طالبان وتصفية تنظيم القاعدة إلي يقوده أسامة بن لادن، يشكلان المرحلة الأولي من حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب ، وهم يحبذون أن يستتبع هذا النصر هجوم عسكري علي الصومال والسودان واليمن (مرحلة ثانية). وتدمير القوة العسكرية في سورية ولبنان (المرحلة الثالثة)، واسقاط نظام صدام حسين في العراق (مرحلة رابعة).
علي أنه بدأت ترتفع وراء الستار في واشنطن الدعوات إلي انتهاج سياسة رزينة ومعتدلة، وطفت علي السطح حملة ضد توسيع رقعة الحرب يتزعمها كولن باول وزير الخارجية وكونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي والجنرال ريتشارد مايرز رئيس هيئة أركان القوات المشتركة، بل ان بعض المصادر القريبة جداً من الرئيس بوش يسرّب أنه، هو أيضاً، بدأ يبتعد عن سياسة خارجية تعتمد بشكل مطلق علي التدخل العسكري.
هناك أميركيون، من الرئيس بوش في قمة الهرم الحاكم، نزولاً إلي أسفل الهرم، يجدون أنفسهم مرغمين علي تأمل ومحاكمة ما يجري في العالم اليوم، وبدأ هؤلاء يطرحون علي أنفسهم أسئلة لم يسبق أن طرحوها في السابق مثل ما الذي يدفع العالم إلي كرهنا؟ ، ومثل ما الذي ارتكبناه من أخطاء؟ . وهذا الغوص داخل الذات الأميركية، وهذا التساؤل المرير الصادق حدثان ايجابيان لا بد من أن يخففا، مع مرور الوقت، من غلواء هذا العطش الفج للانتقام الذي عمر القلوب بعد أحداث 11 أيلول.
وإذا صدقت هذه التقارير الواردة من واشنطن يحق لنا أن نزعم بأن المرحلة المقبلة من الحرب ضد الإرهاب لن تكون عسكرية، ولكنها ستأخذ شكل حرب مخابرات مستترة ضد الجماعات الناشطة في كل مكان من المعمورة، بهدف القضاء علي مصادر تمويلها وقطع سبل إمدادها اللوجيستي.
علي أي حال، إن بلداناً مثل اليمن والسودان والصومال والفيليبين تتعاون مع الولايات المتحدة - بهذه الطريقة أو تلك - في اصطياد الجماعات الإرهابية الناشطة. ومن هنا فإن التفكير في القيام بعمل عسكري ضدها يبدو غير مناسب علي الاطلاق وعديم الجدوي سياسياً وعسكرياً.
وهناك شيء آخر لا بد من أن نشير إليه علي رغم الآثار المدمرة للحرب في أفغانستان والارتفاع الملحوظ في عدد الضحايا من المدنيين نتيجة القصف الأميركي الجارح والعشوائي بعض الأحيان، فإن الغالبية العظمي من الأفغان تري في حكم حميد كارزاي، علي علاته، خطوة متقدمة وتطوراً ايجابياً لا يقاس بحكم طالبان السابق الرجعي المستبد القاسي وضيق الافق.
وواقع الأمر أن أفغانستان تشكو اليوم من ارتفاع نسبة الأمية فيها (90 في المئة)، وأن نسبة المواطنين الذين يشربون ماء نظيفاً قابلاً للشرب لا يتجاوز الـ21 في المئة، وأن 52 في المئة من الأطفال يموتون قبل بلوغ الخامسة من العمر، أي أن نسبة وفيات الأطفال هي واحد من كل أربع أطفال. ومجمل القول إن أفغانستان تحتاج - للعودة إلي الحياة الطبيعية - إلي الأمن الداخلي، وإلي مساعدات خارجية ضخمة وإلي التحرير من التدخل الأجنبي، وهذه الأمور الثلاثة يمكن الحصول عليها بقليل من الحظ.
أما العراق فإنه يُشكل أكبر علامة استفهام في العام الجديد (2002). هناك أصوات قوية ومرتفعة في واشنطن، خصوصاً في الصحافة الأميركية تطالب بإطاحة نظام صدام حسين علي غرار ما حدث في أفغانستان، أي بتطبيق النموذج الأفغاني ، بالاعتماد علي القصف الجوي الأميركي المكثف، وهجوم بري تقوم به الوحدات التابعة لقوي المعارضة العراقية. ولكن هناك أصوات أخري، تضم وزير الخارجية كولن باول، تحذر من خطورة الهجوم علي العراق، ذلك أن العراق ليس أفغانستان، والحملة العسكرية ضد بغداد لن تكون نزهة .
وعلي رغم ضخامة عدد الذين يرغبون في اسقاط نظام صدام حسين الذي تحدي القوة الأميركية في الخليج أكثر من عشر سنوات، فأنا علي يقين بأن الحل الديبلوماسي سينتصر، في نهاية الأمر، علي الحل العسكري. وهناك مساومات مكثفة ومستمرة تجري علي قدم وساق وراء الكواليس، يلعب الروس دوراً أساسياً فيها، كما أن صفقة يجري الإعداد لها بهدوء، يرضي العراق بموجبها بعودة مفتشي الأسلحة من الأمم المتحدة بعد تحديد طبيعة مهمتهم بشكل دقيق وواضح، إي الانتهاء من الفترة الجديدة لبرامج النفط للغذاء في نهاية شهر أيار (مايو) المقبل، مقابل وعد رسمي باسقاط العقوبات والحصار، كي يتمكن العراق من التصرف بحرية بموارده النفطية والمالية.
النقاش داخل إسرائيل
وهناك تطور داخل إسرائيل يدعو إلي الأمل بعض الشيء. إذ بدأت ترتفع، وللمرة الأولي، أصوات متعقلة فوق أصوات اليمين الهائج الذي لا يمل من الدعوة إلي الاستمرار في الحرب.
إن الطاقم اليميني الحاكم حالياً في إسرائيل والمكوّن من ارييل شارون رئيس الوزراء والجنرال عوزي دايان مستشاره الأمني وبنيامين بن اليعيزر وزير الدفاع وعوزي لانداو وزير الأمن الداخلي والجنرال شاؤول موفاز رئيس الأركان العامة وافراييم هاليفي مدير وكالة الموساد ، وعصبة من المتعصبين الداعين إلي إسرائيل الكبري يستمرون في الدعوة إلي مواصلة العنف ضد الفلسطينيين، وهم يعتقدون - وعلي ضلال - أن الرأي العام العالمي يساند حرب إسرائيل ضد الإرهاب الفلسطيني ، وان أحداث 11 أيلول تُعطي إسرائيل رخصة دولية لتصفية أعدائهم الفلسطينيين، وأن الولايات المتحدة ستوجه بنادقها - في القريب العاجل - ضد العراق وإيران وسورية ولبنان و حزب الله و حماس . باختصار، ضد كل من تحدثه نفسه لمعارضة إسرائيل ومناهضة مخططاتها.
هذا النوع من التفكير الخيالي الحالم يُصاب بخيبة أمل شديدة، من دون أدني شك، فهناك عدد من الإسرائيليين - وهم في تزايد مستمر - ينتقدون، مخلصين، ان سياسة إسرائيل القاسية الردعية ضد الفلسطينيين هي سياسة عقيمة ويستحيل الدفاع عنها، شرعياً وأخلاقياً. لقد صدقت اللجنة الدستورية للمحاكم الإسرائيلية بـ41 صوتاً ضد صوت واحد فقط علي قرار يري في الاغتيال المتعمد والمقصود لبعض الناشطين الفلسطينيين جريمة حرب، ومخالفة للقانون الدولي ولمعاهدة جنيف . ونسب إلي ضابط أمني كبير في جهاز الأمن الإسرائيلي قوله إن سياسة إسرائيل في الاغتيال عقيمة كمحاولة افراغ المحيط بملعقة شاي صغيرة .
ويمكن القول إن بعض الحمائم في حزب العمل الإسرائيلي بدأ ينفض الكسل، ويتحرك بجدية، لقد صرح وزير العدل السابق يوسي بيلين من الحماقة أن تعتقد إسرائيل بأنه يمكن أن تجد محاوراً أكثر اعتدالاً من ياسر عرفات. وإذا قدر للأحزاب الإسلامية المتطرفة أن تصل إلي الحكم، فستقود الفلسطينيين والإسرائيليين إلي الجحيم... . كما أن وزير الخارجية الإسرائيلي السابق شلومو بن عامي يعمل الآن - ومن ذات المنطلق - علي خطة للانسحاب الانفرادي من جانب واحد من الأراضي الفلسطينية ولتحقيق الفصل التام بين الإسرائيليين والفلسطينيين تحت اشراف دولي.
ولعل أقوال عامي ايالون، الذي كان يرأس جهاز المخابرات الداخلي في إسرائيل شين بيت من 1996 إلي 2000، أكثر إثارة للاهتمام. علي إسرائيل - كما يقول - أن تنسحب بلا قيد أو شرط من الأراضي الفلسطينية . ويضيف: قيام دولة فلسطينية سيحافظ وحده علي يهودية إسرائيل وديموقراطيتها . ويطالب إسرائيل أن تعترف بمسؤوليتها عن عذابات الفلسطينيين، وان تساهم في ايجاد حل لمشكلة اللاجئين ، مؤكداً أن علي إسرائيل أن تقبل بمبدأ العودة، كما يتوجب علي منظمة التحرير الفلسطينية أن تتعهد بأن لا تطرح موضوع الهوية اليهودية لإسرائيل... .
تأتينا آراء عامي ايالون من داخل إسرائيل وكأنها نسيم طازج. إنها آراء جذرية وبعيدة النظر، وإن كان الرأي العام الإسرائيلي الذي افزعته العمليات الانتحارية ليس علي استعداد بعد للاستماع إليها واستحسانها. ولكن المراقبين السياسيين الذين يتابعون المشهد الإسرائيلي يعتقدون بأن ما لا يقل عن ثلث سكان إسرائيل يشاركونه آراءه الجريئة هذه، وهناك آخرون كثر يمكن أن يقبلوا بها، إذا ما تمكن حزب العمل من أن يقدم مرشحاً بديلاً يتمتع بمصداقية ليحل مكان شارون.
وينتظر الرأي العام الغربي بفارغ الصبر أن يستمع إلي نقاش صادق وصريح في العالم الإسلامي. وهناك أسئلة لا بد من الاجابة عليها: إلي أي حد يمكن اعتبار التطرف الإسلامي من نواتج المجتمعات القمعية المستبدة والفاسدة؟ إلي أي حد يمكن اعتبار تنظيم القاعدة لأسامة بن لادن انحرافاً عن الدين الإسلامي وتشويهاً للمعتقدات والممارسات الإسلامية؟ ما هي الاصلاحات العاجلة التي يحتاجها العالمان العربي والإسلامي لاسترداد الثقة والاحترام لدي الجماهير ولاستعادة احترام العالم الخارجي؟
وفيما يقترب عام 2001 من نهايته، يجدر بنا أن نبتهج ببصيص النور الذي يتلامح لنا في الافق البعيد أو أن نصفق له بحرارة.
في ذهني، وان أقول هذا، التحرك نحو الديموقراطية في دولة خليجية هي البحرين، انما تصلح أن تكـــون مشـــددة للآخريـــن...(الحياة اللندنية)

ہ كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط