المتابع للدعاية الموجهة ضد الدول الاسلامية المستضعفة هذه الايام يحار وهو يستمع لتبريرات الهجمة الاستعمارية الجديدة ضدها، فملامح الهجمة الحالية ضد الارهاب تظهر ان المستهدف في هذه المرحلة هو تحديداً اضعف الدول، او اشباه الدول. وأكبر مشكلة تواجه هذه الدول، مثل افغانستان والصومال ولبنان والعراق واليمن هي ان سلطتها محدودة جدا علي اراضيها او منعدمة تماما، اما بسبب الحروب الاهلية او التمزق الطائفي او الاختراق الاجنبي او ضعف الموارد او قوة الكيانات التقليدية او كل هذه العوامل مجتمعة.
ولكن الدعاية السائدة تصور هذه الدول الضعيفة المفككة علي انها اكبر خطر يهدد امن العالم عموماً والقوة الاعظم فيه خصوصا. وهكذا تواجه هذه الدول الافتراضية مطالب متناقضة، فهي من جهة تطالب بالعمل نيابة عن القوي العظمي لتحقيق ما عجزت عنه هذه القوي من احتواء المشاعر والانشطة المعادية للغرب، ومن جهة اخري تواجه حملات اعلامية ودبلوماسية وسياسية وعسكرية تجهد في اضعافها اكثر، ولعل هذا الوضع اصدق تجسيد لقول الشاعر العربي المشهور عن نهي الشخص المقيد عن الابتلال بالماء الذي القي في خضمه.
ولعل محنة السلطة الفلسطينية تجسد هذه المعضلة افضل تجسيد، حيث تطالب بالسيطرة علي الغضب الفلسطيني ممن يؤججون هذا الغضب بأفعالهم كل يوم، ويحرمون السلطة في نفس الوقت من كل امكانية للسيطرة علي الامور، فلا السلطة عندها خبز ترشو به الجوعي، ولا هي في مقام الشفاعة من اجل المحاصرين والمحصورين عند الحواجز ولا هي تملك السلاح والمقومات للقمع، والقليل الذي تملكه من امكانات يدمر كل يوم.
المأساة الصومالية تشبه الي حد كبير المأساة الفلسطينية في هذه الناحية تحديدا، الصومال ظل بلا حكومة مركزية لاكثر من عشر سنوات، وحين تمت المعجزة قبل عامين وقامت في الصومال حكومة انتقالية نالت اعترافا دوليا وضعها بعض جيرانها والمجتمع الدولي في وضع حرج، حيث ظلت اثيوبيا تطالبها بالعمل علي قمع العناصر الاثيوبية من اصل صومالي المطالبة باستقلال اقليم الاوغادين، ومن جهة اخري تجتهد كل من اثيوبيا ودول اخري في دعم الفصائل الصومالية المتحاربة، مما يعني عمليا تقويض سلطة الدولة المهتزة اصلا.
وكانت جهود احلال السلام في الصومال فشلت بسبب المنافسة الاقلمية فكلما عقدت اتفاقية سلام بمعاونة دولة جارة، تآمرت الدول الاخري لافشالها، جيبوتي تمكنت من عقد اتفاقيات سلام في عام 1990 ولكنها فشلت ولم يكن حظ جهود اثيوبيا المتكررة او كينيا باحسن حالا، وحينما نجحت مصر في عام 1998 في تحقيق اول اتفاق شامل، ثارت ضدها دول المنطقة وعلي رأسها اثيوبيا وادي ذلك الي افشال هذه الجهود وبعد اندلاع الحرب الاثيوبية ـ الاريترية عام 1998 تخلت هذه الدول عن جهود احلال السلام، ودخلت المعترك الصومالي، كل دولة تدعم الفصائل المتعاطفة معها، وبينما لقيت جهود جيبوتي التي حققت المصالحة عام 2000 ترحيبا اقليميا ودوليا شبه اجماعي، سرعان ما زحفت المنافسات الاقليمية لتقويض بنيان هذا الاجماع، وتنفخ الحياة في نفوذ امراء الحرب رغم الاجماع علي عزلهم وابعادهم ضروري لعودة الحياة للدولة الصومالية.
وفي الاسبوع الماضي قامت كينيا برعاية اتفاق جديد للم الشمل الصومالي محوره دمج الفصائل المعارضة في الحكومة القائمة عبر توسيعها ولكن المواد لم يكد يجف علي توقيعات الموقعين حتي اندلع القتال في الصومال بغرض افشاله، والمضحك ان معارضي استقرار الدولة الصومالية من امراء الحرب ومن يقف وراءهم استخدموا شعار محاربة الارهاب المبتذل لترويج بضاعتهم الكاسدة. وليس ادعي الي الاستهجان من ان حسين عيديد ابن محمد فارح عيديد وريثه يقف علي رأس دعاة التحالف مع امريكا لمحاربة الارهاب، وهو وزمرته ممن حاربوا امريكا حين جاءت لمساعدة الصوماليين في محنتهم، ولنفس السبب الذي يطالبون فيه اليوم بدعم امريكا: المحافظـة علي مكاسب لا بقاء لها اذا عاد الاستقرار والامن الي البلاد.
الولايات المتحدة لم تكن تحتاج الي تحريض قبل ان تتصيد المشاكل مع الصومال بسبب ثأرها القديم معه لهزيمتها المنكرة هناك في عام 1993. وقد قامت امريكا في الشهر الماضي باغلاق شركة البركة المصرفية وهي مؤسسة يجمع المراقبون علي انها تمثل شريان الحياة لملايين الصوماليين، التهمة الموجهة للشركة كانت انها تعمل كمستودع لاموال الارهابيين وقناة لتمويلها. ولعمري ان هذه لتهمة غريبة، فلماذا يحتاج الارهابيون الي شركة بدائية من هذا النوع والمصارف الغربية في سويسرا وغيرها تؤدي الواجب وزيادة؟ فالارهابي المزعوم حين يفتح حسابا في مصر او يحول اموالا لا يكتب علي دفتر شيكاته او حسابه فلان بن فلان الارهابي ، وبالتالي فهو لا يحتاج الي مصارف غير المصارف العادية لان استخدامها يلفت اليه الانظار، ومهما كانت صحة هذه التهمة فان من المؤكد ان المتهمين استخدموا المصارف الامريكية والاوروبية اكثر بكثير من اسخدامهم لدكاكين البركة. فلماذا لم تغلق المصارف الامريكية والالمانية التي استخدمها محمد عطا وغيره؟
هذا السلوك التعسفي هو تعريفا عمل ارهابي يشجع الارهاب ويعطي المبررات له، فحين تعرض قرارات كهذه حياة الملايين في الصومال للخطر، وحين تتخذ قرارات مباشرة تغرق السفينة بمن عليها بدعوي ان فيها ارهابيا محتملا، وحين تصبح العقوبات الجماعية ضد المدنيين العزل هي السياسة السائدة في العراق وفلسطين والصومال وافغانستان وغيرها، يعتبر هذا استخفافا بالانسان وكرامته لمجرد انه من فئة غير فئة الجنس المختار، وهذه وصفة لزرع الاحقاد وبذر الكراهية واذكاء حروب لا نهاية لها بين الشعوب.
التهديد لأمريكا لا يأتي اذن من الدول الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة، ولكن من الارهاب الامريكي المستمر ضد عباد الله المستضعفين(القدس العربي اللندنية)