في باريس، كما في اوروبا كلها، لا تجد حرفاً تقرأه عن "القمة العربية" العتيدة... العتيدة حقاً؟ ينسى واحدنا انه قادم من بيروت.
أخبار العرب كلها هامشيات اجتماع البتروليين في القاهرة (مرة، بل مرات، كانت هذه، نعم "كانت"، عاصمة العرب!). البتروليات تُشغل الاعلام، خصوصاً من حيث تأثرها بلعبة "شد الحبال الاسلامية - الاميركية"، ومَنْ سيدفع فاتورة "الحرب على الارهاب"، كما دفعت " خير أمة أخرجت للناس" فاتورة "عاصفة الصحراء" حتى آخر درهم، بترولاً طبعاً، وكذلك كرامة و... حرية!
الصحف هنا، وفي عواصم اوروبا الاخرى، لا تزال تجد متسعاً، رغم انشغالها باستحقاقات "الاورو" (السنة 2002 سنته...) للاسهاب ولو بنسبة أقل في مباراة "الفلسفيات" - ولنقل "التفلسفات" - حول الاسلام وهل لا يزال بن لادن نبيّه الثاني؟ أم هو تقهقر لأن الاسلام دخل، ويدخل المسلمون الى صحوة صاروا معها يتساءلون: هل ممكن، هل يعقل أن يكون الدين الذي غيّر وجه العالم وأطلق، من ألف وخمسمئة سنة احدى أعظم النهضات وبنى امبراطورية كونية باسم الله... هل يعقل ان يخطف قيادته "زعيم" بل "إمام" كأنه "خليفة" مُغتصِب، ولا يجد له في هذا العصر سوى الارهاب طريقاً لجهاد؟... ويصلّي المسلمون لانتصاره المدمِّر؟...
بل اكثر... حتى رافضو ارهابه يستنكرون بتعابير متجلببةٍ باصداء ما يقول؟
لا، غير معقول، ولا مقبول.
- 1 -
في أحد المقاهي التي لا يزال يرتادها "المثقفون" العرب - والمنفيون اللبنانيون منهم بنوعٍ أخصّ - من مئة وخمسين سنة لممارسة "علم الكلام" ("النهضوي"؟...) يتضاءل عدد قراء الصحف، انما اللهفة الى الاسئلة المحرجة متزايدة الاحراج.
- هل تتذكر الأمير شكيب ارسلان؟... أحد أكبر انبياء الدعوة الوحدوية العربية والنهضة الاسلامية...
- أتذكر. لماذا السؤال اليوم؟
- فقط للاستفسار: قالوا لي انه قال مطلع القرن العشرين انه يتساءل لماذا العرب يتقدمون والاسلام يتأخر؟ هل صحيح؟
لعلها موضة أطلقها سليم نصار بمقاله عن تنبؤات "نوستراداموس"... أروج حرفة في العالم العربي قد تصبح "التبريج"، بل الضرب في الرمال، بأكثر من معنى...
خطر ببالي، تهرباً ربما من الدخول في بحثٍ جدي في تفسير التاريخ (الأصعب هذه الايام من علم "تفسير القرآن") ان انصح السائل بالتوجه الى الرئيس "الاستاذ" نبيه بري. هو وحده يقدر ربما ان يفسّر كيف يمكن ان تتقدم العرب وتتحمل مسؤولياتها بالاستقالة من اجتماع قمة، بل مشروع قمة بين ملوكها والامراء والرؤساء والرؤساء الأمراء... قمة كان ينتظر منها المتفائلون بمستقبل التاريخ العربي لا ان تنقذ العروبة والاسلام، بل على الأقل أن تبحث، فقط تبحث علّها تتنوّر فتنوِّرنا، في ما اذا كان يمكن ان يبقي عالمنا على قيد الوجود حياً!!!
لم يجد المتسائل عن المستقبل العربي ما يسألني، جواباً عن سؤالي غير المباح سوى تكرار نسبة ذلك الى عدم رغبة حاكم دمشق في الالتقاء في كنف الجامعة، وفي بيروت تخصيصاً، بمن قد تجمعه "القمة" من اضرابه... وبـ"الرئيس" ابو عمار خصوصاً!!!
* * *
... ولأن ثمة في النهاية صحة في القول الشائع "ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد"، انبرى من يسألني عما اذا كنت قرأت مقال الاستاذ عبد الله الاحمد، وفي "النهار" بالذات صباح السبت، بعنوان "بعد القطار اللبناني... كيف يمكن ربط القطار الفلسطيني بالقطار السوري؟".
وقبل ان يتسنى لي ان انبس ببنت شفة، كان يستطرد محدِّثي قائلاً ان الاستاذ عبد الله الاحمد كان من كبار القياديين العقائديين في حزب البعث العربي الاشتراكي، ولعله لا يزال، ويكتب من دمشق، فهو بالأمر أعرف. وراح يتلو المحدث علي، وعلى سواي، بعض المقاطع من المقال:
"من يتأمل المشهد الخرافي (...) يتوجب عليه اليوم ان يتساءل ما اذا كان الدكتور بشّار الاسد يمتلك ادوات معرفية وسياسية تمنحه القدرة على فكفكة القطار الفلسطيني واعادة وضعه على السكة السورية...".
قاطعته: ولكن لماذا فكفكة "القطار الفلسطيني"... الآن بالذات. أوَلَيس هو مفكفكاً كفاية؟
جواب: اسمع، اسمع.
ومضى يقرأ "مزاميره على داود"، كذا بالحرف الواحد:
"ربع قرن والسياسة السورية تعيد فكفكة العربات والقاطرة وتعيد تركيبها على سكّتها السالكة والمجهزة وسط الموافقين وغير الموافقين على كيفية الفك والتركيب، ولا يلجم سخط هؤلاء الا موقف معلن على لسان الرئيس الاسد ("الوالد") وهو ان سوريا تقف من جميع ركاب القطار على مسافة واحدة".
قاطعته مرة ثانية سائلاً هل يتحدث الكاتب هكذا عن "القطار الفلسطيني"؟ فسارع الى الجواب "لا، لا... بل عن القطار اللبناني، اسمع". وسمعت:
"كان لبنان بتقديري أشبه بقطار متعطل على سكته البالغة القصر، واقدر قبطان يمكنه ان يجرّب تشغيله بضعة امتار للأمام، وان يتأكد من ان العربات مربوطة الى القاطرة!!".
وقاطعته تكراراً: "وبعدين"؟
* * *
قال ختاماً:
"وبمرور ربع قرن على تشغيل ماكينة الاسد [كذا بالحرف الواحد] سياسياً وادارياً وارادياً، صار القطار اللبناني قاطراً للقطار السوري في التوجه والمتابعة والصراع...".
قاطعته، فلم يأبه، بل مضى يقرأ، مسرعاً، مقطعاً الاستشهادات:...
"... في عالم القطارات لا يعرف الركاب (...) وسيان عندهم أكان مسحوباً بالقاطرة السورية ام مدفوعاً بالقاطرة اللبنانية (...) فللقاطرات هندستها وآدابها (...) فَعَلَها الأسد؟ نعم، ومن ينكر. لا أحد! حتى الذين نزلوا من القطار أو قفزوا احتجاجاً على وحدة مساره (...) لا ينكرون انه فَعَلَها...".
عند هذا الحد، شعرت بالحاجة الى الضحك... لا. فقط الابتسام... كنت كأني اشاهد امامي الناس تقفز من "القطار اللبناني"، أو هي تقع قبل ان تقفز. وتطلعت الى الذين تجمعوا حولنا وكدت اسألهم اذا كانوا قفزوا، فاغتربوا وهاجروا، أم هم "عائدون"... الى القطار الذي "هندس" الاسد ربطه؟
وها هو الاسد الابن يهم، اذا صدق الرواة، بربط "القطار الفلسطيني" به ولو بعد ربع قرن آخر، مفكفكاً ثم رابطاً، ثم مفكفكاً فرابطاً من جديد!
ما أحلى الصورة. سوريالية حقاً.
ولكن، ما أسوأ "الهندسة". وكم من القتلى والشهداء، وأي عذاب في ربع قرن ثمن الربط، وهل هذا ما يجب ان ينتظره الفلسطينيون، ربع قرنٍ آخر، قبل ان... قبل ان... قبل ماذا؟... قبل ان "يكتمل الربط" او يحين أوان السلام؟ وأي سلام اذذاك؟!
- 2 -
خطر ببالي ان اقترح على "الشباب"، وكان قد تكاثر عددهم يستمعون الى القراءة وكأنها آيات منزلات...
خطر ببالي ان اقترح عليهم ان نوجه رسالة الى... الى من؟...
الى "الاستاذ" نبيه بري!
لا، لا... قالوا، لن تكون جدية، اذذاك.
اذاًَ، قلت، نوجه رسالة الى روح الامير شكيب ارسلان، وسائر اعلام النهضة العربية والاسلامية. نستحضر الارواح، لم لا؟... أفضل من الانتقال الى كهوف افغانستان. قبورهم، هم، ليست مكلَّسة.
نصرخ، بل نستصرخ السوريين الكبار النيّري العقول من جيل "الرعيل الأول"... بل من أجيال، بينما عقولنا نحن تتراجع... نستصرخ الأئمة كلهم من الإمام محمد عبده وصولاً الإمام الغزالي، ان يصرخوا مع الشاعر اللبناني "سائليني يا شآم...".
علّ أحداً يقول لحكام دمشق الذين يلهون حتى بمجرد الدعوة الى لقاء الحكام من كل الاقطار ان "ما هكذا تورد الابل"، ولا هكذا نتسلق قمة، ولا هكذا نحول دون ان يفوتنا مرة أخرى، وأخرى فأخرى، قطار "السلام العادل والشامل"...
* * *
رسالة قصيرة مطلوب من يوجهها الى الرئيس الشاب المثقف بشار بن حافظ الاسد: ان يرتفع بمعالجة مسألة مصير فلسطين ولبنان بل مصير سوريا، الى مستوى اكثر مسؤولية، من "هندسة" فكفكة القطارات وجمعها قاطرة الى قاطرة الخ... الخ... التي تذكرنا بلهو المراهقين، بل الصبية الصغار، بلعبة "القطارات الكهربائية المقَزّمة" على ارض غرفة نوم...
أوَكثير ان ننتظر من دمشق ان تكون عاصمة أموية من جديد، ان تستلهم الاندلس في وجه "امبراطورية بن لادن" الذي يساوي بين الاسلام والارهاب؟... وكأنه هو كذلك، من كهفه، يلهو بمصيرنا ومصير الانسان كالمراهق الذي يلهو بهندسة العاب الكبار "المقَزَّمة" في حجم الصبية الصغار...
- 3 -
لا، لا... ثقافة الشام وتراثها أعظم من هواجس كهوف افغانستان وجاهلية الصحارى... قولوا لها.
المنتظر من الشام، بل المطلوب منها بالذات، ومن رئيسها الشاب، ان تتعالى، وهي وهو من العارفين بعلمانية الدين، فوق السفسطات التي تمضي، مثلاً، مثلاً، تميّز بين الارهاب والمقاومة، حتى اذا ما شرحت المقاومة وبررتها، فبشعارات الارهاب وبلغة بن لادن، انما مخشَّبة، مرونقة، متجلببة بما يجمِّلها...
لا، ليس كثيراً على سوريا، الدولة العربية الوحيدة غير المتسربلة بالتطرّف الاسلامي في مجتمعها، غير الاصولية العقيدة ولا الثقافة ولعلها الأقرب الى علمنة الدين والأعرق في المطالبة بذلك تاريخياً، من منطلق احتضانها التعددية الدينية منذ أول ايام الخلافة، حين انتقلت اليها.
ليس كثيراً على سوريا أن تقود العرب، بل الدول الاسلامية كلها انطلاقاً من "قمة بيروت" التي قيل انها تعارض انعقادها... تقود العالم العربي - الاسلامي الى عملية انقاذ الاسلام من الارهاب بكل اشكاله، انطلاقاً من تحرير نفسها والاشقاء من المعادلة "البن لادنية" بين الاسلام والارهاب، وتالياً المعادلة بين الارهاب والتحرير.
"هندسة" المجتمعات الحضارية المستقبلية ليست، يا دمشق، لعبة فكفكة قاطرات في قطار ثم استقطارها جيلاً بعد جيل، وفي ظن اللاهين باللعبة الصبيانية المتخلفة هذه انهم يفكفكون عقول العرب وقلوبهم، وهم في الحقيقة "يقطرونهم" الى الرهان على المجهول.
* * *
هيّا الى القمة يا دمشق، صريحة، جريئة التطلع العملي... هيّا الى قمة تأكيد العزيمة العربية غير الآبهة بابتزاز ولا تهويل... الى قمة تكرّس مساواة الدول "الشقيقة" في المسؤولية، والمشاركة في الرأي والقول والفعل.
وكفانا زراعة الطريق الى السلام اشلاء شهداء، بل اشلاء مدائن تهدمها الحروب العبثية، كما هدمتها من قبل ونحن "نهندس" قطارات الاوهام، بل قصورها... فما كان لنا من رواسب الاوهام سوى اشلاء انظمة واشلاء دول واشلاء ثورات!!!
العروبة المستقبلية الحضارية ان تتقدم بالعقلانية والمشاركة الضميرية.
او نمضي نصفّق للخراب. وندفع ثمن تدمير أوطاننا الى المدمّرين، اجراً لحربٍ علينا بعد حربٍ من اجل الاجر... ندفع الثمن لا من خيراتنا وثرواتنا فحسب، بل من مثالياتنا، ومن اجيالٍ مثالية ندفنها في مغتربات الفكر اليائس والقلوب المتسلية بالحزن!
وندفع الثمن اخيراً من تاريخٍ كان ينتظرنا، شجاعاً برّاقاً، فاذا بنا نكلس قبوره بأسوأ الأحكام وأرخص الهندسات الرئاسات. (النهار اللبنانية)