ولد سنة 1953 في قرية المغار في الجليل، ومنذ العام 1972 يسكن في القدس. في السّبعينيّات قبع مرّتين في السّجون العسكريّة الإسرائيليّة. حاصل على شهادة دكتوراه في الأدب
العربيّ من الجامعة العبريّة في القدس. عمل سنوات في تدريس اللّغة والأدب العربي في الجامعة، كما عمل في طاقم معهد الدّراسات الآسيويّة والأفريقيّة على إنجاز المعجم المفهرس للشّعر العربي القديم، والّذي صدر منه مجلّد ضخم. أصدر حتّى الآن خمس مجموعات شعريّة إضافة إلى نشر العشرات من المقالات والتّرجمات باللّغتين العربيّة والعبريّة إضافة إلى لغات أخرى. تُرجمت أشعاره ونشرت في مجلات وأنطولوجيات عديدة وبلغات شتّى. دواوينه كلها مطبوعة في القدس: "خانة فارغة"، "ريش البحر"، "مقامات شرقيّة"، "كالعنكبوت بلا خيوط" و "مغناة طائر الخضّر". له تحقيق مشترك مع أ، أرازي: "العقد الثمين في دواوين الشّعراء الستّة الجاهليّين" (القدس)
لغة الملائكة
على غرار سائر الأطفال على وجه البسيطة، أغلب الظنّ أنّي سُئلت مرّة ذلك السؤال الأبديّ: ماذا تطمح أن تصبح عندما تترعرع؟ قد يبدو الأمر غريبًا بعض الشّيء خاصّة في الأوضاع والظّروف الّتي وُلدتُ فيها، ولكن، بخلاف الأطفال الّذين حلموا بأن يصبحوا أطبّاء، محامين، مهندسين، إلى آخر قائمة المهن الحرّة، كان جوابي دائمًا: أرغب في أن أكون شاعرًا، لأنّ الشّعر ارتبط بذهني بالمعنى الجوهري للحريّة.
كلّ أولئك الّذين قد يفكّرون في مصطلحات من مثل "التّحقيق الذّاتي" لطفل صغير، سيكتشفون فورًا أنّهم كانوا على خطأ. فقد اتّضحت لي لاحقًا حقيقة جوهريّة أخرى وهي، أن تكون شاعرًا لا يعني بأيّ حال من الأحوال تحقيقًا للذّات.في نهاية المطاف، يبدو الأمر لي الآن مغايرًا تمامًا وهو، أن تكون شاعرًا يشكّل نوعًا من العقاب أكثر منه تجربة ممتعة. ولكن، ومع ذلك، فإنّ عالَم الشّعر هو على كلّ حال نوع من عالَم السّجون الّتي يجدر المكوث فيها.
الشّعر هو سجن في فوضى الحروف، العلامات، الكلمات، السّطور وكلّ الإمكانات الّتي توفّرها لنا اللّغة كَرَمًا منها ومعروفًا منها تسديه علينا. بمعنى آخر، وظيفة الشّاعر هي وظيفة شبيهة بوظيفة المبدع الأوّل الّذي أبدع النّظام في الكون من خلل الفوضى العارمة. الشّعر لا يمتلك حسًّا بالزّمان ولا بالمكان، كما لا يمتلك حسًّا بالقوم والقوميّة. إنّه في جوهره يمتلك كلّ الأزمنة، يسكن كلّ الأماكن، يعيش كلّ الحيوات ويتحدّث إلى كلّ الشّعوب في الوقت ذاته. إنّ لغة الشّعر هي لغة التّجربة البشريّة دون فرق في اللّون، الجنس واللّسان. إنّها لغة فوقيّة تذهب بعيدًا وراء حدود اللّغات الّتي تفرّقت من بابل إلى أربع جهات الروح. لغة الشّعر هي المعنى الأوّل للإبداع الإلهي وهي البارقة الأولى للخلود. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الشّعر هو الأداة الأولى الّتي ينافسُ فيها الشّاعر عمل المبدع الأوّل. الشّعر ينافس الخالق لأنّه يحاول أن يُشكّل من جديد كلّ ما لم يتشكّل على ما يُرام في الخليقة الأولى. قد يقول المتفائلون إنّ المبدع الأوّل لم ينهِ عمله لأسباب خافية لها علاقة بكرمه الإلهي علينا، أو بتركه لنا فسحة كي نتذوّق نحن المخلوقات الأرضيّة طعم الحياة. من جهة أخرى، فإنّ المتشائمين، ويشمل هؤلاء الشّعراء وكلّ من يتعامل مع صنوف الفنّ، قد يقولون: إنّه لم يقم بمهمّته كما كان من المفروض أن يفعل.
في البدء كانت كلماتٌ في الفوضى، وخيّم الظّلام على غرفة ذلك السّجن الأوّل. وفي لحظة قدسيّة ظهر الشّاعر من خلل هذا الظّلام وجمع كلّ العلامات والحروف ووضعها على الورق. أخذ بعضًا منها ووضعها في نظام ما: نون واو راء، وفجأة كانَ نورٌ . بواسطة هذا النّور استطاع أن يرى كلّ الكلمات بكلّ اللّغات في كلّ هذه الفوضى. وكان هذا يومًا أوّلَ، كانت هذه القصيدةَ الأولى.
بواسطة هذا النّور يستطيع الشّاعر أن يرى كلّ المعاني القائمة في اللّغات بالقوّة. الشّاعرُ يستطيع أن يشكّل كلمة الحبّ ويترك الآخرين يحبّون على هواهم. يستطيع أن يشكّل رائحة الوجود فيمنح الأمل لكلّ البؤساء الّذين يتكاثرون على وجه البسيطة. يستطيع التّعبير عن الموت، ولكنّه من وراء التّشبيهات والإستعارات إنّما هو يرمي إلى الكشف عن المعنى المختبئ للحياة. بسطوره، وبأبياته القليلة يستطيع الشّعر أن يمنحنا القدرة على الإتّصال مع شعوب وأناس آخرين وأن يكشف لنا ثقافات أخرى.الشّعر يمكّننا من صنع أجنحة بالحروف للتّحويم في عوالم أخرى والهبوط في أماكن أخرى، لأنّ اللّغة هي الوطنُ الموعود الأوحد للشّاعر.
والآن، ومع مرور السّنين والأعوام، ولأنّي لم أعد ساذجًا إلى هذا الحدّ فقد اكتشفت شيئًا آخر: الشّعر هو شبكة فوقيّة داخليّة شائكة، متاهة عليا لا تسمح لك بالوصول إلى نهاية.وداخل هذه المتاهة الخالدة سيمكث الشّاعر حتّى يوم الدين، حتّى اليوم الّذي سيُقدّم فيه بديله الإستفزازي أمام القارئ الأوحد الأوّل الّذي نافسه منذ البداية وعلى مرّ الزّمن. إذا كان الكون قد أُبدع وتبيّنت معالمه من نور الشّعر في اليوم الأوّل، فما من شكّ أنّ هذا النّور سيبقى حتّى اليوم الآخر. أمّا أنا الآن، فليس لديّ غير رغبة واحدة. ليتني أحيا في تلك اللّحظة لأشاهد هذا الصّراع، لأشاهد هذا النّور.
وأخيرًا، وعلى الرّغم من الرّواية الإسلاميّة القائلة بأنّ سكّان الجنّة يتكلّمون العربيّة، ورغم الحقيقة بأنّ اللّغة العربيّة هي لغة الملائكة، أستطيع أن أشهد، من تجربتي الذّاتيّة، أنّ العربيّة هي لغة أهل جهنّم أيضًا.
القَصيدة
خُذُوا من البَحْر أَسماكَهُ
أَعيدُوا الغيومَ إلى النّهر،
ارْفَعُواعَن لَمَى الطّفْلِ
حِمْلَ النّساء الحَواملْ.
فُروعُ الأسَى وارفة،
والحكايا شُجونٌ
مَرَتْها نُهُودُ الأَراملْ.
إذا ارتحلَ الأنبياء،
فَلا تَحْزَنوا للفَقِيدة.
ولا، لا تَقُولُوا
بأنّ الرّجَا
في
القَصيدَةْ.
عن الصّحراء
حينما أَرْحلُ وَراءَ الكَلأ،
كما قَدَّروا لي في كُتُبِي الأولى،
أَحْملُ معي بضعَ وُرَيقاتٍ بيضاء،
وجهازَ فاكْس. أحيانًا، أعتنقُ
جهازَ وُوكْمانْ لا يلتقطُ سِوَى
محطّات الـ F.M. لا حاجةَ لي
بموجاتٍ متوسّطة، ولا بموجاتٍ
قصار. فَالهوائيّاتُ لا تَنْفَعُ معَ
قفار الرُّبْع الخالي، ولا مع نثار
رَبْعي وأَخْوالي. وأَخْشَى، في
طَفْرة البحثِ عَنْ حالي وغَمْرة
التقاطِي لأنفاسي البوالي، أن
تلتقطَني العواصفُ أو رياحُ
السّموم. بدلَ هذا، أتمرّغُ في
أَصْداء عَطْشَى تَرْتَدُّ مع
الشّمْسِ، حاملةً لي بقايا
لحنٍ قديم. جَمعتْها الرّيحُ
مِنْ كُلّ فَجّ عميق.
وحين أستيقظُ، مَذْعورًا
من قيلولتي، أنظرُ إلى
جَسَدي المُجرَّد، فَأَسْتَغْربُ:
كَيْفَ ذا التصَقَتْ به إناثُ
الرّمْل.فأفلّيها من الجسد
كما الشّعرة من عجين
الرّوح. هكذا، مع قطعاني
وقطيعتي، أبقى سارحًا
في بَراريَّ الأولى إلى آخر
الأبد، دونَ أن يراني
أحد
.
لاسِلْكِي
(1)
على مَبعدةٍ ما مِنْ أبْخِرَة القَهْوة،
والس ائر المُحْتَرقَة في انتظار الغُيوم،
ترتاحُ الألوانُ على أرْصِفةِ المَمْشارِع.
العصافيرُ تُرسلُ برقيّاتِها بِاللاّسِلْكِي.
وأنا أتنصّتُ مُسْتَرقًا السّمْعَ.
أَصطادُ الأسْرارَ المُهاجِرَة.
(2)
في البَلدِ الّذي لا يَعْرِفُني، أَخْشَى
على المحبّين افْتضاحَ الحال. فَهُم
يَأْتون مِنْ رامَ اللّه وبيتَ لحم.
يحتفلون بالسّرّيّة في الشّوارع الغريبَة.
(3)
الغيومُ البرّيّةُ لا تأْبَهُ بِناسِ المدينة.
هنا لَمْ يستطع المحبّون تدجينها.
ها هِيَ تمرّ بلا اسْتئذان. تَسْلَحُ
حُمولَتَها على رُؤوسِهم. وتهربُ
لتختبئَ وَراءَ الطّوابقِ العُليا.
لُعبةُ الاخْتباء
لا تَنفعُ في المدينةِ المقدّسة.
فَاللّهُ يَرَى كلّ شَيْء.
وَأنا أَيْضًا.
بُلْبُل
قَبْلَ أَنْ يَذْهبَ البُلْبُلُ إلَى
النّوْمِ بَعْدَ كَدِّ اليَوْمِ الآيِلِ
إلَى انْهِيَار، وَارْتِقَابِ الغَدِ
القَابِلِ مَعْ عَرَقِ النَّهَارِ، أَتَى
يَسْأَلُ دَيَّارِي الحَيِّ بِصَوْتٍ
أَغَنّ، أوْ هكَذَا خُيِّلَ لِي،
عَنْ آخِرِ الأَخْبارِ فِي البِلادِ.
رُبَّما كانَ يَبْحَثُ عَنْ سَبَبٍ
وَجِيهٍ لِلفَرْقَعَاتِ في سَماءِ
القُدْس. لَكِنَّهُ، لَمْ يَعْثُرْ
عَلَى مَنْ يَفْهَمُ مَا يُقَالُ.
فَلا الجارُ، العَرَبيُّ القَلِقُ،
مِنْ تَحْت، يُعِيرُهُ اهتِمًامًا،
لأنَّهُ عَازِفٌ مَعْ نَفْسِه،ِ يَبْحَثُ
عَنْ تفسيرٍ جَديدٍ لآيَةِ العُودِ.
وَلا الجارَةُ اليَهُودِيّةُ مِنْ فَوْق،
تِلْكَ الّتِي لَمْ تُفْلِحْ بَعْدُ
في إحْصَاءِ أَصَابِعِ ال ْيَانُو،
تُصِيخُ السَّمْعَ. فَتُوَاصِل
عَدَّهَا دُونَ مَلَل.
وَلا أَنَا - الجاهِل.
كلام الشّعراء
العاشِقُ لا يَقْتُلُ جِنْسَه. الثّعْلَبُ،
إمّا جاعَ، يَأْكُلُ خلْسَة. الباحِثُ عَنْ
شَيْءٍ ما فِي هذا العَالَمِ لَمْ يَحْفَظْ دَرْسَه.

أمّا نَحْنُ الشَّعَراء، فَماذا نَحْكِي للنّاسِ
البُسَطاءِ؟ هلْ نَحْكِي أَنّا كُنّا هَباءً
مُذْ خُلِقَ العالمُ، أمْ نصمتُ؟
لَكِنْ، كَيْفَ يُباعُ كَلامُ الصْمتِ
لِـمَنْ تَاجَرَ بِالجُمْلَة؟
في ذمّ القمر
أُولئكَ الَّذينَ دَأَبُوا صَباحَ مَساءَ
يَبْحَثُونَ فِي الأَرْضِ عَنْ مَوْتاهُمْ،
لا شَكَّ أَنَّهُمْ يَهْدرُونَ أَوْقاتَهُمْ سُدًى.
لا حاجَةَ إلَى أَنْ يُجْهِدُوا أَنْفُسَهُمْ
بَحْثًا عَنِ بَقَاياَ نُصُبٍ داثِرَةٍ، أَوْ عَنْ
شَواهِدَ مُزَوَّقَة فِي بَلَدٍ مَهْجُورٍ، أَوْ
فِي حَدِيقَةٍ وارِفَةٍ مِنْ ذاكِرَةٍ مُعَلَّقَة.
فَالشَّمْسُ، هذهِ النَّفْسُ الّتي تَغْرُبُ
كُلَّ يَوْمٍ مِنْ جَديدٍ، تَشْهَدُ دُونَ عَناءٍ
عَلَى اللَّيْلِ الآتِي مِثْلَ ضَيْفٍ ثَقِيلِ الظِّلِّ.
نَسِيَ مِنْ أَيْنَ أَتَى وَإلَى أَيْنَ يَصِير.
مُنْذُ نُعُومَةِ أَشْعارِهِمْ صَدَقَ الأَنْبِياءُ.
لَنْ يَنْفَعَ الحِبْرُ المُراقُ عَلَى صَفْحَةِ الأَرْض.
لَنْ تَنْفَعَ النّاسَ الاسْتِعاراتُ المُبْتَكَرَة،
لَنْ تَنفَعَهُمْ تَشْبيهاتُ الشُّعَراءِ المُحْتَكَرَة.
فَها هو القَمَرُ الطّالِعُ دُونَ كَلَلٍ مِنْ
جَوْفِ الصَّحْراءِ مُنْذُ بَدْءِ الخَليقَةِ،
وَصْمَةُ عَارٍ عَلَى جَبينِ اللَّيْل.