صفاء فتحي من مواليد قصر هور، المنيا، مصر 1958. دراسة جامعية في جامعة المنيا، جامعة السوربون في باريس، وجامعة فانسان. رسالة دكتوراه من جامعة باريس عن المسرح الإنجليزي
والألماني المعاصر. نشرت ثلاث مجموعات شعرية: "قصائد" (1988)، "... وليلة" (دار شرقيات، القاهرة 1996) و"عرائس خشبية صغيرة تسبح في سموات المنيا و برلين" (دار شرقيات،القاهرة، 1998 ). لها مسرحية بالفرنسية والعربية "إرهاب" اخرجت فيلما وثائقيا عن الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا، وقد اثمر عملها السينمائي معه كتابا مشتركا صدر بالفرنسية. باستثناء قصيدة "اسم في رسالة في زجاجة في البحر" التي لم تنشر من قبل وستصدر في ديوان جديد يحمل نفس العنوان، القصائد الاخرى مأخوذة من دواوينها الثلاث المنشورة.
خطوة طفل الموت، رجاء
الشعر هو الطفل الذي لا ينجب الأطفال. هو شئ الأشياء والاسم الأقصى لجميعها ومكانها الأخير فيما وراء حائط الزمان. هو الا شئ وهو ذات الشىء. هو السحلية التي تمارس الانزواء بين الأحجار وهو الكائن الذي ينحصر في الضيق الفاصل بين الشيء والشيء. هو ذات الفراغ الذي لا يتواجد فيه أحد. اللحظة التي تسبق الحدث وتتبع الأحداث. هو الحدث نفسه الذي يحمل على الوجود في ذات الحدث. هو الشكل النهائي للكلام. هو الجسد الذي تتخذه عروسة الخشب هي تحمل خيوطها عبر طبقات المدى. هو خيوطها التي تصل الزمن وتقطعه. هو الخطوة التي تخطو على ما لا اسم له والغير قابل للتسمية. وهو اللفتة و الالتفات و التلميح والإشارة العابرة. هو العزاء الوحيد عن تربص الموت بنا وعن التناهي الذي يتعهد جميع اللحظات. هو الأنا التي ستنسحب حتما إلى آنيتها و تذهب إلى عدمها. هو ما قد يحفظ البدايات عبر تجارب النهاية التي لا تنتهي. الشعر هو ما يجعلنا نرى إلى تفردنا وكأننا لم نعبر السنوات تلك التي دائما ما تخلف وراءها عامودا يحجب البصر عن العين. هو الشهادة. هو العيان. ما قد ينفض الغبار المتراكم على سطح الإدراك. هو النَفَس الذي نبثه في الأشياء والذي تبثه الأشياء فينا. هو تجربة المطلق الوحيدة في التناهي والانتهاء. هو اللا حد الذي يحده اللحد وتتربص به الحدود والانفلات الذي يتعهده الرشد دائما بالحد. الشعر رئة البحر في الوطن الغريب. رئة الأنا المنزوية في النص، اللغة التي تكمن في السكوت عن الكلام وتقول الكلام عن السكوت والسكوت عن الكلام. هو السر الذي أنوء بحمله وحدي. الحوراء التي ترى إلى نخاعها.
الشعر هو ما قد يكتب لو كتب الله وما قد يقال لو تحدث الله مرةً لنا . هو الدخان الذي يحول الأماكن إلى زمن والزمان إلى مكان. هو الاتساع بين الشيء وآخره وفيما بينهما يكمن الآخرون. هو ما سيكون في البداية أنت، وما سيصبح في النهاية هو، وما سأسميه هي، وما أقول كي أقول لكم أنتم، وما قد يجعل من غربتي وطن ويحول وهم الانتماء إلى نحن. هو لغة الأصل ولغة الله التي تفتتت بعد السقوط و صارت مترجمة إلى سائر لغات الأرض. الشعر يحجب صورة الله عن العيون. هو الاوعى الذي يسبق الوعي بخطوة. هو اللاوعي الذي يأتي مع الخطوة التي تليها على وعي الضمير. هو لغة اللغات وأمها التي رنت اصداء صوتها عبر طوابق برج بابل العظيم حين دفنت أنقاضه لغة اللغات وجعلت من الترجمة فريضة حتى قيامه من جديد. هو لغة الرضيع قبل الكلام. هو اللغة التي أتحدث بهم مع الجميع والجماد. الصمت الذي أقوله لسائر الناس الآن وما قبل الآن ما بعده هو "الشىء الذي كان وليس الآن مع انه كائن" (الكتاب المقدس رؤيا يوحنا اللاهوتي). هو طفولتي التي تبعثرت مني آنذاك واليوم لا تزل تنتمي إلى يومها. هو منطق الطير وهو منتهى الوقفات. هو النَفَس الذي يلازمه دائما الرجاء. هو موتي الذي يرتد إلي أخيراً بعد ما أن سُرِق مني صبيحة اليوم التالي على الميلاد.
من ديوان لم ينشر بعد
"اسم في رسالة في زجاجة في البحر"*
[ و قال لي أين جعلت اسمي فثم اجعل اسمك.] (النفري)
لن انشر ظلي على الحبال
و لكن، سألقيه عند منحنى الطريق وسألتقي بك وانت تغادرني إليه
ستتجاوزني حتما
أما أنا فسأعبث لاهية بحروف اسمي التي تبعثرت مني ذات صباح
في منزل الحاوي، أو في صندوقه، في مسرحه، أوفي لعبته، في سحره، وفي طفولتي
التي احملها على المراوغة
لا لأنها سرب من أسراب من الطيور أقودها إلى عشها في الليل
بل لأنها أيضا وعد فارقني مع ذات الظل
ظلي الذي ابتلع النعاس
حين طافت البركة القائمة على فجوة
بعد ان تسللت سمكة من الفضة إلى جوفها
تلك السمكة الامعة التي تنزلق دائما من بين اصابعك
عندما أبحث عن الجمل المرصوصة كالطوب بين الحدين
كي اجعل منها منزلي
او غرفتي
او سريري
حيث الاوطن.
يجاور ما زرعته امي
و لغتها نبتة في حوض من طين طفولتي
اللغة التي وَضَعتْها في فمي و صارت لي أم دون الأم
لغة.
على حافة الخط اقف
وانت تشدني بالحبل إلى الأثر إلى الملاءة الزرقاء وكما دسست بلغة ما في أذني سأهمس في اذنيك بلغات اخيرة
سأدس في جوفك الكثير
وسأصير في جوفي كالقش
لأنهم ذبحوا الابن الصغير
لأنهم استبدلوه بمثيله من القش
لأنهم يدمنون المراوغة على جسدي
كي يدر اللبن من وهم الأم
عندها غطى جلد الابن على الغياب
و لم تزل الأم
قول دائما للأم لغتها مع اللبن
السائل مع الظل
مع وهم الأم حين كان الفداء هو حدث الحسم
حين بكت الحقيقة
لأني ذات الوهم في الجوهرة عندما تراني
في رؤيتك، في عينك، في الصبح الزئبقي
حين ترى الفراغ الذي تركته أنا في جسد الليل
بعد ان صرتَ لي الأم
وسيفيض ثديها باللبن
الذي لن يصلي له لساني
[ وقال من عرفني فلا عيش له إلا في معرفتي، و من رآني فلا قوة له إلا في رؤيتي] (النفري)
حفلة العشاء
-1-
أمامك الآن موائد حافلة بأنواع الطعام، فتصدر المجلس
و لا تلفت إلى طيف قاتلك، عازف القيثارة
فانغامه ترياق قد يغتصب أذنيك ...فأهمليه واشغفي
بكومة الأجساد المتراكمة ...هؤلاء الرضع المنسيون،
جاثمون، على أطراف الكوكب ينظرون السماح بالدخول.
تدغدغهم أبخرة الشواء اللذيذة،
التي لن تكون لك أبداً. أمل خاب في التمدد آمناً،
في عقر الرياحين.
-2-
العاشق المتجرع للحكايات ...أكرهه
و أشكوه للقضاة، علهم يشنقوه.
عندما تنز بروحه الشاهقة الوسادة أقول: لستِ الآن قبري
ففارقيني حتى أحزم الحقيبة،
وأهاجر لكوكب الرماد قبل سن الأربعين.
-3-
وطئها الملك كما تطأ الأقدام الحالمة الورود المهشمة
فكانت كما هي جارية تحزم الحقيبة و تنام.
يطأها الملك، و تنام حبلى بصفاء اللانهاية
فتحزم الحقيبة وتنام.
-4-
كانت الصرخات هكذا : اخرس...اخرس...ما هذه بحيثيات
أهي أضغاث أحلام؟ أم هي فقاعات رؤيا؟ أو ربما أصابتك
شظايا المنام.
فلا تربتي على الخدود و الوجنات،
كي لا يتصدع البناء...ذلك المنزل القائم على وجهِكِ
فتصيب الأنقاض طفلك المزروع في البستان.
-5-
لماذا العصيان وأنت طفل صغير؟
لا يصح لك ابتلاع تماثيل الصلصال،
التي شكلتها على صورتي الباسمة
من أجل الانتحار.
وعليك بابتلاع لقمة عذراء،
حتى تنشد الأبيات،
لكن حذار من أن تفيض العبرات كمتيمٍ أو ولهان،
أدبا أمام الزائرين
وحتى خاتمة الأيام،
انتظر،
كبش الفداء الذي لم تراضه التجاعيد أو يراوغه الماكياج.
-6-
إن ركضت البراعم هاربة.
إن امتدت الأذرع متأهبة.
إن نمت الأشواك في السرادق.
ارفع الصوت بالأغنية،
زاعقاً وزاعقاً،
في كون لم يتهادن حتى اللحظة الأخيرة،
حتى
يصعدون الزفرات،
يصيخون الأسماع.
لأطياف عازف الناي و القيثارة و أنا، اللذين كنا قاتلين
قرب النهر الآن نائمين، يداعبنا الشعاع،
فنلهو بعيدا عن أسمائنا المتريضة في بنوك المدينة،
وعن هلع النفوس الذي نحمله على مضضٍ...مكرهين.
فكن في التو من كحية من الحيات،
تخلص من جلدك القديم و ارمه بعيدا
غير حافلٍ بمن سيرتديه بذلة للمناسبات
والسلام.
باريس1989-1995
من ديوان ...وليلة
ابريل
الاعوام تتوالى وتنزوي
بهدوءٍ تخفي
رحابَ الهاوية.
تتأرجحُ الطرقات،
بين البقايا والنفايات
والألوانُ و الأنوار الرمادية
تقتحم صمتَ التفاصيل.
وريقاتٌ يابسة
تتناثرُ على أديمٍ مُقفر
ورياحٌ تعبثُ بوحدة الوريقات
الصفصافُ المُتهدل
يصطدمُ بحدادِ الاسفلتِ الباكي
تتابعُ العرباتِ ذاتُ الدخان
يلتهمُ الحِداد.
الهلالُ اللامعُ
يجذبُ
افرداً كثيرين
يفضحُ
حيرةَ الحدائقِ بين الحقيقةِ و الزيف.
صخورٌ أسمنتيةٌ
جسورٌ معلقةٌ
وضمائرُ هائمةٌ تطرقُ
وتُصَّد.
أفرادٌ
تريدُ و لا تقوى
تطالبُ و لا تحصل
تستسلمُ و لا تهان.
ليلٌ متعاقِب على
منازلَ مُهدمة.
في جنباتِها تؤوي
أنهاراً جافة
تحيا الفراغ.
دواب ُتقْعى، منتظرةً القرار
فراشاتٌ بنيةٌ تَحُطُ على اعلى المنازل المحصنة
تفضحُ المفارقة.
أطفالٌ كثيرون
يُمهدون طريق المصفحات.

1988
سلبيات
مبهمةٌ هي القصائد التي تُكتبُ عبر القارات. ولكنها كالفجرِ تحيلُ الحكاياتِ إلى المرايا القابعةِ على شواطئِ البحور حيث الرصاصاتُ تحملُ صمتَ التنفسِ الثقيل.
سلبتُ من الثعابينِ مرقَدَها و تندرتُ على جهامة الحروفِ و الطواحينِ و القبور.
شَعريَ السابحُ مع الهوام
قد يَقْنَعُ بحكايا الترجمان
لكنكَ سترى
أنني لن أتحدثَ أبداً مع النملِ القابعِ
في أعماقِكَ
ولكنني سأعشقُ كالتلميذِ العفيفِ شَعرك الجليديَ
في يومٍ عاديٍ من الأيامِ القديمةِ بين حوائطِ الدارِ الجديدة
حين سبقتني الألسنةُ والسحالي و الثعالب
لتقتل ملابسيَ الجديدةَ التي أعبدُ فيها روائحَ كثيرة
كنتُ غامضةٌ-أليس كذلك؟
مرتبكةٌ أيضاً
أعترفُ
بينما كانت حورُ الجنةِ الرابضةُ على أكفِّ الباعة الجائلين
تقولُ
لم تكتبينَ كلَّ هذه البيوتِ الشريدة
لمَ الإيمانُ بكلِّ هذه التعاويذ
تلكَ الحورُ العقلانيةُ المتوجةُ بالسنابلِ الكثيرة
صارتْ
تقولُ و تقول و تقول
وأنتَ و هو وهي و كثيرونَ
من همُ الآخرون؟
من أين جاءتْ تلك الأصواتُ الأخرى...التي أعرفُها فعلاً؟
ثم لمن كانت هذه الأصواتُ البعيدة؟
تمتمَ شريانيَ وللمرةِ الواحدةِ و الأخيرةِ-يوم أنسحبَ
الشعاعُ من تحت قدمي الضابطِ الذي
سَبَقني للظهورِ علي مسرحِ الخليقة حين حلَّقَ مع شهبِ
الاختفاء-
إن الكلماتِ التي زدنا عنها بالأسنانِ والضروس
لصيقةِ الحوائطِ و الأذهان
هل ذابتْ ذاكَ اليوم الذي
خطفوا فيه الروحَ السابعةَ...التاسعةَ
في مدينة التوحيد؟
تساؤلاتُ الغريبِ تخطو معهُ إلى الجدرانِ
التي عَرفها كثيرا في الأيام المُشمسة
ذاتُ الجدرانِ رحلتْ معهُ فوق مظلة شمسيةٍ
لتقعى خلف منضدةٍ بيضاء
ليست بالسرير. فالأسَّرةُ ماتت من زمنٍ بعيد
وليست بالخطاب لأن الحياءَ التهم كلماتِها
كما انها قد لا تكونُ بذهبِ المعاصمِ لأن أحلامَ يديهِ هربتْ
يوم أطرقَ النخيل.
ما هو الموضوع؟
أيتوج الكَذِب وجناتِ البنات الصغيرات
كي يتصوروكَ؟
أو أنهم لم يعودوا آباءً للمناجمِ الصغيرة
ولا لعَبَدةِ الشيطانِ
فتاهوا على عتباتِ المعابدِ
لمقايضةِ الرحمةِ بالفضول
أتريدُ فعلاً أن تفهمَ ما أقول
أو ان أكتُبَ لك خطاباً تُمزِّقهُ
أو أن أشُكَ في جمجمتِكَ البائدةِ
أو أن أدفنَ أسلاكَ التليفون في فحيحِ حيواناتِك السريةِ
ثم ما أنا فاعلةٌ بكل هذهِ الأجولةِ
المُعَّبئةِ بأنفاسيَ الثقيلة
أأحْمِلها للكلابِ التي لا تحمل اسماً يُكفنها
أم أبيعُها لعازفِ الناي يوزِّعُها على العازفين
أم...ماذا تقول؟
شموسُكَ بعيدةٌ في وجهِ العَدَم أنتَ الصديق
هل هناك في ذلكَ المكان أرواحٌ شجيةٌ؟
حيث ارتفعتْ كلماتٌ و حوائطُ
لأنني أو أنني لا أكتبُ المفرداتِ يوم لجأتُ لصرحٍ
يكرهُ الحروف.َ
وديعٌ أنتَ و هو والآخرون
وداعاً
لأنني سأتسلقُ الشارعَ سريعاً
لاقتناء بعض الصورِ الراكضةِ هناك
لأنني أبحثُ عن كلماتٍ أرتديها
هكذا تمنيتُ أن أكونَ يوماً شاعرةً تموتُ وهي
تجترُّ أرواحَها السبعةَ...أو التسعةَ على أرضِ الأربعين
مونتريال 1977