&
محمد الاشهب& :لا يتمثل التاريخ المشترك بين محمد اوفقير والمهدي بن بركة في صراعهما الواحد ضد الآخر فحسب, اذ بدأ الرجلان حياتهما مقربين من القصر, فكان بن بركة رئيس المجلس الاستشاري واوفقير رجل المؤسسة العسكرية, وهما تعرضا معاً لمحاولات اغتيال عدة. وأكد العميل السابق للاستخبارات المغربية أحمد البخاري ان مصدر العداوة يكمن في النظرة الاحتقارية لبن بركة إزاء (أولئك العسكريين الذين خدموا في الجيش الفرنسي وتسلقوا الرتب بفعل الولاء للأجنبي).
يوم صدور الحكم بادانته في باريس في الخامس من حزيران (يونيو) 1967 سألت فاطمة زوجها أوفقير : (ماذا فعلت؟) فكان جوابه: (انني هنا في الرباط ولن اغادر الى فرنسا ابداً). وزاد: (لم اقتل المهدي بن بركة. اصارحك بذلك). وأصر أوفقير على براءته من دم بن بركة, لكنه لم يستطع ان يثبت ذلك قضائياً, معللاً وجوده في باريس في تلك الفترة بأنه كان من اجل (محو آثار الغسيل الوسخ), وان لم يوضح من المقصود بالجهة التي كانت وراء ذلك الغسيل ونشره.
&
يبقى السؤال قائماً حول العلاقة بين قضية بن بركة ورغبة أوفقير في ازاحة الملك الحسن الثاني, علماً ان الروايات التي تتقاطع حول زيارته لباريس في اليوم التالي لخطف بن بركة وسفره بعد ذلك الى جنيف ثم العودة الى باريس للمرة الاخيرة في حياته, تزيد في حدة السؤال حول ضلوعه في الحادث, وان كان افراد من عائلته يرون في تبرئة العقيد احمد الدليمي مدير الامن الوطني آنذاك اجراء كان يمكن ان ينسحب على وضع الجنرال نفسه لو حضر الى المحكمة, علماً ان انضباطه العسكري الذي عُرف به يتنافى ورفض المثول امام القضاء الفرنسي. وثمة من يذهب الى ان سيناريو ذهاب الجنرال الى باريس تقرر في اللحظات الاخيرة بعد حدوث الوفاة المفاجئة للمعارض بن بركة في فيلا بوشيس في ضواحي باريس. لكن افادات عميل الاستخبارات المغربي السابق احمد البخاري تركز على عكس ذلك وتقدم سيناريو آخر حول زيارته باريس بشكل سري ثم العودة الى الرباط, والتوجه من المغرب الى باريس في اليوم التالي لابعاد الشبهات.
شاء قدر فاطمة أوفقير ان تكون حاضرة بقوة في حادثي اختفاء بن بركة في تشرين الاول (اكتوبر) 1965 والمحاولة الانقلابية لاطاحة الحسن الثاني في 16 آب (اغسطس) 1972. في اليوم التالي لخطف بن بركة في باريس كانت فاطمة على موعد مع الجنرال في جنيف لزيارة ولديهما رؤوف ومارية, وقالت انهما قضيا الليل في فندق (بريزدانس) في جنيف كل على حدة لانهما كانا مطلقين, وانها لم تسمع بقصة الخطف الا بعد حدوثها بيومين تقريباً. وفي المحاولة الانقلابية كانت في منتجع صيفي في تطوان. كما انها لم تكن بعيدة جغرافياً عن حادث الصخيرات عام 1971, اذ انها كانت على شاطئ البحر برفقة صديقات لها قريباً من القصر عندما انبعث غبار كثيف خيّم على الشاطئ. وعند توجهها الى قصر الصخيرات لمحت شاحنة عسكرية تخرج من بابه الرئيسي ثم السفير الكندي في الرباط الذي قال لها ان (مجزرة تحدث هناك).
ساد الغموض العام الذي تلا المحاولة الانقلابية الاولى, فهل كان اوفقير مضطراً للمغامرة ام انه كان متورطاً في حادث الصخيرات وانتظر الفرصة الملائمة التي لم تكن كذلك عملياً, خصوصاً ان المتداول في اوساط عدة انه طمأن المتورطين في حادث الصخيرات بحصولهم على محاكمة عادلة او التخفيف من الاحكام التي ستصدر ضدهم. لكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً, اذ سيقوا الى الاعدام. وتفيد معطيات ان الملك الحسن الثاني عهد الى العقيد أحمد الدليمي الاشراف على التحقيق مع المتورطين, ما يفيد باحتمالات الشك في دور اوفقير في تلك المحاولة, خصوصاً ان نجم الدليمي سيلمع بعد ذلك وسيصبح الرجل القوي في المؤسسة العسكرية بعد غياب اوفقير, وهو مثل أمام القضاء الفرنسي عام 1967 في قضية اختفاء بن بركة, وعاد الى فرنسا بعد ذلك برفقة الحسن الثاني عام 1972, وكان واحداً من الذين رافقوه على متن طائرة البوينغ التي تعرضت للقصف: فهل كان اوفقير يريد التخلص منه ايضاً بسبب قضية بن بركة ام انها ترتيبات بروتوكولية حتمت ان يكون على متن الطائرة الى جانب المستشار الراحل ادريس السلاوي ووزير الدولة السابق احمد العلوي وآخرين عاشوا ادق تفاصيل المواجهة, حين تحولت مقصورة الطائرة الى مكتب طارئ لرصد الموقف. وربما كان الدليمي اول من تبادر الى ذهنه الارتياب في دور اوفقير لانه كان عسكرياً يعرف ادق تفاصيل الاوامر العسكرية وسبل تأمين الذخيرة.
كان العقيد محمد امقران الذي قاد احدى الطائرات التي هاجمت طائرة الملك على علاقة وثيقة مع الجنرال اوفقير, خصوصاً انه كان قائداً للقاعدة العسكرية في القنيطرة شمال العاصمة الرباط, وسبق للجنرال ان استدعاه بعد أربعة أيام من حادث الصخيرات, ويقال انه اخبره ان هناك شكوكاً تحوم حول تورطه في الحادث, لكن الجنرال انقذه, ما يعني انه أوحى له بأن الفضل في بقائه على قيد الحياة يعود اليه, وبالتالي لم يكن وارداً ان يخالف أوامره اللاحقة, لجهة قصف طائرة الملك والمشاركة في المحاولة الانقلابية الثانية. وكانت خطة اوفقير ترمي في غضون ذلك الى استمالة قادة المعارضة الرئيسية, فشرع في ابداء خطوات انفتاح عليها بهدف تغيير صورة الرجل المتورط في اختفاء المعارض المهدي بن بركة.
استدعى الجنرال اوفقير العقيد الوافي كويرة الذي شارك في قصف الطائرة الى اجتماع في الدار البيضاء في فيلا السيدة آسية الأزرق عقيلة الوزير محمد الأزرق في 15 آب (أغسطس) 1972, قبل يوم واحد من تنفيذ الخطة, ووضعه في صورة الخطة التي كان تحدث اليه العقيد امقران في شأنها. لكن السيدة الأزرق حين ووجهت بالسؤال حول ذلك اللقاء, قالت ان الجنرال اوفقير كان يتردد على بيتها باستمرار, لكنها اكتفت بتقديم مشروبات للضيفين, ولم تسمع أي شيء عما دار بينهما ذلك المساء. وكشفت التحقيقات ان الخطة كانت تقضي ان يكون ربان طائرة الـ(بوينغ) واحداً من المتورطين, وان يتظاهر بحدوث عطب في محرك الطائرة كي يتسنى له الهبوط الاضطراري في مكان يبعد عن السكان ويستحسن ان يكون غابة أو مركزاً تحيط به الاشجار, على ان يتم اقتياد الملك ومرافقيه عبر الاتصال بأحد الضباط في القاعدة العسكرية في القنيطرة لإخباره ان (الطرد في طريقه اليكم), وهي العبارة نفسها التي تحدث عنها عميل الاستخبارات السابق أحمد البخاري لدى عرضه لوقائع اختفاء بن بركة وتذويب جثته, عندما روى ان آخر مكالمة بين مسؤول في جهاز الاستخبارات المغربية ومركز (الكاب 1) تضمنت التأكيد ان (الطرد في طريقه الى الرباط). بيد ان اختيار الملك الربان محمد القباج لقيادة الطائرة افسد الخطة, فأجرى اوفقير اتصالاً من برج المراقبة في الرباط مع احد الضباط أبلغه فيه انه (في حال فشل اسقاط الطائرة فإن لواء من المصفحات سيتولى المهمة في مطار الرباط لدى نزول الطائرة).
مساء 16 آب اختفى الجنرال اوفقير عن الانظار, وتوجه جنرالات برفقة وزير الدولة احمد العلوي الى مقر قيادة الأركان العامة. وروى العلوي انه وجد اوفقير هناك, وسأله هل تعلم ان مدينة الرباط تعرضت للقصف مرتين على الأقل, ورد أوفقير: (ما ان علمت بذلك حتى هبط وزني بضعة كيلوغرامات). في الوقت نفسه كانت تجرى محاولات لتطويق المحاولة الانقلابية, لكن ضباطاً في القيادة العسكرية في القنيطرة كانوا يمنعون أي شخص من الدخول الى القاعدة. وتردد في غضون ذلك ان الجنرال اوفقير اتصل بأحد الضباط في قاعدة القنيطرة, وأصدر اليه أمراً بـ(قتل كافة الطيارين بمجرد هبوطهم على الأرض). لكن أحد الحاضرين عقب على ذلك: (لا يمكن قتل الطيارين من دون استجوابهم). ولعله لهذا السبب اختار العقيد محمد امقران وأحد رفاقه الهرب الى جبل طارق, في حين ان كويرة الذي حاول الاحتكاك بطائرته مع طائرة الملك في الجو هبط عبر مظلة, وفوجئ بعد فترة بسيارة جيب عسكرية تقوده الى مركز ما كان يوجد به الملك الحسن الثاني شخصياً الذي سأله عن وقائع الاحداث, فأجاب بما يفيد بتورط الجنرال اوفقير. والحال ان وزير الداخلية المغربي آنذاك محمد بن هيمة كان اجرى اتصالات عدة في اليوم ذاته مع الجنرال اوفقير, كان خلالها يضعه في صورة المعطيات التي توافرت لاجهزته, ومن ذلك مثلاً اعتقال كويرة الذي وعده انه سيسلمه اليه, وزاره في المساء ذاته في قيادة الاركان لمتابعة الموقف, لكنه اختار العودة الى الداخلية, إلا ان معلومات عاجلة افادت ان الأمن البريطاني استنطق امقران خلال هبوطه عبر طائرة هليكوبتر في جبل طارق وانه صرح ان جنرالاً كبيراً يبدأ اسمه بحرف (الواو) متورط في المؤامرة. وأبلغ وزير الدولة في الخارجية البريطانية آنذاك جوزيف غوديير السفير المغربي في لندن التهامي الوزاني ان ثلاثة طيارين مغاربة طلبوا اللجوء السياسي الى سلطات جبل طارق, واعترفوا بمشاركتهم في قصف الطائرة الملكية, وان سلطات بلاده وافقت على تسليمهم الى المغرب على اساس ان وجود أولئك الاشخاص في جبل طارق (لا يخدم المصلحة العامة). توجه وزير الداخلية المغربي الى القصر الملكي في الصخيرات, حيث كان الملك الحسن الثاني طلب الجنرال اوفقير. ويروي بن هيمة ان اوفقير عندما دخل القصر وجد الجنرال مولاي حفيظ العلوي وزير القصور والتشريفات الملكية والعقيد أحمد الدليمي ووزير الداخلية, وسأل ان كان الملك التقى أياً من المتورطين, وحين أجيب بالايجاب, اخذ المسدس وأطلق رصاصة على رأسه قائلاً: (أعرف الآن ماذا ينتظرني).
في السياق نفسه صرح الأمير عبدالله شقيق الملك الحسن الثاني ان الطائرة التي كانت تقل الملك كانت تطير على ارتفاع منخفض, ما بين ثلاثة وأربعة آلاف قدم, وانه بعد تعرضها للقصف انتحل الملك الحسن الثاني شخصية احد التقنيين ووجه نداء الى المقاتلات قال فيه ان الربانين قتلا, وان الملك اصيب بجروح خطرة, ما ساعد في تخفيف الهجمات.
قبل حوالى أربعة ايام من الهجوم على الطائرة الملكية في الاجواء زار اوفقير افراد عائلته الذين كانوا يقضون عطلة في تطوان. قالوا انه كان عادياً وودوداً وطلب اليهم الاستماع الى الموسيقى ورافقهم الى السباحة على ساحل البحر المتوسط. ترك المنتجع عائداً الى الرباط لملاقاة قدره على غير ما كان متوقعاً من الخطة التي نسج خيوطها. وقد أكد أفراد العائلة ان شيئاً لم يصدر عنه خلال تلك الزيارة يوحي بما هو مقدم عليه.
بعد فشـــــل المحاولة الانقلابية وتيقن الجنرال أوفقير من انكشاف أمره اتصل بأفراد اسرته فقط. كانت زوجته فاطمة وابناه رؤوف وعبداللطيف وبناته مارية ومريم وسكينة في تطوان, وكانت مليكة في الدار البيضاء.
في تلك الليلة اي في 16 آب (أغسطس) 1972 تلقت مليكة مكالمة من امها فاطمة التي طلبت اليها بالحاح ان تغادر الدار البيضاء, وتعود الى الرباط. كذلك فعل عمها وبعض الاصدقاء, لكنها كانت تعاند في تصديق رواية ان أباها الجنرال مات, قالت لصديقتها: (لعله جرح فقط), وعندما كانت تقطع المسافة بين الدار البيضاء والرباط اطلقت العنان للخيال غير مصدّقة ان الجنرال يمكن يموت هكذا من دون ان يودعها. في الطريق كانت دوريات للامن والجيش تراقب حركات السيارات, كان الامر اشبه بحال طوارئ معلنة, ولم تفق من غفوتها الا بعدما وصلت الى الرباط, عند مدخل المدينة جنوباً كانت حركة السير شبه منعدمة, فالناس احتموا في بيوتهم, فيما حدث ازدحام امام محلات بيع المواد الغذائية التي نفدت من الاسواق, حتى علب السردين والخضر المصبّرة اختفت دفعة واحدة واغلقت المخابز ابوابها.
دب الشعور بالخوف في نفس مليكة مع فارق انها كان تخاف من المستقبل اكثر من خوفها ازاء الظاهرة التي بدت مفاجئة لها. فالى سنوات خلت كان الملك الراحل محمد الخامس طلب الى الجنرال اوفقير ان يتركها تعيش بين احضان الاسرة المالكة الى جانب بقية الاميرات, وهناك تفتحت عيونها على حياة القصر المطبوعة بالترف والابتعاد عن عيون الناس. كانت تعرف الملك الحسن الثاني شخصياً, وتذكرت ان آخر مرة التقته كان لطيفاً وحنوناً, وتمنى عليها ان تتسلح بالثقة اثر تعرضها لحادث سير وحرص شخصياً على ان يواسيها ويعايدها في كل مناسبة.
في طريق عودة عائلة أوفقير الى الرباط من تطوان حيث كانت تقضي اجازة الصيف مع افراد من الاسرة المالكة, بدا ان الزمن أصبح اكثر بطئاً. كانت الاسئلة تتـــناثر حول الحـاضر والمستقبل. كانت النقاط العسكرية التي عبرتها السيارات الثلاث التي كانت تحمل العائلة والمرافقين وبعض الحراس تقدم لهم العزاء, الا ان حرارة المواساة ستختلف في الايام بل الساعات اللاحقة.
كانت المنعرجات التي تقطعها قافلة السيارات أشبه بمنعرجات من نوع آخر ستلف ما تبقى من حياة فاطمة أوفقير, لكنها ستقضي فترة طويلة قبل ان تسمع عن حادث السير الذي قتلت فيه صديقتها الأميرة للا نزهة شـــقيقة الملك الراحل الحسن الثاني عام 1979 في الطريق نفسها. فالموت لم يفرق فاطمة عن الجنرال فحســــب, بل رمى بها بعيداً الى عالم آخر يختلف عن كل ما عاشته في ســـــنوات العـــمر الجميلة, وان احتفـظت بملامحها البربرية الفاتنة التي تخفي شخصية قوية مكنتها ان تصبح احدى أبرز نجمات المجتمع الراقي قبل ان تضـــــطرها قسوة الايام لأن تحيك ملابسها بنفسها, بعدما كانت زبونة مفضلة لدى أبرز المحلات الفاخرة في باريس وروما ولندن وواشنطن.
وصلت فاطمة الى فيلا السويسي, وغيرت ملابسها وأخفت سمرة الشمس اللافحة على جسدها في حمامات شواطئ تطوان بجلباب أبيض, ووضعت على رأسها قطعة قماش أبيض كما في تقاليد الحزن على الموتى. لم تهدأ الحركة تلك الليلة. كانت أفواج الاصدقاء والمتنفذين يقدمون لها التعازي ويدعونها الى الصبر فالأقدار لا مرد لها. وكما في التقاليد التي يمتنع بموجبها أهل الميت عن ايقاد النار, جاء العشاء من القصر الملكي على متن أطباق من فضة كان يحملها عاملون يرتدون اللباس التقليدي وضعوا الموائد في جنبات الحديقة. كان الحزن يلف المشهد, ولم يكن الموت يغيب الجنرال المتنفذ وحده, لكنه كان يغيب حياة آخرين ارتبطوا به رجلاً قوياً, كما في القسوة التي تجلب الضعف. وربما زاد في حدة المأساة ان غيابه غير المتوقع لدى الأسرة جعل الشكوك تحوم حولها. فقبل 16 آب 1972, كانت فيلا السويسي تعج كل مساء بالحركة: ضباط متنفذون يأتون وآخرون يذهبون ولا احد يعرف ماذا كان يدور تحديداً في الجلســات المغــلقة التي كان بعضها يدوم حتى الفجر. وربمــا كان ذنب فاطمة التي تعرف (تقاليد المخزن) اي الســـلطة جيداً انها لم تضع القصر في صورة تلك الجلسات. إلا ان ما أضفى على الموقف تعقيدات اكثر ان الكلام عن تعرض زوجها للقتل وليس الانتحار تردد مرات عدة منذ ان حمل نعشه الى فيلا الســــويسي. اصـر بعض أفراد العائلة على رؤيته, وروى بعضهم ان جسده كان مسجى بكامل ملابسه العسكرية فيما وضعت قبعته العسكرية على صدره الى جانب نظارته التي تكسر زجاج احداها بفعل طلقات الرصاص.
تأثر وضع الزوجة بفعل الشكوك التي سادت عن معرفتها ببعض ما كان يدور في فيلا السويسي من لقاءات للاعداد لإطاحة الملك الراحل الحسن الثاني, خصوصاً انها كانت زارت العقيد محمد امقران المتورط في أحد مستشفيات باريس. الا ان روايتها لظروف ذلك اللقاء تختلف عن قرائن الضلوع في الحادث, اذ قالت ان زوجها طلب منها خلال زيارة خاصة لباريس في تموز (يوليو) 1972 عيادة صديقين عسكريين في احد المستشفيات الباريسية, الأول العقيد لوباريس الذي اصيب في حادث الصخيرات وأصبح جنرالاً بعد ذلك, والثاني العقيد امقران الذي قاد في ما بعد احدى الطائرات التي هاجمت طائرة الملك حيث تعرفت فاطمة على واحد من زواره وهو المعارض المغربي الفقيه محمد البصري.
بعد أيام قليلة سيغيب اصدقاء كثيرون كانوا اعتادوا زيارة عائلة أوفقير, وتدريجاً ستنتقل وقائع الحزن الجنائزي الى حزن من نوع آخر, اذ طوق أفراد من الأمن فيلا السويسي التي كانت محجاً للزوار من فئات ارتبطت بعلاقات مع اوفقير, ودخلت فاطمة وأفراد عائلتها فترة اقامة جبرية لم تكن واضحة المعالم. فكرت في ان الوضع لن يطول اكثر, فغضب الملك من تورط اوفقير, رجل الثقة في المحاولة الانقلابية الثانية, يمكن ان يخف مع الأيام, و(الأسرة الصغيرة لا ذنب لها في ذلك) في أي حال.
تذكرت ان الزيارات اقتصرت على رجال مدنيين مقربين الى المــــلك, امثال المســــتشار احــــمد رضـا غــــديرة ووزير الدولة احمد العلوي وشخصيات مســــتقلة, لكنها لاحظت ان أياً من الشخصيات العسكرية لم يقدم العزاء, فقط نساء كبار قادة الجيش اللواتي كن يرتبطن بعلاقات مع العائلة. بدا الأمر أشبه بصدمة, لكن القرب من الملوك يكون اخطر حين تزلزل الثقة, والمرأة من فرط كونها قريبة من القصر كانت تدرك هذه الاشياء.
ثمة من ذهب الى انها صارحت صديقات لها بشكوكها في مقتل الجنرال اوفقير وليس انتحاره, وتردد انها رفضت استلام العشاء الذي بعثه القصر في سياق تقاليد المواساة, ويذهب آخرون الى ان افتعال حكاية البذلة العسكرية التي اختفت منذ اليوم الأول لغياب اوفقير قد يكون وراء معاناة العائلة, فأثناء مراســــم غسل جثة الجنرال أصرت العائلة على الاحتفاظ بملابسه العسكرية التي كان يرتديها قبل ان يغيبه الموت قتلاً أو انتحاراً, وعندما جاء ضباط من الجيش يســـألون العائلة عن الملابس, قالت انها احرقتها, اذ انه الدليل الحاسم على طريقة موته سواء لجهة عدد الرصاصات التي اخترقت الجسد أو طريقة الانتحار المحتملة التي تحدث عنها بيان رسمي. وفسر رد فاطمة على انه محاولة للإصرار على معرفة الحقيقة الأخرى. لكن حقيقة مآل بزته العسكرية غابت مع موته وحامت شبهات حول الاشخاص الذين تورطوا في اخذها أو تسليمها الى جهة ما, وتردد ان عقيلته فاطمة روت ان قضية الملابس العسكرية شكلت بداية قطيعة مع القصر ستدفع العائلة ثمنها غالياً على امتداد حوالى 20 عاماً تخللتها سنوات طويلة من السجن والعزلة والحصار.
مع ذلك بكت في 23 من تموز (يوليو) 1999 حين علــــمت ان الموت غيّـــــب الملك الراحل الحسن الثاني الذي احتــــفظت لنفسها بذكريات تقدير ازاءه على رغم كل ما حدث, وعرضت الى مظاهر ذلك التقدير حين خصّها برعاية حفلة كبيرة لمناسبة احد اعياد ميلادها, فضلاً عن انه كان يحضر شخصـياً الى فـيـلا العائـلة من دون بروتـوكول او اجـراءات خاصة. ويعتبر رؤوف النجل الاكبر للجنرال ان تلك الزيارات تفنـّد كافة المزاعم حول تورط اوفقير في محاولات اطاحة نظام الحسن الثاني (اذ لو كان يعتزم قتل الملك لكان في امكانه ان يفـعل ذلك في واحدة من تلك الزيارات).
بعد نهاية فترة العدة بحسب الشريعة الاسلامية زار مدير الامن الوطني ادريس حصار فيلا السويسي وطلب من فاطمة ان تجمع بعض حقائبها للذهاب الى مكان آخر لبعض الوقت. وعندما حاولت الاستفسار أجاب بأن الامر لن يستغرق سوى بضعة ايام, لكن روايات قالت انه تحدث اليها عن (ايام مظلمة في انتظار العائلة). وان كان قياس تلك المأساة تجاوز الايام نحو السنوات, وامتد من الرباط الى تخوم الصحراء في مناطق نائية على الحدود المغربية جنوب شرقي الجزائر ثم الى الساحل الاطلسي في منطقة (البئر الجديد) على الطريق الرابط بين الدار البيضاء والجديدة, من دون اغفال سنوات اقامات جبرية موزعة بين مراكش والرباط.
الأرجح ان هاجس التخلص من عائلة اوفقير لم يكن وارداً, لكن سماع اسم اوفقير ظل مزعجاً كما في مظاهر الحب القاسي الذي ينتهي قتلاً او جنوناً, وربما كان مصدر تلك المأساة ان الأم فاطمة لم تكن بعيدة عن حياة القصر وان ابنــــتها الكبــرى تربت في احضانه الى جانب الأميرة للا امينة شقيقة الملك الراحل الحسن الثاني عنــــدما وقع اختـــيار الملـــك الراحل مـــحمد الخامس على الطـــفلة مليكة لتـــدخل حياة القصر الى جانب اطفال آخرين كان النجباء منـــــهم يدرسون برفقة الامراء, ومنهم غالباً كان يأتي بعض الوزراء والمســــتشارين ورجال الدولة, اذ اصبح رفاق الملك الحسن الثاني في الدراسة مســــؤولين رفيعي المستوى من بينــهم احمد عصمان رئيس الوزراء وعبدالحفيظ القادري وزير الشــــباب والرياضة وعــــبدالله غرنيط وزير الصــــناعة التــقليدية وعبدالحق القادري الذي تولى منصباً رفيعاً في الامن والاستخبارات الى غير ذلك. لكن مأســــاة مليكة كمـــا افراد عائلتــــها وخصـــــوصاً أمها فاطمة انها خرجت من القصر لتواجه مصيراً غامـــضاً, زاد في تعقيداته ان اباها الجنرال تورط في محاولة انقلابية, ووصــــف الملك الراحل الحسن الثاني افراد الاســرة بأنهم (تعساء). لكن التعاسة تتحول الى مأساة تترك جروحاً بليغة في النفوس.
(الوسط اللندنية)