حسن المصطفى
&
يظل محمد أركون، وما يكتبه ويقدمه من اطروحات معرفية، يرادُ منها إعادة التأسيس للفكر الإسلامي وإعادة قراءته، اسما محل سجالٍ دائم، كون الموضوعات التي يطرحها تلامس جوهر الدين في تشكله الداخلي، وبنيته العقدية، التي يقرأها أنثروبولوجيا وتأريخيا، بمنهجية تعتبر في العرف الكلاسيكي الإسلامي من خارج الدائرة الإسلامية، ولا يجوز أن توظف بهذا الشكل في قراءة النص الديني وتفسير "الظاهرة الدينية".
هذا السجال حول الطرح الأركوني، ربما يجد ما يبرره من جهة، كون أركون بتمكنه المعرفي، طرق موضوعات هامة، تتعلق بالقرآن الكريم، وتشكل النصين القرآني والنبوي، محاولاً أن يربط الإنتروبولوجيا بالدين، في محاولة منه لقراءة الدين ضمن سياقاته البشرية، بوصفه ممارسة حياتية ويومية من قبل الناس، ومدى تأثير كل طرف على الآخر. هذه الموضوعات التي تطرق لها أركون -وغيرها الكثير- تناولها بلغة علمية بعيدة عن الحماسية والاستفزازية، والكتابة الاستعراضية، متوسما من المناهج العلمية الحديثة أداة لقراءة التراث الإسلامي. أي أنه فيما كتب وذهب إليه كان مستندا على منهج مبنٍ على دليل أفضى لنتيجة محددة وفق المعطيات التي توفرت له. وهو بهذه العلمية، كان من الصعب على الكثير من المثقفين مناقشته والتساجل معه بذات العمق المعرفي، لا لكون جميع أفكاره أفكارا صحيحة لا لبس فيها، أو إيمانا بصوابيته المطلقة، بل لعلمية ما طرح وجدته.
لا أحد يمكنه اعتبار أركون سقفا لا يمكن تجاوزه أو نقده نقدا علميا. كما لا يمكن أن يُعتبر جميع ما توصل إليه بالصحيح المطلق، فهو بشر يخطئ ويصيب، وكما له حسناته، فله عثراته، لذا ينبغي أن يُقرأ قراءة نقدية علمية، دون أي امتياز له على باقي المفكرين. وليكون النص الأركوني محل قراءة موضوعية، ينبغي الالتفات للتالي:
&
1- أن محمد أركون وضمن النتائج التي توصل إليها، اتبع منهجية علمية، يمكن وصفها بخلاصة لعدة من المناهج الغربية الحديثة، التي حاول أن يوظفها في فهم النص الديني، والتراث الإسلامي. هذه المنهجية تعتبر بمثابة الأداة والآلية التي تقرأ من خلالها النصوص، رغم تنبه أركون الشديد والحذرِ لمدى ارتباط المنهج بالثقافة التي انبثق منها. لكنه ضمن ذلك كله يحاول أن يُفعل المنهج وما يتناسب وطبيعة النص والتراث الإسلاميين، دون أن يسقط الثقافة الغربية بكل اختلافاتها عليه.
&
2- هذا المنهج اعتمد على الإنتروبولوجيا بشكل رئيس، إضافة لتاريخية النص الديني، وهو ضمن قراءته التاريخية يختلف عن الكثير من المفكرين، كون اللغة وتطورها وبالأخص "المجاز"، كل ذلك يحضر بشكل فاعل في طريقه لقراءة وفهم النص الديني، معتمدا على مفهوم المجاز في زمن صدور النص، وتطور هذا المفهوم، وصولا لمرحلة كتابة التفاسير، ومدى تأثر المفسرين بالمجاز ونظرتهم له.
&
3- القارئ لأركون يجده معنيا بشكل كبير بقراءة التاريخ والتراث الإسلامي لمختلف المذاهب الإسلامية والتيارات الفكرية التي تشكلت ضمن الدائرة الإسلامية في العهود السالفة. وهو في قراءته هذه يحاول أن يرجع لجذور التشكل الأول، محاولا فهم هذه الجذور والأصول والتأسيس عليها. وهذا بالضبط ما فعله مع مفهوم "الأنسنة" برجوعه لجيل مسكويه والتوحيدي. إضافة لذلك يعنى أركون بقراءة التراث الإسلامي وكلاسيكياته بشكل كبير، مما يجعل تهمة انقطاعه عن التراث أو انقلابه عليه أمرا غير ذي صحة، وإنما اشتغاله عليه يرتبط بتاريخية هذا التراث من جهة وفكريته وسياقاته الإنتروبولوجية.
&
4- أركون فيما يكتب، يحاول أن يؤسس لمرجعية إسلامية أوسع، تكون بسعة "الأنسنة" التي يحاول التأسيس لها، وهو بهذا التأسيس لا يمكن أن يعتبر محاولا احتكار المرجعية لذاته، وإنما توسيع دائرتها للاستفادة من تطور المعارف في خلق رؤية إسلامية حديثة تتواصل وديمومة الطرح القرآني والرسالة المحمدية. لذا لا يُراد أن يحل أركون محل أي مرجعية إسلامية أخرى، بقدر ما يراد أن تتجاور الأفكار والمفاهيم لتتشكل رؤية أوسع تسع الجميع. من هنا كان أركون "مفكرا إسلاميا" - لا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة- وإنما بمعنى اشتغاله في هذا الحقل بمعناه الواسع.
&
5- أركون وفي اشتغاله، - كما أُوضح سلفا- بعيد كل البعد عن الشعاراتية واللغة الصدامية أو الاستفزازية، وتوسمه العلمية يشفع له في بعض أخطائه، كونها خطأُ من اجتهد، لا من راح يعيث قراءة دون اجتهاد. والاجتهاد المقصود هنا، ليس الاجتهاد الفقهي والأصولي، وإنما التمكن المعرفي وحيازة الأدوات العلمية التي تجعله على مقدرة من قراءة النص والتراث وبالتالي تفسيره أو تفكيكه وتأويله والتأسيس عليه. وفي هذا الصدد، يشير العلامة د.عبد الهادي الفضلي، لشيء من ذلك، عندما أوضح بأن أركون تتبع مصطلح "الكلالة" بشكل علمي لدرجة أنه حتى بعض الفقهاء سيكون عليهم عصيا أن يقوموا بمثل ما قام به أركون من تتبع.
&
6- إن قراءة أركون، لا بد أن تُأخذ بشكل منهجي، بعيداً عن اجتزاء المقولات. فهو كمفكر له حسناته، وله زلاته، وربما كانت له عثرات يستغرب أن تصدر من شخص مثله بهذا التمكن المعرفي. إلا أن توسمه المنهجية وكونه لا يتقصد أن يتبنى ما يخالف صريح الدين بهوى نفس أو خبث سريرة، فإن المرء لا يمكن أن يخرجه من الدين أو ينزع عنه صفة الإسلام.