د. أشرف الصباغ
&
"فارس بلا جواد" عمل ضعيف على المستوى الفنى. وهو عمل مثل أعمال فنية كثيرة سواء فى المسرح أو السينما أو التلفزيون تناولت قضية الصراع العربى-الصهيونى وفشلت فنيا لأسباب كثيرة أهمها الاستعجال وعدم وجود الرؤية الفنية الكلية والشاملة، والموسمية أو امتطاء الحدث من دون التأصيل له سواء على المستوى الفنى أو المضمونى بمعناه الواسع. ومع ذلك فالمسلسل سوف يظل يعيش فى وجدان الناس لفترات طويلة، وسوف يتم استخدامه كأيقونة سواء من أصحابه أو من المؤسسات الرسمية المستفيدة من إلهاء الوعى العام (هذا طبعا إذا كان موجودا!). وإذا كانت الولايات المتحدة ووزارة خارجيتها ووسائل إعلامها قد تركت "النضال ضد الإرهاب"، و"المصيبة العراقية"، و"الولايات والأبعديات التابعة لها فى شتى أنحاء الأرض" وأخذت تصدر بيانات الاحتجاج تباعا، وبالتبعية بدأ الرأى العام العربى "السعيد" ينشغل بقضية "فارس بلا جواد" تاركا الأمور الأكبر فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، ومتناسيا مصائر ملايين المواطنين العرب "البسطاء" من الماء إلى الماء، والتى تركت فى أيدى بشر ما أنزل الله بهم من سلطان، إذن فـ "هناك شئ ما خطأ" على رأى السيد برتولد بريشت. وبالمناسبة، فمحمد صبحى، الذى كان فى يوم من الأيام طالبا موهوبا فى المعهد العالى للفنون المسرحية، وتمكن من إثارة الإعجاب عندما قدم فى صباه الفنى "هاملت"، أصبح منذ زمن طويل يعشق الفرقعات، وأثبت أنه تلميذ فاشل لبريشت ولغيره. وهذا لا ينفى نجاحاته فى أعمال فنية أخرى. أما الهجوم الضارى الذى يتعرض له "المسلسل"، فهو-الهجوم- فى واقع الأمر "مسلسل" عبثى آخر يأتى ضمن سياق عام من العبث وإثارة الدهشة المشوبة بالغضب والقرف، وكأن "فارس بلا جواد" قد أصبح العقبة الوحيدة فى سبيل ترسيخ دعائم النظام العالمى الجديد، أو حجة "فرسان الزمن الجديد" بصدد "الموضوعية، وتوخى الصدق، وتحسين صورة العرب، وتأجيج الصراعات القومية والدينية.. ووو". أليس من الممكن أن صبحى يريد التحدث عن شئ آخر تماما؟! عن، مثلا، هل هناك فرسان فى هذا الزمن أم لا؟ هل هناك جياد أصيلة أم لا؟ أم إن أحدهما موجود والآخر مجرد وهم لا يوجد إلا فى التاريخ العربى المزيف الذى يجرى دسه يوميا فى رؤوس التلاميذ؟ أم لا يوجد لا هذا ولا ذاك، والفرسان والجياد مجرد وهم نصر على أن نعيشه حتى آخر شهقة من صدور البسطاء من الماء إلى الماء؟ تساؤلات كثيرة بعيدة عن الفذلكة، والحذلقة. وربما أراد صبحى أن يربط بين كل تلك الأوهام وبين إحدى القضايا العربية المركزية، فاختار موضوعا/حيلة فنية مثيرة للاختلاف! ولكن هل هناك فن حقيقى لا يثير الخلاف والاختلاف؟ أم إن "المثقف العربى السعيد" يتعامل مع الأمور ليس فقط بمعيارين، وإنما بعدة معايير؟! ما يسمى بـ "الهولوكست" عليه اختلافات كثيرة، ولكن 70 من الإنتاج الفنى والأدبى الصهيونى العالمى والإسرائيلى، ونسبة ضخمة من هذا الإنتاج فى دول كثيرة تقوم تتناول هذا "الهولوكست". فهل ننسى أفلام الأوسكار والمهرجانات الدولية التى فازت بالجوائز الأولى وأغلبها قائمة أساسا على ما يسمى بـ "الهولوكست"؟!! ولكن الفنان العربى، سواء اتفقنا مع رؤيته الفنية أو اختلفنا، مجبر على تناول البديهيات، ومرغم على التعامل مع الثوابت، وليس لديه أى خيار، حتى الفنى، سوى ما يُسمَح له به.. بل ويجب أن يصدر بيانا إلى الأمم المتحدة ليأخذ تصويتا بالإجماع على موضوعه الفنى، وإلا أصبح كذا وكيت..
فهل يسمح لى الأوصياء على تناول ما يسمى بـ "بروتوكولات حكماء صهيون"، أسوة بمن تناولوا "هولوكوست حكماء صهيون"؟
لمحة تاريخية
"في بداية القرن الثامن عشر، وعلي وجه التحديد في الربع الأخير من القرن السابع عشر، وبعد فتره طويلة من التدهور، ظهرت بين اليهود حركة ثقافية-اجتماعية، متأثرة إلي حد كبير بأفكار فلاسفة التنوير الأوربي، تدعي هذه الحركة لدي اليهود باسم (حركة حسكلاه) كما تبناها أبوها الروحي موسى مندلسون، تعتبر حركة إحياء للثقافة اليهودية، ولكن سرعان ما نما فيها الجانب السياسي والاجتماعي، وتمثل ذلك في الرغبة في التحرر السياسي، والتي انتصرت علي الرغبة في الإحياء الثقافي. هدفت "حسكلاه" إلي إلغاء القوانين الخاصة باليهود، وعاونت في ذلك مع المحاولات التي قام فريدريك الأكبر ويوسف الثاني لدمج اليهود في الحياة العامة في الدولة والعمل علي خدمتها، كما شجعت اللقاءات الثقافية بين اليهود وغير اليهود، وحاولت من جهة أخري أن تنشر أراءها بين الجماهير اليهودية المتحفظة وأن تقيم مجموعة من المدارس المتطورة". (د. أحمد حماد-توظيف الشخصية الدينية فى الأدب لخدمة الفكرة الصهيونية-مجلة عالم الفكر-المجلد الرابع عشر، العدد الأول، أبريل-مايو-يونيو 1983، ص 161).
"لقد قابل اليهود-بكثير من المقاومة والرفض-جميع الحلول الممكنة للمشكلة اليهودية في أوربا وأهم هذه الحلول بغير شك ما يعرف باسم "حركة الإنعتاق" أي محاولة تحديث اليهود الأوربيين وإخراجهم من عزلتهم، مع توفير كافة حقوق المواطنة بالنسبة لهم، وتشجيعهم علي التوطن في المناطق الريفية لممارسة الزراعة التي سوف تربطهم بالأرض وتعطيهم الشعور بالانتماء إلي الوطن، وإلزامهم إزاء ذلك بكل الالتزامات ومسئوليات المواطن العادي. ومع أن الدعوة إلي الانعتاق لقيت قبولاً من بعض اليهود في أواسط القرن الثامن عشر، فيما يعرف باسم حركة التنوير اليهودية "حسكلاه"، إلا إنه كان قبولاً محدوداً، لأن التمتع بالحقوق المدنية كان علي حساب الانتماء إلي القومية اليهودية المجردة، كما كان يستلزم الفصل بين اليهودية كدين واليهودية كقومية، وهو الأمر الذي يرفضه معظم اليهود ويقاومونه بشدة. ومن هنا فقد كانوا يتمسكون أشد التمسك بالسكني والإقامة في مناطقهم المنعزلة المغلقة، (الجيتو) كما كانوا يفضلون دفع بدل نقدي نظير إعفائهم من أداء الخدمة العسكرية. وعلي ذلك يمكن القول إن الصهيونية هي نوع من رد الفعل علي حركة التنوير بكل ما كانت تؤدي إليه من انعتاق ودمج". (د. أحمد أبو زيد-الصهيونية:هل هى حركة إحيائية؟-مجلة عالم الفكر-المجلد الرابع عشر، العدد الأول، أبريل-مايو-يونيو 1983، ص 8).
"منذ غادر اليهود فلسطين بعد انهيار مملكة سليمان وحتى القرن التاسع عشر، لم ترتفع الدعوة بين اليهود للهجرة إلي فلسطين، وظهرت هذه الدعوة فقط مع ظهور "المسألة اليهودية" خلال القرن التاسع عشر، ووجدت الصياغة النظرية لها في الصهيونية، فمع التطور السريع في روسيا بعد إصلاحات 1863م، بدأ النظام الإقطاعي يتداعى بسرعة مفسحاً الطريق للرأسمالية الناشئة. مع تحلل النظام الإقطاعي فقد اليهود الروس قاعدتهم الاقتصادية (وكان معظمهم يعملون بالتجارة والحرف الحضرية) وفشلوا في الاندماج في المجتمع الروسي". (د. جودة عبد الخالق-العرب والصهيونية: البعد الاقتصادى للمواجهة-مجلة عالم الفكر-المجلد الرابع عشر، العدد الأول، أبريل-مايو-يونيو 1983، ص 72).
"الفكرة الصهيونية كأسطورة دينية/سياسية لا تعود بجذورها إلي تاريخ اليهود الوهمي، وإنما تعود إلي ديناميات التاريخ الأوربي الحقيقي، وحينما ظهر الفكر الصهيوني في نهاية الأمر قي أواخر القرن التاسع عشر (بعد عام 1882م علي وجه التحديد وهو التاريخ الذي أنهى المحاولات الرامية لدمج يهود روسيا في المجتمع الروسي) فإنه كان فكراً استعماريا ًفي بنائه ومضمونه". (د. عبد الوهاب المسيرى-الحركة الصهيونية: الخلفية التاريخية-مجلة عالم الفكر-المجلد الرابع عشر، العدد الأول، أبريل-مايو-يونيو 1083، ص 21).
معنى ذلك أن كل المراجع التاريخية-العلمية قد اتفقت علي أن الصهيونية السياسية-اليهودية قد ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، واتفقت في مجملها-ليس كلها-علي أن ظروف اليهود في روسيا القيصرية هي التي دفعت بشكل أو بأخر في هذا الاتجاه. وهناك بعض المصادر التي تنظر بشكل أشمل فتذكر الوضع العام في أوربا وعلاقة اليهود آنذاك بالسكان الأصليين. غير أن المثير للشك أن معظم تلك المصادر هي مصادر أوروبية، وليس هناك أي توضيح أو تفسير لأوضاع روسيا في تلك المرحلة، الأمر الذي يدعونا للدهشة عندما يبني البعض آراءهم القاطعة على تلك المصادر.
يعد كتاب ج. ب.بل الأستاذ بمعهد دراسات الحرب والسلم التابع لجامعة كولومبيا بعنوان "الإرهاب يخرج من صهيون" (نيويورك 1977) أحد المصادر الهامة، حيث يكتب: "أخذ كثير من الأشياء في التغير بداية من القرن التاسع عشر، فقد دعا نابليون اليهود في مارس 1799م ليجتمعوا تحت لوائه ويستعيدوا القدس القديمة، ولكن لم تضرب دعوة نابليون هذه بأي جذور إلا بعد مرور نصف قرن تقريباً. إذ إن معظم يهود أوروبا الغربية توقعوا أن يندمجوا في الدول القومية الحديثة باعتبارهم ألمان أو إنجليز من أتباع العقيدة الموسوية، بينما حاولت الملايين التي وقعت في شراك مناطق الاستيطان في شرق أوروبا البقاء وحسب. ولكن تيار القومية اليهودية المتردد بدأ يكتسب صلابة وانتشار كنتيجة لخيبة أمل اليهود ومخاوف يهود الشرق. ووقعت تهمة الدم في دمشق عام 1840م حين تم القبض على سبعة يهود وتم تعذيبهم بتواطؤ واضح من الرهبان الفرنسيسكان الفرنسيين-وفي هذا عودة بدائية للاضطهاد على نمط العصور الوسطى. وقد ساءت الأحوال في شرق أوروبا، وخاصة في روسيا، فوقعت مذبحة منظمة ضد اليهود في أوديسا عام 1871م، ثم وقعت أخيراً "حادثة دريفوس" عام 1894و 1895م والتي كشفت عن وجود نزعة معادية للسامية راسخة في المجتمع الفرنسي الذي يفترض فيه أنه مجتمع عقلاني، فقد تم إدانة الكابتن "دريفوس" بناء على قرائن مختلفة، مما كان بمثابة إدانة لفرنسا ذاتها بالنسبة لكثير من اليهود، وهنا وجد البعض أن البديل للاندماج أو تحمل الاضطهاد هو دعوة نابليون التي كاد يغطيها النسيان".
"وبالطبع فمن الواضح أن الكتاب هو مجرد "تاريخ مصغر" للصهيونية يكاد يكون هو الصيغة الرسمية التي اعتمدتها الحركة الصهيونية لإضفاء الشرعية والمعقولية على البرنامج الصهيوني. وقد وجدت هذه الصيغة، التى تكاد تكون بديهية، طريقها إلى كثير من الكتب التى تؤرخ للصهيونية سواء فى الغرب أم الشرق (بما فى ذلك فى الشرق العربى) وماذا يمكن أن يكون أكثر بديهية من هذه الصيغة البسيطة المنطقية (أقلية تقرر الاندماج أو التحمل، مجتمعات ترفض هذا السلوك الكريم من الأقلية الأقلية تعود إلى شرنقتها بعد خيبة الأمل-ويخرج الأرنب الصهيونى من قبعة الاعتذاريات-كرد فعل حتمى، يخرج وقد أجاب على عدة أسئلة سطحية وترك مئات الأسئلة الأساسية الأخرى بدون إجابة". (د. عبدالوهاب المسيرى-مرجع سابق، ص 14).
الحالة الروسية
في "يوميات كاتب" عن شهر مارس 1877م كتب ديستويفسكي: "يمكن وصف ولو بعض ملامح هذا "الجيتو".. وهي: الإحساس بالاغتراب والعزلة على مستوى التحجر الديني، وعدم القدرة على الاندماج، والإيمان بأنه لا يوجد في العالم سوى شخصية قومية واحدة، ألا وهي الشخصية اليهودية. "اخرج من بين الشعوب، وشكل ذاتك، وأعلم أنك الوحيد حتى الآن لدى الإله. اسحق الآخرين. أو خذهم عبيداً، أو استغلهم. ثق بانتصارك على العالم كله. وثق بأن كل شيء سيخضع لك. تجنب الجميع في حسم. ولا تشترك مع أحد في معاشك. وحتى عندما تحرم من أرضك. ومن شخصيتك السياسية. حتى عندما تتشتت على وجه الأرض، بين كل الشعوب-سيان-ثق بأنك موعود بكل ذلك إلى الأبد. ثق بأن كل شيء سيكون، أما بعد فعش، وتجنب، واتحد، واستغل، وانتظر.." هاهو جوهر فكر "الجيتو" وبعد ذلك طبعاً توجد قوانين داخلية. وربما سرية تحدد هذه الفكرة".
لقد أبصر ديستويفسكي أحد أهم وأضخم الأسرار المقدسة اليهودية: وجود القوانين السرية، والخطط السرية لحروب ألف عام تشنها اليهودية ضد البشرية كلها. ولكن ما الذي يمكنه أن يدفع ديستويفسكي لكتابة هذه الوثيقة الهامة، وفي ذلك الوقت بالتحديد؟
بعد إلغاء قانون الرق عام 1861م في روسيا، تخلص الشعب الروسي بجميع أقلياته من العبودية. ولكن لم يكد يمر عام واحد حتى وقع الروس في قبضة اليهود، فبعد أن كان الأمراء الإقطاعيون يستعبدون الروس واليهود والتتر. وغيرهم، تحرر الجميع ليقعوا مباشرة تحت نير الاستغلال اليهودي. ولنرى ماذا يقول ديستويفسكي في هذا الأمر: ".. عندما كان اليهود يعانون من قضية الاختيار الحر لمكان الإقامة، كان هناك ثلاثة وعشرون مليوناً من الجماهير الروسية الكادحة تعاني من نظام الرق والعبودية الذي كان بطبيعة الحال أشد وطأة من اختيار مكان الإقامة. فهل أشفق عليهم اليهود آنذاك؟ كان اليهود كالعادة مطالبين بالحقوق التي لم تكن لدى الشعب الروسي نفسه، كانوا يصرخون ويشكون بأنهم مقهورون ومعذبون. وبأنه عندما يمنحونهم حقوقاً أكثر عندئذ فقط: اطلبوا منا القيام بالتزاماتنا تجاه الدولة والسكان الأصليين، ثم أتى المحرر، محرر الشعب الأصلي، فانظر ماذا حدث، من كان أول المنقضين عليه، من في الغالب استغل علله ومشاكله ومن أحاطه بالأكاذيب وخدعه بحرفته الذهبية الأبدية، ومن حل في كل مكان، محل الإقطاعيين ألغى نظامهم".
أما فاسيلي شولجين فيقول: "كان مسموحاً لهم بالعيش والتحرك في فضاء جغرافي محدود يسمى "نطاق الإقامة". إلا أنه كان يفوق بمساحته أية دولة أوروبية. واقتنع القيصر نيكولاي الأول بأن اليهودي المثقف أقل خطراً، وذلك انطلاقاً من تصور القيصر بأن صفات اليهود السلبية نابعة من غربتهم عن المحيط وانغلاقهم وعزلتهم في الجيتو اجتماعياً ونفسياً. لذلك سمح لهم بارتداء الثياب المحلية، وحلق شعورهم، وتعليم أطفالهم في المدارس الروسية العامة. وكان لخريجي الجامعات اليهود حق التنقل عبر الإمبراطورية الروسية بأسرها".
لقد رفض اليهود رفضاً قاطعاً، بل وقاموا فكرة الاندماج مع المجتمع الروسي، وفضلوا على ذلك استعباد كافة الأقليات ومعها أيضاً الشعب الروسي بعد تحررهم جميعاً من نظام الرق عام 1861م. وإذا تتبعنا التواريخ التي تشير إلى بداية المشاكل بين اليهود والروس (في روسيا) سنجد أنها بدأت عام 1871م كما يذكر ج. بل في أحداث أوديسا. وبعد ذلك عام 1881م، ثم 1882م،أي أن الروس قد بدءوا يتذمرون من الاستبعاد اليهودي الجديد لهم والذي حل محل الإقطاع، بعد عشر سنوات تقريباً من المعاناة ومحاولة التعايش مع الأقلية اليهودية بسلام. وبناء على ذلك، وكما تقدم، انصرف اليهود إلى عزلتهم المحببة، وأحاطوا أنفسهم بأسوار السرية في الجيتو التاريخي. وبدأت الدولة الأوروبية بإعلان حالة التذمر ضد تغلغل نفوذ الأقلية اليهودية في جميع المجالات. وبالرغم من أنه في ألمانيا عام 1893م حصلت الأحزاب المعادية للسامية على 16 مقعداً نيابياً في الرايخستاج، كان تيودور هرتزل والحركة الصهيونية قد بدءا نشاطهما منذ عام 1869م برعاية كل من بسمارك وويلهلم الثاني. حتى إن هرتزل في وقت متأخر نسبياً (عام 1898م) قد قابل ويلهلم الثاني في القدس بترحاب شديد. فهل نستطيع أن نميز هنا كمية التناقضات التي تمارسها الحركة الصهيونية؟ هذا بالطبع إلى جانب قضية دريفوس التي تفجرت عام 1894م واستمرت طوال التحضير للمؤتمر الصهيوني الأول في 1897م حتى عام 1899م، واستخدمها اللوبي الصهيوني بمهارة شديدة إلى أن ذاع صيتها في العالم كلها.
المؤتمرات الصهيونية
بدأت المشاكل بين اليهود والروس عام 1871م، ثم توقفت لمدة عشر سنوات لتبدأ من جديد في عام 1881م، وتتكرر في عام 1882م. في نفس الوقت تشير المصادر التاريخية إلى بدء نشاط هرتزل والجيوب الصهيونية عام 1869م، لإقامة علاقات مع بمسارك وويلهلم الثاني. وعلى محور آخر بدأ الهجوم على حركة التنوير "حسكلاه" كان من المفترض ضرب جميع المحاولات الرامية إلى تحسين حال اليهود في روسيا. وكذلك الإفشال التام لجهود حركة "حسكلاه" التي تعوق المشروع الصهيوني برمته. وهذا ما تم بالفعل حيث بدأ اليهود الروس، وغيرهم من يهود العالم، في فقدان الثقة بتلك الحركة. ومن ثم الثورة عليها والتخلص منها كحركة تنوير ظلت قوية وفعالة لما يقرب من نصف قرن تقريباً. فهل هناك شك الآن في دور الحركة الصهيونية الوليدة في إذكاء الفتن بين الروس ومواطنيهم من اليهود؟ ولكن الفاضل بين مجمل هذه الاحتمالات، وبين الاحتمال الأقرب إلى الصحة هو ما سوف يتحقق بعد عدة أعوام. وأشدد هنا على كلمة يتحقق حتى تصبح الأمور واضحة. وأن المسألة ليست مجرد افتراضات أو استنتاجات نظرية أو وهمية.
على مدى السنوات القليلة (1882 ـ 1894) التي مرت بعد مشاكل عام 1882م، نشطت الحركة الصهيونية في أوروبا حتى إن معظم الشعوب الأوروبية قد بدأت تثور ضد سيطرة اليهود على مقدراتها. ولا يخفى على أحد مشاركة الكثير من حكومات هذه الدول في إذكاء نار الفتنة من ناحية. وإجراء المفاوضات مع هرتزل والحركة الصهيونية من ناحية أخرى، والسبب التخلص قدر الإمكان-وبالضرورة-من اليهود الزائرين عن الحاجة. وظلت الحركة الصهيونية مستمرة في نشاطها على محورين:
1 ـ حشد الإمكانات اليهودية في العالم وتنظيمها وتوجيهها لخدمة الأغراض الصهيونية.
2 ـ التنسيق التام والمستمر مع القوى العظمى والدول الاستعمارية، وبخاصة تلك التي لها مصالح حيوية في منطقة شرقي المتوسط.
ووسط كل تلك الفتن والمناوشات (حيث حدث أول اشتباك مسلح بين الروس واليهود في عام 1897) استطاع تيودور هرتزل عقد أول مؤتمر صهيوني عالمي في مدينة بازل السويسرية (29 ـ 13 أغسطس 1897) وتأسست رسمياً المنظمة الصهيونية العالمية التي لعبت منذ ذلك الحين دور "الحكومة العالمية" للحركة الصهيونية. ولأغلب يهود العالم المتعاطفين مع هذه الحركة، كما شكلت الإطار العام الذي عمل على استقطاب مختلف الاتجاهات والتيارات الصهيونية السائدة بين يهود العالم. فماذا جاء في نص "برنامج بازل" الذي حدد أهداف الحركة الصهيونية؟ لنقرأ ونقارن ما جاء فى الموسوعة اليهودية مع نصوص ومفاهيم ومضامين بروتوكولات حكماء صهيون..
بروتوكولات حكماء صهيون
يقول ميخائيل جورتشاكوف في مقدمته لطبعة 1996م الروسية من (بروتوكولات حكماء صهيون ): "انكشف هذا السر تماماً في بداية هذا القرن عندما قام أ.س. نيلوس بنشر بروتوكولات حكماء صهيون . في تلك البروتوكولات تمت صياغة البرنامج المنظم لاستيلاء اليهود على العالم".
وفي عام 1901 كتب نيلوس مقالة بهذا الخصوص قدم بها-مع بعض الإضافات-للطبعة الثانية من البروتوكولات التي صدرت عام 1911م، قال فيها:" الشخص الذي نقل إلى هذه المخطوطة يؤكد بأنها تمثل نسخة الترجمة الدقيقة للأصل الذي استولت عليه سيدة من أوراق أحد أهم الشخصيات القيادية وأكثرها قداسة بين الماسونيين الفرنسيين وذلك بعد أحد الاجتماعات السرية في فرنسا. والمخطوطة بعنوان "برتوكولات حكماء صهيون".. ونشرت لأول مرة عام 1905 بالطبعة الثانية لكتابي "ضخامة القلة ومعاداة المسيح كإمكانية سياسية وشيكة. وعندما اندلع الحريق الروسي الكبير (الاعتداءات اليهودية المسلحة على الروس، وخاصة في أوديسا، أثناء ثورة 1905م وكذلك استنفار اليهود في أوروبا-أ.ص) المسمى "بحركة التحرير" إلى ذروته، فقد أكد ثقتنا القوية والواضحة في كون هذه البرتوكولات أصلية وغير مزورة. ويعلم الله كم أمضيت من سنوات وبذلت من جهود لتحقيق هذه المخطوطة". (ص 52-52).
صدرت الطبعة الأولى بعد التحقيق عام 1905م والثانية عام 1911م، أما الثالثة ففي عام 1917م، ولكنها لم تر النور حيث قامت اللجان الثورية بمصادرتها من مطبعة "سفيتو ـ ترويتسكايا" لصاحبتها لافريا سيرجيفساكيا. (ومصادرة اللجان الثورية للبروتوكولات موضوع غاية في الأهمية. لأن السبب تحديداً عائد إلى برنامج الثورة بخصوص المسائل القومية، ولهذا السبب بالذات أخذ اليهود موقفاً في غاية الدناءة من الثورة الاشتراكية في روسيا، إذ إنهم كانوا يتوقعون منها أن تجعلهم استثناء، بينما تطبق جميع القوانين على بقية القوميات الأخرى).
وفي كتابه "اليهودية العالمية" كتب الملياردير الأمريكي المعروف هنري فورد (1863 ـ 1947) قبل وفاته: "بالمناسبة، فقد كتب هيرمان بيرنشتاين: "منذ عام تقريباً عرض على موظف بوزارة العدل صورة مخطوطة لواحد يدعى نليوس بعنوان "الخطر اليهودي" وطلب مني أن أدلي برأيي، وقال لي إن هذه المخطوطة تمثل ترجمة لكتاب روسي صدر عام 1905م، ومن الواضح أنها كانت "بروتوكولات حكماء صهيون" التي اطلع عليها الدكتور هرتزل-كما يؤكدون-في المؤتمر السري للصهاينة في بازل، وقال لي الموظف، إنه يرى أن الدكتور هرتزل نفسه هو كاتب هذه المخطوطة" (ص 92).
وفي نفس الكتاب يقول هنري فورد: "إن انتشار البروتوكولات في الولايات المتحدة يمكن تفسيره بأنها تلقي الضوء وتعطي القيمة للحقائق المعروفة التي تم رصدها حتى في الماضي، وهذا بالذات ما يعطي تلك الوثيقة أهميتها العظمى. وأصليتها على الرغم من عدم وجود توقيعات" (ص 94)" "إن الكذب لا يعيش طويلاً وبالطبع فقد كان من الممكن أن تمتلك هذه البرتوكولات أهمية قصوى في حالة إذا ما كان عليها توقيع كاتبها. ومع ذلك فهي بدونه لا تقل أهمية أيضاً مثل أية لوحة غير موقعة من صاحبها، "95) خاصة وأن وضع توقيع الكاتب، أو الإعلان عن الجهة التي لها مصلحة في إصدار مثل هذه الوثيقة. كان من شأنه أن يفسد الكثير من أهدافها، ويفسد العلاقات بين الحركة الصهيونية والعديد من الحكومات الأوروبية التي كانت تساندها وتدعمها.
يقول هنري فورد في نفس الصفحة: "حتى لو أن مصدر هذه البروتوكولات غير معروف. وإذا كان من الممكن إثبات مجموعة من الأمميين اليهود قد قاموا بكتابة هذا البرنامج عام 1896م في فرنسا أو سويسرا بأحد مؤتمراتهم السرية، فمعنى ذلك أنه قد جاء الوقت لبرهنة أن هذا البرنامج الصادر عنهم فعلاً لم يكن من قبل المزاج وإنما بالفعل قد انطوى على رغبة حقيقية وإرادة تبريرية لتحقيقه على أرض الواقع. إن البروتوكولات تمثل برنامجاً عالمياً. ولا أحد يشك في ذلك. أما من كتب هذا البرنامج، فذلك موجود في البروتوكولات ذاتها. والأهم بالنسبة لنا نحن الأمريكيين ليس من الذي صاغ هذه البروتوكولات: مجرم أم مجنون، فالمهم هو أنه عندما تمت صياغتها، وجدت مصادر التمويل والوسائل الأخرى التي مكنتها من التحقيق في الواقع العلمي".
أما المدفعية اليهودية الموجهة لتدمير "البروتوكولات" وإثبات تزويرها، فقد تمثلت في كتاب يو. ديليفكسي الذي صدر عام 1923م، في برلين بعنوان"بروتوكولات حكماء صهيون". وفي محاولة من ديليفسكي لإخفاء حقيقة مصدر البروتوكولات جعل رجل الدين الروسي المسيحي، أنطون فلاديميروفيتش كارتاشوف يكتب مقدمة الكتاب ليدحض كون البروتوكولات مكتوبة بأيدي الصهيونية العالمية. وأنهى الأب أنطون مقدمته الجليلة بسعادة غامرة لنيل الكنيسة الروسية صك الغفران والإفلات من تهمة ما يسمى بـ"معاداة السامية". ومطاردة قبيلة الرب المضطهدة.
إن كتاب ديليفسكي نفسه اعتمد برهاناً مدهشاً لنفي مصدر البروتوكولات. حيث قام المؤلف باقتباس مواضع معينة من الأدب اليهودي التي تنطوي على بعض المعاني والدلالات المتفقة مع البروتوكولات، وحتى التي تتوافق وتتطابق معها على مستوى النص، وفي نهاية الأمر اختار وثيقة بعنوان (ديالوجات) لموريس جولي، وبالفعل فهذا "المستند" يتضمن الكثير من المواضع المتطابقة حرفياً مع نصوص البروتوكولات، بل وبعض الفقرات الكاملة-الفارق الوحيد هو أنه في البروتوكولات يتحدث متسلطون يهود سريون، أما في الـ(ديالوجات) التي كتبها موريس جولي، فميكيافيللي يتحدث على لسان نابليون الثالث. من هذا التطابق الذي لا شك فيه لــ(ديالوجات) التي كتبت في ستينيات القرن التاسع عشر مع البروتوكولات، أثبت ديليفسكي أن البروتوكولات مجرد سطو وانتحال للديالوجات، ولم يكتبها اليهود الصهاينة كبرنامج للاستيلاء على العالم.
في واقع الأمر، لم يكن هناك أي سطو أو انتحال، أو حتى تزوير، كل ما في الأمر هو التوقيت المختلف لاستخدام نفس المصدر أو الوثيقة-البروتوكولات، تلك الأسرار الإلهية المقدسة التي خص الله بها اليهود، وعموماً فقد كان موريس جولي ينتمي إلى الحركة الماسونية الفرنسية السرية، وبالتالي فقد كان مطلعاً على جميع البرامج السرية لإنقاذ البشرية. وبشكل أو بأخر فقد كان معظم الكتاب اليهود الفرنسيين تحديداً مطلعين مسبقاً على هذا البرنامج، الأمر الذي جعل كل منهم يستعين أو يستشهد ببعض قدراته، وليس العكس، بمعنى أن البروتوكولات سابقة على الاقتباسات التي جاءت بعد ذلك مطابقة لها. ومن ناحية أخرى فحتى لو كانت البروتوكولات تالية لتلك الاقتباسات، فلا شك أنها قد تأسست عليها، وهي-أي الاقتباسات-زبده فكرة الجيتو اليهودي على مر السنين، وخلاصة التجارب العملية التي أمكنها بالفعل أن تفرز مثل هذه البروتوكولات من أجل تخليص العالم من رجسه وخطاياه بتعذيبه والانتقام منه، وهذا في حد ذاته برهان أكيد (بصرف النظر عن أيهما أسبق) على الوجود الدائم لمثل تلك البرامج والبروتوكولات التي أثبت الواقع العلمي-تاريخياً-صحة نسبها إلى اليهود تحديداً وليس إلى غيرهم، فهل هناك شك في أن الــ(24) بروتوكولاً تتحقق تباعاً؟ أم أن هناك مصادفات تلعب دورها في تحقيقها عملياً على أرض الواقع؟
يقول هنري فورد: "ليس المهم من الذي حصل على البروتوكولات ونشرها، ولكن المهم أن البرنامج الصهيوني المنشور عام 1905م قد تحققت الأجزاء الرئيسية منه خلال العشرين سنة التي تلت نشره لأول مرة".
إن الأسئلة السابقة تطرح نفسها تلقائياً بمجرد أن يظهر ولو رأي واحد يشكك في كتابة الحركة الصهيونية لبروتوكولات حكماء صهيون. وبالطبع فالسؤال المتوقع من الباحثين الأكاديميين الجادين هو أن هناك فرقاً بين مخطوطة أو وثيقة تاريخية موقعة ومعلن عنها، وبين مجموعة من النصوص التي جمعت بطريقة ما وليست موقعة أو معلناً عنها، وسيقولون أيضاً بأننا نناقش فقط: هل كتب الصهاينة هذه الوثيقة أم لا، وليس لنا علاقة بالمسائل الأخرى!!
قاعدة النقيضين
نشرت البروتوكولات لأول مرة عام 1905 في روسيا وحاولت المصادر المتعاطفة مع الصهيونية أن تثبت أن البوليس السري القيصري هو المصدر، وكان هدفه ضرب الحركة الاشتراكية وإحكام القبضة على اليهود المتآمرين سواء خارج أو داخل الحركة الاشتراكية، وفي عام 1921م حاول جريفس ومن بعده كوكس إثبات أن الذين كتبوا البروتوكولات قد استعانوا بفقرات من الأدبيات اليهودية لتلفيق هذه البروتوكولات واستنفار العالم ضد اليهود. وفي عام 1923م قام ديليفسكي بنفس المحاولة (ولكن بذكاء شديد يعتمد على المنطق المعكوس والوقاحة المنقطعة النظير حين أطلق على كتابه عنوان "بروتوكولات حكماء صهيون" ساخراً بذلك من الجميع" مستعيناً بمخطوطة "ديالوجات" لموريس جولي، وهي نفس المخطوطة التي استعان بها كل من جريفس وكوكس.
ولكن إذا استخدمنا قاعدة النقيضين فلسوف يتأكد لدينا العكس، أي صدق كلام نيلوس وهنري فورد، وتنبؤات ديستويفسكي، وسوف يتأكد أن مصدر كتابة البروتوكولات ليس إطلاقاً البوليس القيصري الروسي أو أي أحد آخر سوى رموز الحركة الصهيونية العالمية.
أما في حالة فشل قاعدة النقيضين في زحزحة الحركة الصهيونية والمتعاطفين معها في الرأي، فسوف يكون الحكم ببساطة للواقع العملي تاريخياً وسياسياً. وليس هناك أبسط من مواجهة توصيات وقرارات المؤتمرات الصهيونية بنصوص البروتوكولات من ناحية، وبالفقرات الكاملة من كتاب التوراة التي تشكل صلب البروتوكولات نفسها من ناحية ثانية، وبما تحقق منذ عام 1901م تحديداً-وحتى وقتنا هذا-في الواقع العملي بالنسبة للحركة الصهيونية الإسرائيلية من ناحية ثالثة.