الدكتور توفيق آلتونجي&

&
كان ولا يزال الانسان يحاكي ما يراه ويسمعه في الطبيعة والبيئة المحيطة به. وربما ليس من الاجحاف الادعاء بان معظم المخترعات والاكتشافات والفنون جائت نتيجة محاكاة البشر للكائنات الاخرى. الخيال الانساني وجد في الطبيعة مادة خصبة في اغناء روح التخيل والرحيل الى عوالم الامجهول. لو تمعنا جيدا خيال كاتب اوبالأحرى كتاب مجموعة قصص "الف ليلة وليلة" لنرى ان خيالهم هي في الواقع محاكاة للكائنات على الارض مع النظر اليها بمنظار تلسكوبي كبير فالصغير كبير ظخم والكبير ربما صغير نمنمي. اما التجوال بين الازقة في "بغداد" مخفيا او الدخول الى قصر الخليفة فتلك كانت خيالا يراود العامة من الناس ليس لان باب ديوان الخليفة لم يكن مفتوح للعامة لا بل ان الحياة بعد غياب الشمس& داخل الاسوار كانت الملهمة الاساسية للخيال الشعبي وقد يكون للشعراء دورا مهما في اظافة السحر الى كل ذلك ... فهنا نستمع الى صوت العود والناي من بعيد وراء الاسوار وحديثي اليوم عن تلك اللغة البشرية المفهومة للجميع اينما حلوا وكانوا واعني بها "الموسيقى" وروادها.
نمنمية اسلامية من القرن السابع عشر يمثل السلطان حسين باي
وابنائة في جلسة سمر وموسيقى في بوخارى.
&
كتابة النوطة الموسيقية حديثة بعض الشئ اذا قورن بالتاليف الموسيقي الشفاهي واللحن اللذان يرجعان الى عصور الاولى لوجود البشري على الثرى فقد وجد في اثار العراق القديم ومصر والشام وتركيا والصين والهند واماكن اخرى من العالم صور ونقوش تمثل فرق موسيقية يعزفون على الات موسيقية تشارك الملوك في احتفالاتها او لمجرد طرد الظجر عن روحه الكئيبة. وقد يتاسف المرء لعدم امكانيته للاستماع الى تلك الالحان السومرية والبابلية والاشورية والفرعونية القديمة وحتى تلك التي كانت تطرب الندامى في قصور بغداد ودمشق والقاهرة والاندلس وربما كل ما وصلنا من كتابات موسيقية يرجع الى ايام نهظة اوربا حيث انتشر القاعات الموسيقية في قصور وبلاط الملوك ونادرا ان لا تجد قاعة للاستماع الى الموسيقى وانت تجوب قصور ملوك اوربا في المملكة المتحدة وفرنسا والمانيا والنمسا وروسيا والدول الاخرى. لعل تلك الكتابات الموسيقية للنوطة هي التي تتردد لحد يومنا هذا من الات الموسيقية في الفرق السمفونية الوطنية في كافة انحاء المعمورة.
&
ستقف طويلا اما هذه اللوحة الرائعة في المتحف البريطاني
للملك اشور باني بال وهو في حالة صفاء.
&
اما حياة الموسيقيين وحاتهم المادية فكانت تختلف من مكان الى الاخر ولو كانو على الاكثر ينتمون الى الطبقة الغنية المرتبطة بالبلاط الملكي ونادرا ما نجد احد الموسيقيين الكبار اللذين لم يعزفو في حظرة احد الملوك او الامراء او الاقطاعيين الكبار والنبلاء وقد يكون الة البيانو الملك المتوج على الآلات الاخرى التي تكون مجموعها الفرقة الموسيقية السمفونية. وقد كنت بمعية ابنتي " داريا" ذو الاثني عشر ربيعا وهي تعزف باناملها الندية على البيانو في حفلة مدرسة الثقافة والفنون في المدينة التي نقيم فيها قبل ايام فتعجبت لذلك الشغف والهيام للمستمع الاوربي لهذه الالة الموسيقية. هذه الالة المكونة للعمود الفقري للفوق الموسيقية السمفونية هي نفسها التي قدمت للبشرية اسماء عازفين كبار امثال موزارت, شتراوس , هايدن , بتهوفن , شوبان وجايكوفسكي واخرون وكان باخ من المشهورين في العزف على الة الارغن الكبيرة التي& نادرا ما تخلو كنيسة منها.
لم تتحول الة البيانو في الشرق الى الة رائدة للموسيقى فقد كان العود ولا يزال الملك الوحيد المتوج ويرجع ربما ذلك لعدم وجود اصوات الربع في الآلات الاخرى رغم اني استمعت الى الحان موسيقية شرقية فارسية للموسيقار الايراني "جواد معروفي" وخاصة القطعة الموسيقية المسماة "زالا" التي يبحر معه المرء الى عوالم لا توجد فية حدود وتختفي المسافات.
كنت ومع صديقي الشاعر نصرت مردان ممن نلتقي بصورة دورية مع ا كتاب والناشرين ومن مثقفين واخرون في تركيا بداية السبعينات في بيت الاستاذ "احمد صاي" الذي كان يقيم فيه مع ابنه " فاضل"& ذو العاشرة من العمر الذي كان شغوفا بالعزف على البيانو وكنا نجلس معا ليعزف لنا وبين الحين والاخر يتوقف من العزف منزعجا قائلا انه اخطا في حين لم نكن نحن قادرين على كشف الخطا ولكنه سرعان ما كان يعيد المقطع الموسيقي مبتهجا فندرك انه افلح في محاولته هذا الفنان المبدع هو اليوم احد اكبر موسيقيي تركيا ويعتبر من القلائل اللذين يعزفون على البيانو عالميا بتلك الجودة المؤثرة.
&اما ملوك العود الكبار فيرجع تاريخهم الى ايام الامبراطورية الاسلامية الاولى وربما قبلها بكثير ولكن ما جائنا من اسماء كالفارابي واسحق الموصلي وتلميذه زرياب يعودان الى تلك الفترة وقد جاء في اخبار ذلك الزمان اسماء العديد ممن كانو يجيدون العزف على العود حيث يطربون الندامى او يكدرون الجو بعزفهم فيبكي الحاظرون وقد كان للعراقيين حظور في الماضي وفي الوقت الحاظر كالاستاذ شكر سلمان ومنبير بشير ورزكار خوشناو واخرون التمس العذر منهم لعدم ذكري اسمائهم.
اما الناي فبقى محافظا على اللون الديني البحت فقد بقى والدفوف الكبيرة ملازمة للطقوس الدينية للدراويش والمتصوفة في معظم انحاء الدنيا ففي مصر والعراق وتركيا وايران لا تزال العديد من الطرق الصوفية تمارس العبادة على اصوات الدفوف والناي والبزق.
&
لم تودي غياب الاسماء الامعة في عالم الموسيقى الى غياب مماثل لموسيقاهم فهم الحاظرون دوما في كافة الحفلات الموسيقية الاوركسترالية وقد نرى بين الحين والاخر العديد من الموسيقيين الشباب ممن يتاثرون بتلك الموسيقى فيطعمون الموسيقى الحديثة بقطع موسيقية ب المسماة بالكلاسيكية وهم كثيرون في الشرق وفي الغرب فليس من الغريب ان نجد موسيقارا كالمرحوم" فريد الاطرش" او" محمدعبد الوهاب" ياخذ من الموسيقى العالمية ويغني كلمات اغنيتة بالعربية وحتى الاخوين رحباني اخذا الكثير من الموسيقى العالمية مطورين الاداء الموسيقي العربي وخاصة بصوت ملكة الطرب" فيروز"& محققين بذلك قفزة تطورية جميلة في عالم الموسيقى الشرقية.
&
لوحة رائعة لعازف الناي"الفلوت"
للرسام الروسي سيمون جويكوف 1959
&
اعتادت الفرق الموسيقية الوطنية اجراء حفلات سنوية وخاصة تلك التي تبث مباشرة الى جميع انحاء الدنيا مع حلول السنة الميلادية الجديدة من عاصمة الموسيقى العالمية" فينا" والتي تحولت الى تقليد يجاري التقاليد الدينية الاخرى التي اعتاد عليه اخواننا المسيحيين مع حلول عيد ميلاد سيدنا المسيح عليه الصلاة والسلام في كافة انحاء العالم.
ان التطور في عالم تقنيات ايصال الصوت والصورة الى المستمع اينما وجد كان انقلابا في عصر الموسيقى الحديثة فاليوم نستمع الى موسيقى الدنيا بواسطة التلفزيون والاذاعة ووسائل الاتصالات المتعددة على شبكة الانترنت وقد كان لتطور الراديو بصورة خاصة الاثر الاكبر لانتشار الطرب في العالم ولا زلت اتذكر جدي رحمة الله عليه ورضوانة وهو يروي لنا كيف كان الناس يجتمعون في ديوان بيتة ليستمعو الى الراديو الوحيد في القرية التي وظعت وبعناية في مشكاة وبالقرب منها بطارية كبيرة جدا في حين كان اخرون يمرون من امام الديوان يرمون الحجارة على جهة الراديو راجمين الشيطان وقد سعدت جدا حين زرت المتحف الاوربي الوحيد عن الراديو في مدينتا وشاهدت نماذج من ذلك الراديو الخشبي الكبير فاصبحت اقوم بزيارة المتحف مع كل قدم ظيفا الى داري.
كان انشاء الفرقة الموسيقية السمفونية العراقية خطوة حظارية في نشر الثقافة الموسيقية بين ابناء الرافدين ومن الموسف ان تكون حال الفرقة واعظائها المحترمون في حالة يؤسف اليها ضمن الحالة العامة لعموم ابناء الوطن من شدة وطئة الحصار عليهم وقد يكونون اليوم في صراع مع التكنلوجيا حيث غياب وانقطاع التيار الكهربائي وعدم وجود الالات الحديثة العامل الذي ادى الى انهم بداو بتطوير القديم من الالات المتوفرة او صنع الكمان والالات الاخرى بنفسهم وتلك روح جديدة يستحق التقدير والاحترام .اما ان يعزفو على ظوء الشموع التي رافقت وانارت دجى الظلام ومنذ الاف السنين وقد كان معظم الموسيقيين من العظام يكتبون الانواط الموسيقية على ظوء نور الشمعة وبذلك تركو لنا اعمالا خالدة& وستبقى كذلك عبر العصور والازمان. تحية لجميع الموسيقيين والموسيقيات العراقيات ولنضالهم.
لوحة للرسام العراقي الكبير حافظ الدروبي
&
اما فرق الانشاد الموسيقية فتعود تاريخ وجودها الى ازمان بعيدة فهي كانت ترافق الاطقوس والاحتفالات الدينية وليس من الغريب ان نجد اليوم العديد من كورات الغنائية في جميع الكنائس ينشدون الاشعار الدينية والمزامير وقد عجبت لاحدى الوزيرات السويديات حين كانت تقوم بزيارة بعض المفجوعين في فقدان ابنائهم حيث طلبت من الجميع شد ايادي الواحد الاخر والبدا بالغناء الجماعي في عملية مداوات للجرح الانساني عن طريق المشاركة في الغناء الجماعي. وقد تكون قراءة الادعية والتواشيح وترديدها حالة من حالات العلاج الروحي للانسان فقد كان ولا يزال يعتبر من اسس التقرب الى الله سبحانه وتعالى في جميع طرق التصوف في الشرق.
اما الرقص فقد جارى الغناء الشعبي كالتوئم على طول مسار الطريق ومنذ البدايات والرقص حالة انسانية بحته وقد نجد بعض الحيونات يقومون بحركات شبيهة بالرقص ولكن الريتم والايقاع اللذان يقوموم الموسيقى وخاصة الدفوف والطبل بظبطها مكونة لوحة حركية متكاملة انسانية والرقص كان ولا يزال حالة جمالية بالاظافة الى كونة حالة اظهار شعور معين مرتبط بالحالة الانسانية الماساوية والطرب المفرحة وحالة الانسجام وبلوغ اعلى درجات العبادة عند المتصوفة. الرقص والغناء عند الشعب الغجري اينما كانو وتواجدوا جزء اساسي لنوعية الحياة الاجتماعية الجماعية لهم بالاظافة الى الرقص وقد ظهر فيهم العديد من الموسيقيين الكبار وقد يعتبر الرقص الغجري اساسا لرقصة الفلامنكو الاسبانية في حين نرى في الغناء المرافق للرقصة مقاما شرقيا ترجع ربما الى ايام تواجد زرياب في الاندلس.
الرقص قارئي الكريم ليس منحصرا بالنساء وهي حالة بمشاركة جماعية اكثر منها فردية ولكن العادات والتقاليد الشرقية حولتها مع مرور الزمن الى هواية وممارسة يختص بسها النسوة اليوم اما الدبكات الشعبية والرقص الجماعي فمنتشرة في كافة انحاء دول المشرق ولا يعيب المرء ذلك بل تراه يهرول كي ياخذ مكانة بين الرجال و"يدبك" يبقى اختلاف في الحركة والايقاع ففي مصر مثلا يرقص الرجل قائلا "رقصني يا كدع" في عملية اظهار للسعادة والفرح يكون الطبل والمزمار مرافقا للتلك الرقصة& وتكون خاصة باحتفالات الزفاف في حين نرى اب البنت المتزوجة قد ترك الحي والمدينة احيانا وهاجر في العادة والتقليد العراقي الشعبي . بل ان المجتمعات القروية العراقية مع تعدد قومياتهاواعراقها وتركيبتها الاثنية والدينية (العرب والاكراد والتركمان والكلدو اثوريينوالارمن ومن العقائد المسيحية المختلفة والصابئة المندلئية والكاكئية والحقة والايزيدية ....) تميل الى الرقص الجماعي ونادرا ان نجد راقصة منفردة عراقية الا في فرق رقص نسائية جماعية قد تكون غجرية في الاساس"بنات الريف" و"الجوبي" العراقي دبكة رجالية ويرافقها الهوسة العراقية" الطوب احسن لو مكواري" من هوسات ثورة 1920 المباركة في حين نجد ان النسوة يدبكون معا كذلك في الريف المسيحي في كردستان والتطور الاحق ادى الى ظهور دبكات جماعية مختلطة خاصة بين ابناء الشعب الكردي. وقد اعتاد النسوة قديما بالتجمع في دور احد العروسين والغناء والرقص بعيدا عن عيون الرجال.
دبكة كردية نسوية من مجلة اوراق الانترنتية
&
&
الزمار والطبال في لوحة من روائع الفنان الخالد جواد سليم
&
وقد رافقت المسيرات والعروض العسكرية فرق موسيقية عسكرية ومنذ عصور قديمة ولا تزال فرق الموسيقية المسماة "ميتر" التركية تشارك تلك العروض والاحتفالات على عادتها ومنذ ايام الامبراطورية العثمانية في حين نرى الطابع الانكليزيزي للفرق الموسيقية في العراق والاردن والهند وباكستان ودول اخرى مثلا خاصة تلك المسماة فرقة القرب الاسكوتلندية.
انه ليس من الغريب ان يقوم العديد من الناس بكتابة وصيتهم وذكر اجرائات التشيع بمصاحبة الموسيقى فهي تقليد قديم ايظا ولن الاسلام رفض ذلك على ما يبدو فلم اقرء عن تشيع جنائزي يصاحبة فرق موسيقية الا المعاصرة منها حيث يجى العادة على وضع التابوت على مدفع عسكري يجرة عربة"سيارة" او عربة حصان في حين يعزف الفرق الموسيقية العسكرية مقاطع موسيقية حزينة ويدق الطبال الطبل بالمعكوس كذلك مصاحبين الجمع والحشد اللذين يسرون بالنعش الى مثواه الاخير.
&
الغريب ان هناك فترات تاريخية منع فيها سماع الموسيقى او نوعا معينا من الموسيقى وقد نرى اثارة لا يزال موجودا وخاصة عند ظهور صرعة جديدة في الموسيقى ترفض عند بداياتها و التي لا تبرح بعد اعولام قليلة متحولة الى موسيقى كلاسيكية مقيولة عند الجميع واليوم تحول الموسيقى الى اداة تخاطب عالمي وقد نستمع الى اغنية لنكتشف فيها مقاطع من موسيقى شرقية معروفة او موسيقى اسبانية او حتى كلمات من عدة لغات ونستسيغها. الغريب ان السماع الى الموسيقى وانواع من الموسيقى قد اخذ منحى سياسي كذلك فقد كان الموسيقى الحديثة مرفوضة في دول اشتراكية كثيرة ما برحت الا ان تحولت الى موسيقى الشارع خاصة بعد انهيار جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة.
احد اجمل قاعات العالم حيث تشهد حفلات الفرقة السمفونية الرومانية في وسط العاصمة بوخارست و التمثال في واجهة البناء للشاعر الخالد ميهاي امينسكو.
&
تعتبر الساحات والشوارع المكتظة بالناس اماكن اجراء تمارين موسيقية للهواة . تلتقي خاصة في الصيف بهؤلاء الهواة من الموسيقيين في محطات المترو وقد جرى العادة في العديد من مدارس الموسيقى ان تكون تلك من التمارين التي يجب ان يقوم به الدارسين لنيل شهادة الموسيقار فالقاء المباشر بين الموسيقي والمستمع العادي مهم جدا للموسيقار نفسه وخاصة ابعاد شبح الخجل من مقابلة الجمهور.
اليوم من السهولة استماع الى انواع كثيرة من الموسيقى ومن جميع انحاء الدنيا في اذاعات وقنولت تلفزيونية تبث على مدار الساعة الاغاني في حين حتى شركات التلفون الخلوي تتنافس في اصداء اصوات موسيقية على رنين التلفونات وليس غريبا ان تستمع الى صوت كوكب الشرق ام كلثوم في رنين تلفون وانت جالس في الباص قادما من مكان عملك اليومي.
سلاما الى كل من اظاف الى عالمنا لحنا ورقص على انغامه الناس وطرب .. سلاما الى انامل موسيقي المستقبل...تحية الى رجال ونساء فرقة السمفونية العراقية ومحبة وتقدير واحترام وسلاما الى حين