نضال حمد
&
&
(الحلقة الأولى)
&
قبل سنوات طويلة لم أفكر قط أنني سأعيش في هذا البلد البعيد والنائي, كانت النرويج بالنسبة لي ليست أكثر من ضيعة صغيرة تغطيها الثلوج وتعيش على الثروة السمكية وخاصة سمك السلمون, قبل اكتشاف النفط والغاز في بحرها الذهبي.. كنت في مدارس المخيم التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان, قد درست كما أقراني من التلاميذ والطلبة القليل عن النرويج ,فعرفت أنها تقع في شمال القارة الأوروبية في اسكندنافيا, وتحدها كل من السويد من الشرق ومن الغرب بحري الشمال والنرويج ومن الشمال روسيا وفنلندا ومن الجنوب البحر ايضا. وكنت قبل أن حطت بي اقداري في هذه البلاد بعد عدة رحلات وسفرات أعرف أن عاصمتها الحالية أوسلو, بينما لم أكن أعرف من قبل بأنها ليست العاصمة الأولى لأنها على ما اعتقد الثالثة والأخيرة. كما أنني تعرفت على النرويج أكثر من خلال معرفتي بممرضة نرويجية كانت من المتطوعين النرويجيين الذين جاءوا إلى لبنان لمساعدة الفلسطينيين والتضامن معهم خلال الحروب الدموية التي كادت تصفيهم وتصفي قضيتهم الوطنية, وكان صديقي جهاد سهل الله أمره, هو من تعرف عليها وأحضرها إلى مقر إقامتي السري خوفا من اعتقالي وأصدقائي الذين كانوا يعيشون في نفس الغرفة, فيساعدونني في محنتي. فقد كان لقاؤنا في الوقت الضائع كما يقولون, لأنها جاءت إلى مخيمي صبرا وشاتيلا بعد المجزرة بأسابيع قليلة, وكنت أنا مصابا وأنتظر السفر إلى الخارج للعلاج في إحدى الدول الأوروبية. وكانت مشكلتي أنني فلسطيني وبلا جواز سفر, فجواز سفري كان بحوزة زميل لي أخذه من جيبي يوم إصابتي, وبعد تلك الحادثة لم يرجع الجواز ولم ألتقي الزميل لأنه كان نزيل السجن لدى الأمن في إحدى الدول العربية الشقيقة.
المهم هذه الممرضة النرويجية والتي كانت تسمي نفسها أو كانوا يسمونها ريما,وعرفت فيما بعد أن اسمها رانغهيلد وأنها بعد عودتها إلى بلادها كانت أصبحت متمرسة بتجربة جيدة من تجارب الحرب, خاصة أنها شهدت حصار طرابلس الشهير والذي كان من بطولة بعض الفلسطينيين وبضيوف شرف عرب أيضا. فكان الخاسر في تلك الحرب شعبنا الفلسطيني وقضيتنا الوطنية ووحدتنا التي تفككت بفعل الحصار والقصف الهمجي على مخيمات الشمال ومن ثم بفعل رحيل القيادة المتنفذة في م ت ف من طرابلس إلى عرين سلام الشجعان في مصر المكبلة بكمب ديفيد. فكانت زيارة السيد عرفات لمصر بمثابة رسالة لكل الأطراف من أجل الذهاب إلى مصر كمب ديفيد والالتحاق بركب سلام الشجعان العجيب والغريب.. وهنا بدأت الخلافات تكبر وكادت تعصف بالوحدة الفلسطينية وتقصف عمر القضية.
المهم أن صديقتنا النرويجية عادت إلى بلدها وأصبحت فيما بعد رئيسة لجنة التضامن النرويجية مع الشعب الفلسطيني,في تلك الفترة بقيت بيننا مراسلات متقطعة,إلى أن حملني قدري إلى أوسلو قبل عشرة أعوام مضت. في منطقة نائية وجميلة وهادئة بالقرب من أوسلو,حيث نزلت بداية ضيفا على صديقي أبو سهيل والذي كان يومها لازال أبو ليلى نسبة لأبنته الوحيدة في تلك الفترة أما الآن فقد رزق بسهيل وثلاثة أخوة أيضا حفظهم الله له وبارك فيهم. هناك بحثت وصديقي عن تلك الصديقة لأخبرها بأنني وصلت بلادها لاجئا كما كنت ولازلت, أطلب اللجوء في بلادها التي أصبحت الملاذ الأخير خاصة أنها من أواخر الدول التي لازالت تعطي اللجوء للفلسطينيين.
بحثنا طويلا في دليل الهاتف فوجدنا ثلاثة أو أربعة أسماء متشابهة بالاسمين الأول والثاني أي العائلي. قلت لصديقي لنجرب حظنا ونضرب أول الأسماء لعله أسمها, وحين تكلمها عليك تذكيرها بي ثم قص عليها بسرعة واختصار حكاية لقاءنا قبل عشر سنوات مضت في مخيم شاتيلا وأنني أريد أن أسلم عليها. وكم كنت محظوظا إذ أنها كانت هي فعلا صاحبة الرقم الذي بدأنا الاتصال به, فجاء صوتها سعيدا وفرحا بسماع صوت صديقي الذي حدثها عني ثم أعطاني سماعة الهاتف لأسلم عليها بنفسي.اتفقنا على لقاء في منزل صديقي فجاءت لزيارتنا, حيث وجدتها كما هي مع تغييرات وتبدلات قليلة, عكسي أنا الذي كنت تبدلت وتغيرت ولم أعد صبيا في مقتبل العمر كما كنت على سرير الموت. لفت انتباهي أنها جاءت تحمل بيدها سلة مليئة بالفاكهة من أنواع وأصناف مختلفة, سألتها لما هذا الكرم كله, أجابت لكي تعيد ذكرياتها مع المخيم وناسه الطيبين والبسطاء والكرماء, ولكي تستعيد تلك الأيام الجميلة التي كانت زينتها عائلة العم أبو إسماعيل بكرمهم وشهامتهم وحسن أخلاقهم وضيافتهم, فقد كانت ريما تلقى معاملة أهل البيت هي ورفاقها وزملائها من الأطباء والممرضين والممرضات الذين كانوا يساعدون شعبنا في حصاره ويحاولون تضميد جراحه. لقد كان يوما جميلا ومؤثرا, لكنه تعكر قليلا في نهاية المطاف عندما دخلنا في عالم السياسة والخلافات الفلسطينية الفلسطينية. لقد أحسست أثناء نقاشنا الذي أزداد حدة مع مرور الزمن بأنها متعصبة لياسر عرفات اكثر من الفتحاويين أنفسهم. وأنا أعذرها في ذلك وأتفهم نظرتها وموقفها لأنها عاشت ما بعد مذابح صبرا وشاتيلا وحصار طرابلس ومن ثم حصار وحرب المخيمات من قبل الأعداء والأشقاء, كما أنها ترى في نهج أبو عمار السلمي الخيار الأفضل لحل المسالة الفلسطينية. أما أنا فكنت على نقيضها تماما, لا أرى في نهج السيد عرفات سوى خراب فلسطين والقضية الوطنية وانتهاء وتصفية الطموحات الشرعية الفلسطينية, خاصة انه لم يرحم الذين اختلف معهم يوم حصلت اشتباكات بين جماعته ومن عارضهم وخالفهم من الفصائل الأخرى, فقامت مجموعات من جهاز أل 17 سيئ الصيت والسمعة بممارسة أبشع البشائع بحق ضحاياهم الذين عذبوا ومن ثم قتلوا بطرق وحشية فظيعة, نعرفها نحن وتعرفها المخيمات نفسها. لكنني وصديقي أبو سهيل حاولنا تهدئة الأمور والعودة بالنقاش إلى المأكولات والفاكهة والخضراوات. فسألتها عما إذا كانت لازالت تذكر الميرامية والزعتر, فردت بالإيجاب.. هنا انتهت الزيارة الأولى وأنفض اللقاء الأول وغادرتنا عائدة إلى عملها في مستشفى الطوارئ في أوسلو. ثم التقينا بعدها مرة أخرى, حيث زارتنا وأحضرت لنا بضعة شتلات من الزعتر والميرامية والنعناع. وكان ذلك اللقاء هو الثالث والأخير بها في سنة 1996 أثناء الاحتفال بيوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني. فيما بعد علمت أنها سافرت مع زوجها الأمريكي الأصل لتعيش في أقصى شمال النرويج بعيدا عن المدن وتعقيدات الآلات والبشر الأشبه بالآلات.
كنت بالطبع عند وصولي إلى النرويج قدمت طلب اللجوء ورفض طلبي فورا, لكن أسباب الرفض كانت سخيفة وغير مقنعة. المهم استأنفت الطلب عبر محامي نرويجي أحضروه لي هم أنفسهم وقاموا بدفع كافة التكاليف بناء على قوانين البلد المعروفة. ولم أكن ادري بان هذا الاستئناف سوف يأخذ من عمري ووقتي حوالي السنتين. في ذاك الوقت عشت في مكان لتجميع اللاجئين شبيه بالمعسكر ويشبه أيضا المخيم الصغير, وكان يتوجب على المرء أن يعيش مع أصناف وأنواع من البشر من كافة الثقافات والعادات والتقاليد واللغات... و هذا ما سنتحدث عنه في الحلقة الثانية.&
&يتبع ..