منح الصلح
&
من الأفكار الشائعة والمستمدة من وقائع الصراع العربي - الإسرائيلي الطويل أن أقدر الإسرائيليين على اجراء التسويات مع الجانب العربي أو الفلسطيني على طريق السلام هو ذلك الإسرائيلي الذي يكون سجل بالعنف الدموي إزاء العرب قد شهد له فما عاد يمكن أن تطاله تهمة التساهل معهم وإن تظاهر في بعض المناسبات بالعكس. وقد عزز هذا الاعتقاد أن بيغن ذا الماضي الأكثر تصلباً وشراسة بين قادة إسرائيل هو الذي أقدم على التوقيع على اتفاق كامب ديفيد مع مصر منسحباً بموجبه للمرة الأولى في تاريخ الصراع الثنائي الطويل من أرض سبق لإسرائيل أن احتلتها وعاقداً أهم صفقة سلام عربية - إسرائيلية قامت وما تزال قائمة حتى الآن.
على اثر هذا الاتفاق، أصبح شبه دائم بل يومياً النصح الدولي الموجه لكل من اليهود والعرب بالبحث دائماً عن المتطرفين في الجانبين من المؤهلين والمستعدين في ساعة ما قريبة أو بعيدة للتوقيع على اتفاق سلام.
كاد إسحاق رابين باقترابه مرة في ابرام سلام حقيقي مع العرب أن يدحض وهو الليبرالي نوعاً ما هذه الفكرة. لكن اغتياله عاد فأكد أن أشخاصاً من نوعيته لن يكونوا قادرين على صنع سلام مع العرب ولو أرادوا مع عميرا ميتسناع، رجل حزب العمل الجديد الناجح في الانتخابات الداخلية لحزبه ورئيس بلدية حيفا المعتدل، ها نحن اليوم أمام مشروع زعيم يقدم نفسه منذ فترة على أنه رجل الساعة المدافع الصادق والقادر عن الخط الذي رسمه الزعيم الراحل اسحاق رابين. وها أنه عميرا الجنرال المتقاعد المشابه حتى في المهنة لرابين يتعهد بكسر الجموح المستمر في المفاوضات مع الفلسطينيين وقد مضى عشرون شهراً على المراوحة العاجزة عارض إزالة المستوطنات في قطاع غزة إذا صار رئيساً للوزراء بعد الانتخابات العامة المقرر اجراؤها في كانون الثاني 2002م.
لكن هل هذا كاف لانعقاد آمال السلام الحقيقي عليه.
إن بعض الصحف الإسرائيلية الميالة نحو اليسار والداعمة لعميرا ميتسناع بدأت تتحدث عن روح حيفا كمدينة ذات تجربة سياسية منفتحة قادرة على كسر الجمود المزمن على الساحة الفلسطينية.
فهل تثبت الأيام أصالة هذه الروح التي يراهن عليها الكثيرون من أنصار السلام المتوازن على أرض فلسطين!
في أواخر الحرب العالمية الأولى وخاصة مع إعلان الانتداب البريطاني على فلسطين كان قد نمت بسرعة على الساحل الشرقي في المتوسط مدينة فلسطينية عربية هامة هي حيفا سرعان ما أصبحت بسبب موقعها ومرفأها ومصفاة النفط فيها مركزاً ادارياً وتجارياً هاماً تفد إليه للعمل قطاعات واسعة من أهل فلسطين ولبنان الجنوبي وسوريا. وتتجمع سراعاً المدارس والارساليات والبعثات الدينية فضلاً عن التعاونيات والنقابات والمنتديات على نحو بارز جعل المدينة تتسم بالحداثة والحركية الفكرية والأدبية والسياسية والاقتصادية المتطورة.
كان الطابع العام لها هو حب العمل والنزعة النهضوية الجامعة للمسلمين والمسيحيين كانت فيها مساهمة لبعض رجال الدين المسيحيين الموارنة على الأخص ممن برزوا فيما بعد في لبنان كأصحاب دور كالبطريرك الماروني الراحل خريش الذي كان هناك راعياً للطائفة المارونية. ولم يكن البطريرك خريش رحمه الله ينسى أيامه في حيفا فيتذكر مكتباتها الجامعة للمؤلفات اللافتة من كل مضمار وخاصة في الفكر السياسي العربي المهتم بمواكبة كل جديد من الآراء والاتجاهات.
كان اثناء حديثه عن إقامته في حيفا ينوه باستمرار بنشاط أدبائها وشعرائها كأبي سلمى عبدالكريم الكرمي ويثني على وطنيتهم الخالصة من كل تعصب ويقف عند النزعة اللاطائفية التي كانت سائدة فيها.
ومن مشاهير سكان حيفا وعشاقها الأحرار الروائي الفلسطيني الكبير أميل حبيبي الذي آثر ان يبقى في حيفا حتى آخر نفس من أنفاسه، وكان إذا ذهب خارجها لحضور مؤتمر قومي أو تقدمي أو ثقافي كبير في القاهرة مثلاً فعرض عليه أن يبقى فيها رد على الاقتراح بالقول انه لا يرضى عن حيفا بديلاً وأنه أوصى عائلته أن يدفن في ترابها وأن يكتب على رخامة قبره: "اميل حبيبي باق في حيفا" إذ كان يعتبر بقاءه فيها حتى بعد مماته نوعاً من الصمود وتمسكاً منه حياً وميتاً بأرض فلسطين.
لم يكن البطرك خريش البطرك الوحيد الدائم التعلق بها والتذكر لأيامها وروحها بل كان البطرك حكيم أيضاً، بطرك الكاثوليك، فلسطيني المولد والمنشأ الذي كان مطراناً للمدينة قبل أن يصبج بطريركاً. أما المطران حجّار اللبناني الأصل في بلدة "قيتولي" قرب "جزين" فقد تآخى مع فلسطين حتى أعطاها روحه بأن استشهد في واقعة محفورة في ذاكرة الفلسطينيين عموماً في كل الأديان. إذ قطع الصهاينة عليه الطريق وأمطروه بالرصاص والحجارة حتى قضى.
وقد روى المرحوم الدكتور أمين الجميل والد الشيخ بيار وجد الرئيس السابق أمين أنه ذهب مرة إلى حيفا في سياق رحلة بحرية على المتوسط في سفينة ايطالية وكان في زيارة أقارب له هناك من عائلة صهيون فعرف بذلك يهود من جيران صاحب المنزل فأخذ واحد من هؤلاء اليهود يشرح أمامه مشروعهم والدكتور يصغي فلما انتهى المحدث من حديثه توجه إلى الدكتور يسأله عن رأيه فيما سمع فأجابه الدكتور ان ضحية هذا المشروع ليس الفلسطينيين ولا اليهود بل ضحية هذا المشروع هم المسيحيون في لبنان خاصة وفي هذه المنطقة لأن لليهود أنصارهم في الدول التي أرسلتهم والمسلمون كثرة ولا خوف عليهم أما المسيحيون فهم دافعو الثمن لهذا المشروع وضحيته الأولى.
باسم روح حيفا المنفتحة تاريخياً يقدم حزب العمل مرشحه عميرا ميتسناع كمنافس محتمل لشارون على رئاسة الحكومة وقد يكون الكثيرون مصيبين في الرهان على روح حيفا كعنصر كابح للعنف المدمر في فترة توق مزعوم للسلام ولكن العامل المقرر في هذه المرحلة التاريخية هو روح نيويورك لا روح حيفا. فهل تظل أحداث نيويورك هي الآمرة الناهية في كل تفصيل من تفاصيل المنطقة أم هو مسموح للقوى الإسرائيلية المعادية لشارون أن تسجل نصراً نوعياً على أرض فلسطين فيصبح السلام امكانية جدية تبعد الفاجعة المتفاقمة التي أصبح شارون رمزاً لها فيقال ان روح حيفا هي أيضاً حقيقة ولو في حدود هذه المنطقة وسلامها وحقها في الوجود والدور الفاعل في العالم.