القاهرة- نبيل عمر: لم يغير قبول العراق عودة المفتشين إلى بغداد دون شروط قيد أنملة في موقف الإدارة الأمريكية، فـ"آلة الحرب" لم تكف عن الدوران، ولا التصريحات الاستفزازية توقفت عن توجيه اللطمات العنيفة إلى رأس الرئيس صدام حسين، لعله ينفعل وينحرف، فتهبط عليه طائرات ستيلث ومروحيات الأباتشي وصواريخ كروز ودبابات أم أكس 60 من كل صوب، تقتلعه وتلقى به أمام محكمة مجرمي الحرب هو ورجال نظامه، ثم تمشي مواكب النصر في العاصمة واشنطن مزهوة بانتصار الفيل الأمريكي على النملة العراقية!
ويكاد يجزم كل المحللين في العالم بأن الحرب قادمة وأن الغزو الأمريكي لبغداد على الأبواب، سواء انصاع العراق لقرار مجلس الأمن ونفذه بحذافيره أو لم يفعل، فالرئيس الأمريكي ليس أمامه سوي الاختيار صفر، وألا سقط سقوط مدويا من عرش الرئاسة الأمريكية، فكيف يفسر لناخبيه حملة مذهلة من الأكاذيب والحقائق وسن السيوف وتحريك القوات، حملة استمرت لقرابة العام، لم يمر خلالها يوم واحد دون تصريح أو تلميح بالحرب، هل يمكن أن يقبل الشعب الأمريكي من إدارته أن تعمل عاما متواصلا على حشده وإرعابه من الخطر العراقي على الأمن القومي الأمريكي ثم ينتهي كل شيء في هدوء؟!..من يتحمل حسابات خاطئة ومليارات ضائعة وسياسات فاشلة؟!
لا يمكن أن تصعد الإدارة الأمريكية حملتها إلى هذه الدرجة من السخونة وهي لا تدبر أمر الحرب سواء التزم الرئيس العراقي بقرار مجلس الأمن أو تحايل عليه؟!..وما تصريح الرئيس بوش في مدينة براج التشيكية في جولته الحالية لحشد مؤيدين للحرب إلا أكبر دليل، فهو يقول: إذا أنكر صدام حسين امتلاك أسلحة دمار شامل فسيكون قد دخل المرحلة الأخيرة من قيادته للعراق.
وعموما..لم يبق للإدارة الأمريكية إلا أن تطلب من الرئيس صدام أن يقلد "نوم العازب أو حركات القرد ميمون"!
ولهذا تتبارى الصحف الغربية في التنبؤ بمصير عائلة صدام بعد الغزو، ما الذي سيحدث لهم؟..هل تنفيهم واشنطن إلى الخارج أم أن الرئيس العراقي نفسه سيدبر لهم أمر الفرار والاختباء حين تنطلق الصواريخ؟
وتقدمت جريدة التايمز البريطانية وكتبت تقريرا طويلا امتدت من الصفحة الأولي إلى الصفحات الداخلية عن حكاية مثيرة للغاية، وهي أن صدام سيدفع ثلاثة ونصف بليون دولار إلى الرئيس الليبي معمر القذافي، مقابل أن يمنح عائلته مأوى في ليبيا.
حين قرأت العناوين سألت نفسي: مثل هذا التقرير..من هم مصادره في بغداد أو طرابلس؟
وأجبت: الرئيس الليبي نفسه عن طريق تسريب هذه المعلومات إلى الصحف الغربية، حتى يعطل الصفقة ويرفع الحرج عن نفسه، خاصة وهو في الآونة الأخيرة يبذل النفيس والغالي من أجل نيل الرضا السامي الأمريكي ووصل الأمر إلى دعوة ملكة جمال الإنترنت الأمريكية إلى طرابلس، والظهور معها وهي ترتدي الشورت الساخن، وحين قبلته على خده حملها لرسالة مهمة للشعب الأمريكي: أخبريهم عندما تعودين إلى أمريكا أن القذافي يحبهم جدا، فتأثرت الفتاة الرقيقة بهذه المشاعر الفياضة وأخذت دموعها تسيل من فرط انفعالها بمشاعر العقيد تجاه الأمريكان، وبالتالي لا يمكن أن يقدم القذافي على فعل يثير غضب الفيل الأمريكي، خاصة أن الفيل لن يكتفي كما يقال بتغيير نظام صدام حسين فقط!
وإذا لم يكن العقيد أو بعض رجاله بمعرفته فالمصدر أيضا لابد أن يكون من المقربين منه المعارضين له ويودون إحراجه وإظهار تعاونه مع صدام حسين في تلك الفترة المضطربة التي تحمل رياح التغيير بين أجنحتها إلي الشرق الأوسط!
أو أن المصدر.. من حاشية الرئيس العراقي، الذين يعملون على الإطاحة به ويجنبون العراق ويلات الحرب ولا يقدرون!
وقرأت التقرير الذي كتبه مايكل إيفانز محرر الدفاع بالجريدة، ووجدت مصادره من الدبلوماسيين الغربيين في طرابلس، وبالطبع هم في الأصل رجال مخابرات بريطانيين!
يقول التقرير: وضع الرئيس العراقي صدام حسين خطط سرية لعائلته وأعضاء نظامه المهمين، بأن يمنحوا لجوءا سياسيا في ليبيا، في حالة نشوب الحرب مع أمريكا أو نجاح انقلاب داخلي في بغداد، وأن هذه الخطوات غير العادية لتوفير منفي لأقربائه ومساعديه مقابل 3,5 بليون دولار مودعة في بنك ليبي تقدم أول دليل بأن صدام يواجه إمكانية خلعه من السلطة، وقد علمت التايمز أن مبعوثا سريا زار كل من ليبيا وسوريا ليؤمن طريق الهروب للعائلة والرفقاء!
ولا تشمل الصفقة مع طرابلس توفير مأوى لصدام أو لابنه الكبير عدي، حتى لا يتعرض القذافي لضغط دولي هائل خاصة من واشنطن لتسليمهما من أجل جرائم الحرب التي ارتكباها!
ولم تكتشف ولا كلمة من صفقة صدام إلا من مصادر دبلوماسية في طرابلس، عقب زيارة قام بها الجنرال "على حسن المجيد" ابن عم صدام ومحل ثقته إلى ليبيا في 8 سبتمبر الماضي، ويعرف الجنرال المجيد في الأوساط الكردية في شمال العراق بـ" على الكيماوي"، لأنه كان المسئول عن القوات العراقية التي شنت هجوما بالأسلحة الكيماوية على "حلبجة" في عام 1988، وهو أيضا كان محافظ "الكويت"، بعد الغزو العراقي لها في أغسطس 1990، وهو الآن أحد قادة حزب البعث، ويعتقد أنه سافر إلي طرابلس في مهمة شخصية كلفه بها صدام لإتمام ترتيبات إقامة عائلته.
وقالت المصادر أن العقيد القذافي وافق في مقابل الـ3, 5 مليون دولار أن يمنح عددا من مساعدي صدام وعائلاتهم مأوي لهم، وتعتقد المصادر أن القائمة تشمل علي: طارق عزيز نائب رئيس الوزراء، ونجيب صبري وزير الخارجية، وعزة إبراهيم نائب مجلس قيادة الثورة، والبقية من الأسماء غير المعروفة من قيادات حزب البعث.
وفي ترتيبات أخرى زار مبعوث عراقي العاصمة السورية دمشق، ليؤمن طريق هروب لبقية العائلة من تكريت عبر بادية الشام، ولم يكن واضحا إذا ما كان قصي صدام حسين الابن الثاني والمفضل له ضمن الاتفاق أم لا!
ولن يقدم صدام حسين على خطوة تهريب عائلته من العراق إلا حين يتأكد من نظامه على وشك الانهيار، وسينصب اهتمامه الأول على قصي وأصغر أبنائه "على" وأحفاده.
وقد أدعت مصادر فرنسية أن عدي قد ذهب إلى موسكو قبل شهرين، يجس نبض القيادة الروسية لقبوله وأبيه على أراضيها، لكن المخابرات البريطانية اعتبرت كلام الفرنسيين غير دقيق بالمرة، وقالت إن الشخصيات المهمة في حزب البعث فكرت في دول الشمال الإفريقي، لكن علاقات هذه الدول الوثيقة بالغرب تجعلهم عرضة للقبض عليهم وتسليمهم لمن يريد.
فعلا الرئيس صدام حسين في ورطة، إذا ما حان وقت خلعه من السلطة بالقوة، فهذا الرجل لم يترك له صديقا في أي مكان في العالم يمكن أن يقبله لاجئا دون أن يعادي الرئيس جورج بوش شخصيا، ويبدو أيضا أن تقرير التايمز هو مناورة أو تمهيد أرض لكل الاحتمالات المقبلة في الشرق الأوسط، فتوريط سوريا وليبيا في حماية عائلة الدكتاتور المغضوب عليه يؤهلهما مع أسباب أخرى إلى دخول قائمة النظم المطلوب تغييرها، فقلب نظام صدام حسين بالقوة الأمريكية لن يكون له ذلك التأثير الاستراتيجي الساحر في الشرق الأوسط كما يعلن الصقور من عينة ديك تشيني ودونالد رامسفيلد إلا بعمليات مشابهة في دول أخري.
وطبعا لا تكتفي التايمز بتقرير الصفقة لمستحيلة بين صدام حسين والعقيد القذافي، وهو يشبه التقارير التي انتشرت في الصحافة الغربية بعد أحداث 11 سبتمبر عن المنطقة العربية والأخطار المحيطة بالغرب، ويحكمها منطق الدعاية على طريقة الوزير الألماني الشهير جوبلز، وتلفيق الحقائق حسب الحاجة والمصلحة ورغبة الجمهور.
وتفرد التايمز نصف صفحة لعائلة صدام حسين، وهو له ثلاث زوجات خلاف واحدة مطلقة بعد أن أعدم أخيها، وولدان سيغادران بغداد وثلاث بنات هن رغدة 35 سنة، ورنا 33 سنة، وهالة 30 سنة، وعدد كبير من أبناء الأعمام والأخوال، ودستة أشرار من الأقارب التكريتيين الذين عملوا معه.
كانت الأختان رغدة ورنا قد انشقا على الأب وهربا مع زوجيهما من العائلة التكريتية في عام 1995 إلى الأردن، لكن صدام بالحيلة أعادهم إلى بغداد وطلق البنتين وأعدم الزوجين، أما هالة فقد ولع بها شاب عادي، فدفنه صدام في حفرة حتى رقبته وأمر رجاله بضربه بالحجارة حتى الموت، وهي لم تتزوج إلى الآن بالرغم من كثرة طالبي يدها. باختصار هي عائلة دموية تستحق ما يجرى لها!
ولا أحد ينكر مأساة الشعب العراقي في ظل صدام حسين، وهو ما يصنع وضعا رهيبا للعالم العربي شعوبا وحكاما، فهم جميعا بين نار التكريتي ونار التكساسي، صدام ديكتاتور صغير داخل بلاده، والتكساسي بوش ديكتاتور كبير خارج بلاده، وكلاهما يرتكز على القوة في فرض طغيانه ولا يضعا الشعوب في حسبانهما، الأول باسم سلامة العراق ومجده، والثاني باسم سلامة العالم وأمنه، والاثنان كاذبا..فأيهما نختار؟! بالقطع شعب العراق..لكن هل لاختيارنا قيمة ؟