نضال حمد
الحلقة الثالثة
&
في مخيم بيستوم للاجئين والمهاجرين الأجانب في العاصمة أوسلو, قضيت 20 شهرا من حياتي. كانت تلك الأشهر بمثابة تجربة حياتية فريدة من نوعها وجديرة بالاهتمام. كان من الصعب على الإنسان التعايش مع بشر من جنسيات مختلفة ومتعددة في مساحة لا تزيد على 200 متر مربع, بحمام ومطبخ وصالون مشترك وتلفاز أيضا مشترك. كيف توفق بين من يريد مشاهدة حفل موسيقي وأخر يريد مباراة كرة قدم وثالث يحبذ المحطات الموسيقية مثل أل أم تي في وغيرها., عداك عن رابع يريد مشاهدة المسلسلات والأفلام وخامس لا يريد سوى خراب جهاز التلفزيون وتوقفه عن البث, مع أنه كان من أهم وسائل الترفيه علينا في غربتنا.
كان القسم الأكبر من هؤلاء جميعا يتفق على مشاهدة أفلام الدعارة آخر الليل, وهذه الأفلام كانت تبث عبر محطات تلفزة خاصة وليست نرويجية, أما الأفلام الخلاعية والدعارة فهي ممنوعة رسميا في النرويج وتخضع للرقابة المستمرة. لكن أحيانا كثيرة كان الفيلم بالصوت وبدون صورة, وكان كافيا للبعض منا كي يبدأ التحليق عاليا في سماء الإباحة الشخصية والملذات الجنسية المترسبة في قعر دهورنا و المتمسكة بجذورنا وبكل ما في حياتنا من مراحل جعلتنا نكبر ونحن عديمي التجربة الجنسية. بالنسبة لي شخصيا لم أكن من الذين يسيل لعابهم لرؤية مشهد خلاعي, لأنني بطبيعتي لم أكن أحب التجارة بأجساد البشر وبعواطف الناس ومشاعرهم وأحاسيسهم ونقاط ضعفهم, بالإضافة لمعايشتي اليومية وعلى الطبيعة للحياة الجامعية في إحدى الدول الأوروبية, حيث تعلمت الكثير من حياة الطلبة والمجتمعات الأوروبية التي تختلف عن حياة مجتمعاتنا ولها عادات غير عاداتنا, ففي تلك المجتمعات هناك من يعتبر الجنس شيئا عاديا وهناك من يتاجر بالجنس من الذكور والإناث.. أما تلك الأفلام ليست أكثر من قذارات متلفزة مارست ومازالت تمارس دورا تخريبيا في حياة البشر. مع العلم أن هناك من يدافع عنها ويعتبرها مدرسة لحل عقد المعقدين جنسيا والذين يعانون من عجز وقصور جنسي, إذ هي تساعدهم على إيجاد الطرق والحلول المناسبة لحل مشاكلهم المستعصية.
كانت تلك الليالي مع الأفلام تلك توحد العيون وتستفز باقي الأعضاء فمن كان لديه مكانا لتفريغ قهره كان يأوي إليه,أما الآخرين الذين كانوا بلا أمكنة للتفريغ فكانت أمكنتهم خلف الأبواب الموصدة وفي رحمة اللحظة الحاسمة والطفرة الهائجة والشهوة المتفجرة.
كان مخيم بيستوم يتألف من ستة مباني خشبية مركبة على أرض المكان ومعدة للتفكيك والترحيل في أية لحظة. خمسة من المباني للسكن, أربعة منها بطابقين في كل منهما خمسة غرف فردية وغرفة كبيرة عائلية مع صالون داخلي وحمام خاص خارجي, إضافة إلى غرفة صالون ومطبخ وحمام آخر خاص بباقي الغرف الخمسة. أما المسكن الخامس فكان نصفه الفوقي للسكن والنصف السفلي صالة للتمارين الرياضية والمطالعة. وأنا كنت من سكان هذا المسكن. وبخصوص المبنى السادس فكان مقر الإدارة والاستعلامات والمستودع. كما أن المباني كلها كانت مجهزة بنظام رادارات وأجهزة إنذار حديثة للتحذير من الحرائق, خاصة أن النرويج مشهورة بكثرة الحرائق التي تندلع فيها وتودي بحياة بعض السكان سنويا.
&وكان يوجد جهاز هاتف عمومي وحيد قرب مقر الإدارة. وحدث في فترة من الفترات أن تمت عملية قرصنة للهاتف لم أعرف عنها ألا بعد مرور أسابيع على حدوثها, لكنني كما غيري من اللاجئين عندما عرفت بالأمر قمت بأجراء بعض اتصالاتي الهاتفية المجانية من خلال الهاتف المقرصن, لكن مكالماتي كانت محدودة لعدة أسباب. لكن وبعد فترة من الزمن انتهت عملية القرصنة وعادت الأمور إلى نصابها ولم نعد نرى الطابور الطويل من الذين كانوا ينتظرون دورهم لأجراء& اتصالاتهم التلفونية المجانية والتي تلف العالم على مدار الساعة.
في هذا المخيم تعرفت على بعض الأصدقاء من لبنان وفلسطين وسوريا والسودان والصومال وإريتريا وبورما والعراق وكردستان بكل أقسامها الجغرافية ومن بولندا والبوسنة وكوسوفو وكرواتيا. ولقرب المخيم من مخيمات لاجئين أخرى استطعت بناء شبكة علاقات عامة بين اللاجئين الفلسطينيين الجدد والقدامى وبين مجموعة من الفلسطينيين المقيمين والآخرين المتجنسين في هذا البلد الأمين. استطعنا التعرف فيما بعد على معظم الفلسطينيين المقيمين في العاصمة أوسلو وضواحيها وبعض المدن المجاورة, شخصيا بنيت مجموعة علاقات منها الذي أستمر حتى هذه الأيام ومنها الذي انتهى و زال مع مرور الزمن وبفعل طبيعة تلك العلاقات العابرة في مرحلة عابرة.
&من الطرائف التي تستحق الذكر في تجربة بيستوم هو لقائي هناك بثلاثة أشخاص كنت اعرفهم من قبل مجيئنا إلى النرويج, لكن المشكلة كمنت في كيفية التعاطي معهم بأسمائهم الجديدة. تجاوزت تلك المرحلة وعبرت امتحان الثقة بنجاح على الرغم من الصعاب التي كانت تواجهني في لحظات معينة. عرفت فيما بعد أنهم عادوا لأسمائهم التي كنت اعرفها قبل لقائهم في النرويج. سألت أحدهم لماذا بدل أسمه, فقال لأنه تفاجئ بالموساد الصهيوني يحقق معه ومع الفلسطينيين الذين التجئوا إلى النرويج أبان أزمة الكويت وحرب الخليج. هذه الحادثة المعروفة والمشهورة ستبقى وصمة عار توبخ وجه الديمقراطية النرويجية المميزة, وعلى كل فلسطيني و كل لاجئ مقيم في المملكة النرويجية أن لا ينسى تلك الحادثة ويشهرها بوجه كل رجل أمن يتخطى حدوده في التعامل.
كان لكل من اللاجئين قصة مشوقة, منها ما هو صحيح وحقيقي ومنها ما هو من تأليف ومخيلة أصحابها من اللاجئين الذين جاءوا إلى هنا للبحث عن حياة جديدة في عالم جديد بعدما أقفلت الدنيا أبوابها بوجوههم في عالمهم القديم. فمنهم من كان فعلا يعاني من مشاكل سياسية وهؤلاء قلة, ومنهم من كان يعاني من مشاكل اقتصادية وهؤلاء أكثرية وهناك من كان يعاني من مشاكل عنصرية و عرقية وشهوانية. كان بعض الذين يطلبون اللجوء من بعض الجنسيات يقدمون طلباتهم للمعنيين مرفقة بأكاذيب مهينة ومعيبة, فمنهم من كان يقدم أنه "سادومي أي لوطي" ومنهن من قدمن أنهن سحاقيات وأن كلا الطرفين ملاحق ومضطهد في بلاده لتلك الأسباب, وقد تفنن بعض الإيرانيين في تقديم هكذا أسباب للحصول على الإقامة وحق اللجوء, متذرعين بتلك المساءل ومتهمين بلدهم بقمعهم على هذا الأساس. كما أنه كان من الطبيعي أن تلتقي في مخيم اللجوء أو في مدينة أوسلو رجلا أو امرأة من بلد عربي ما يقولون لك أنهم فلسطينيون من نفس مخيمك أو من نفس بلدك وأنت لا تعرفهم. كما أن بعض الشهداء الفلسطينيين من أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان لازالوا أحياء هنا في شخصيات أخرى حملت أسمائهم وهويتهم وهاجرت فيها إلى هذه البلاد البعيدة وإلى بلاد أخرى قريبة منها.لقد& التقيت بأحياء يحملون أسماء بعض معارفي من الشهداء ويحيون في أوروبا كأنهم لم يمتوا.
هذه الظاهرة تستحق الدراسة والبحث والتحليل والتوقف عندها..
&يتبع..
&
&