القاهرة- ايلاف: كانت جنازة المرشد العام الراحل للإخوان المسلمين فرصة انتهزتها الجماعة لاستعراض عضلاتها السياسية، واختبار آلتها الإعلامية، ليس في المشهد المحلي المصري فحسب، بل على الصعيدين الإقليمي والدولي أيضاً، فلم يحدث مثلاً حين توفي أي من قادة الأحزاب السياسية المعترف بها في مصر ـ فؤاد سراج الدين مثلاً ـ أن حظيت
جنازته بمثل هذا الاهتمام الإعلامي والسياسي الذي حظيت به "جنازة الإخوان"، التي استتبعتها زيارات وفود من الداخل والخارج
في ما يمكن وصفه بعملية تأييد، أو على الأقل اعتراف بوضعية الجماعة التي تصر الحكومة المصرية على تصنيفها باعتبارها "محظورة"، ولم تفوت الجماعة هذه الفرصة بل ذهبت إلى أبعد حد للاستئساد على حكومة "رخوة" إلى حد انها لم تعد معنية حتى بمراجعة دبلوماسي انتهك كل قواعد البروتوكول، وزار مقر جماعة "محظورة"، ولا الاحتجاج لدى دولة مثل قطر أرسلت حزمة مسؤولين للاجتماع بـ "المحظورين" من صقورالجماعة، بل وصل الأمر إلى حد لم يقم فيه لتاريخه المهني ولا للحكومة "الرخوة" أحد كبار وزرائها السابقين أي اعتبار، رغم انه الوزير الذي كان مسؤولاً عن الأمن حتى سنوات قليلة مضت، فيسير في جنازة من كان يصفه بالإرهابي.
محور (قطر ـ الإخوان)
بعد زيارة سفير العراق لدى القاهرة لمقر الإخوان "شبه العلني" في "شقة الروضة" وسط العاصمة المصرية، وظهور وزير الداخلية المصري السابق حسن الألفي في تشييع جثمان "ابن بلده محافظة الشرقية" المرشد الراحل، وفي خطوة غير متوقعة، سربت جماعة الإخوان المسلمين معلومات لمراسلي بعض الصحف العربية عن قيام ولي عهد قطر الشيخ جاسم بن حمد آل ثاني بتقديم العزاء في وفاة مشهور، وانه كان على رأس على رأس وفد رفيع المستوى ضم وزير الاوقاف القطري احمد عبدالله المري، ووكيل التشريفات في الديوان الاميري الشيخ عبدالرحمن بن سعود آل ثاني، والسفير القطري بالقاهرة، بلقاء مأمون الهضيبي، نائب المرشد العام والقائم بمهامه، ليقدموا اليه العزاء، ثم أصدرت قطر بياناً نفت فيه قيام ولي عهدها بهذه الزيارة، في ما فسرت الصحف التي تورطت بنشر "تسريبات الإخوان" الأمر بأنها قصدت "شقيق أمير قطر السابق وعم الأمير الحالي الشيخ محمد بن حمد آل ثاني".
وإذا تجاوزنا هذا اللغز أو تلك الأكذوبة التي ورط بها الإخوان أو القطريون الصحافة، فإنه ليس سراً إن هناك ما يمكن وصفه بالتفاهم بين قطر الرسمية، وجماعة الإخوان المسلمين، بل ربما يتجاوز الأمر حدود التفاهم إلى منطقة تلاقي المصالح، فبعد أن خذل الترابي الإخوان قبل أو أثناء أو حتى بعد اقصائه عن السلطة في السودان، وفقد الإخوان آمالهم في "مظلة" دولية وإقليمية طالما راهنوا عليها، هي السودان، التي طالما سعوا اليها ليجعلوا منها اطاراً إقليمياً، كما فعلوا مع حزب العمل المصري الذي انقلب بفضل الإخوان من حزب "اشتراكي" إلى مجرد "واجهة إخوانية"، ولعبة الالتفاف على الشرعية هذه هي إحدى الألاعيب التي برع بها الإخوان محلياً، وجاء دور "عولمتها"، وهو ما يحدث الآن في الحالة القطرية، فصقور الإخوان تلتقي رؤاهم وطموحاتهم مع "صقور الدوحة"، ومن هنا لم تكن مصادفة استضافة قطر لكل هذا الحشد من رموز الإخوان، سواء في الإعلام أو السياسة أو حتى القرضاوي ذاته الذي أصبح منذ سنوات مواطناً قطرياً، فضلاً عن استقبال قيادات "حماس"، وهي كما يعرف الجميع الذراع العسكري للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، في الداخل الفلسطيني.
إذن فلم تكن ـ بتقديرنا ـ زيارة ولي العهد القطري، أو عمه أو وزرائه أو سفيره، أكثر من واجب يقتضيه وضع الحلفاء، فمشروع الإخوان الأممي يلتقي مع طموحات قطر الإقليمية، وهو أمر مفهوم الدوافع، كما هو مفهوم ماذا يريد كل طرف في هذا الحلف (الإخوان ـ قطر) من الآخر، ولا يمكن أن تكون مصادفة أن تقود الإعلام القطري الآن كتيبة من نشطاء جماعة
الإخوان، رغم الحسابات الدقيقة التي يحرص عليها القائمون على الأمور هناك، بالإصرار على وجود بعض الوجوه غير المحسوبة على الإخوان، وإن كان هذا الأمر في المحصلة النهائية لا يخرج عن بند "استكمال الديكور" لا أكثر.
الهضيبي وصدام
ويبدو ان الهضيبي الذي بدا منذ حفل افطار الإخوان مصراً على الخوض في الشأن السياسي الإقليمي والدولي، قد انتهز فرصة لقائه بالوفد القطري الذي يرأسه ولي العهد شخصياً ليجدد طرح رؤاه السياسية، لكنه على ما يبدو تورط في ما لا ينبغي الخوض فيه، وتصر الجماعة على بقائه داخل منطقة "المسكوت عنه" إيثاراً للسلامة، إذ نقلت عنه الصحيفة الكويتية قوله إننا "نقدر الظروف الدولية التي تمر بها المنطقة، ولا ننكر الخطيئة الكبرى التي اقدم عليها الرئيس العراقي صدام حسين بعدوانه على جيرانه ونحن لا نزال ندين هذا الحدث ونؤكد انه خارج عن كل الاعراف والمشاعر الانسانية"، وهو خطاب بالتأكيد لم يرد على لسان الهضيبي حين استقبل السفير العراقي في القاهرة، ما يشير بوضوح إلى الطريقة الدبلوماسية، والمنهج المراوغ للجماعة في تعاطيها مع الشؤون السياسية
وهذا سلوك سياسي متعارف عليه في الأوساط السياسية والحزبية عموماً، لكن أن يصدر عن جماعة تقدم نفسها باعتبارها حاملة طرحاً سياسياً يستند إلى المبادئ، وتروج لفكرة "السياسة الأخلاقية"، فهنا تبدو المفارقة، وقد يسعى البعض لتبرير الأمر بالقول إن هناك تمييزاً بين العراق والقيادة العراقية، غير انه من المعروف إن السفير العراقي في القاهرة لم يأت إليها بناء على انتخاب شعبي، بل بقرار حكومي أصدره صدام، وكان أولى بالمرشح لمنصب المرشد أن يتسق مع نفسه، ولا يستخدم أكثر من خطاب في التعاطي مع المسألة، فيكون رأيه في صدام أمام القطريين هو نفس رأيه فيه أمام سفير صدام لدى القاهرة، أو يصمت.
أمراض السلطة
إذا أراد الله بأمة شراً جعل معارضتها أسوأ من حكومتها، فعلى الرغم من عدم حسم اسم المرشد الجديد للإخوان بالصورة التي توقعها المراقبون، فلم يحدث سيناريو "بيعة المقابر" ولا "بيعة الشيراتون"، غير ان ثمة حقيقة لا يمكن القفز عليها وتجاهلها، وهي ببساطة إن هذه الجماعة "المحظورة سابقاً"
تعاني من نفس أمراض السلطة التي تعارضها، وتطرح نفسها بديلاً لها، فهي تفتقد للشفافية في التعاطي سواء على صعيد ما يجري في كواليسها، وما تصر على ممارسته من كهنوت وتعتيم وأجواء سرية تشبه منظمات الماسون، مروراً بلعبة المتقاعدين التي يسخر منها البعض بوصفه إياها بنظرية "الجبنة القديمة"، التي تصبح أكثر جودة وأفضل مذاقاً كلما "تقادمت"، وهو مرض تنافس فيه جماعة الإخوان السلطة، فجل قادتها من "أرباب المعاشات"، وليس انتهاء بازدواجية الخطاب، فالجماعة تتنازعها أدبيات قطبية متطرفة، وأخرى سياسية مراوغة، وثالثة براغماتية تفتقد ـ كما أسلفنا ـ لخرافة "السياسة الأخلاقية" التي تزعم الجماعة تمايزها بها عن الأحزاب العلمانية.
وإذا كانت الأمور على هذا النحو السئ، بمعنى ان الجماعة التي تطرح نفسها بديلاً معارضاً "محجوباً عن الشرعية"، تعاني من نفس أمراض السلطة المزمنة، فما جدوى أن يراهن الناس على جواد خاسر مقدماً ؟اغلب الظن إن الناس تقول في سرها "اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش"
والله أعلم