حسن المصطفى
&
جاء البيان الأخير حول (التهديدات الأمريكية في المنطقة) الموقع من قبل مجموعة من العلماء والدعاة والأكاديميين في العالم العربي، ليصب في ذات السياق الذي صدرت فيه بيانات سابقة، دون مقدرته على اجتراح أفكارٍ جديدة وحلول حقيقية للمأزق الذي تعيشه الحالة الإسلامية في العالم، وبالأخص في البلدان المستهدفة أمريكيا.
إن المراقب للحال الإسلامية يجدها أمام فوضى كمٍ هائل من البيانات التي تصدر من هنا وهناك، في حال تراكمية لم تفضي لحد الآن لمبادرة حقيقية يمكنها أن تشكل نواة مشروع حقيقي يحمل بعض الحلول ويقدم كخطة عمل على أرض الواقع.
إن تكاثر البيانات بهذا الشكل الفضفاض يفقدها أهميتها، ويجعلها حالة دعائية محضة، تجتر حال العجز العربي، وتكرس لفظياته ومنطوقاته الكلامية، مكرسة حقيقة ما عبر عنه عبد الله القصيمي من كون العرب "ظاهرة صوتية"، وكأنه ومن خلال هذه البينات سنصل لحلول سحرية تجنبنا التهديدات الأمريكية، وتحد من غلواء التطرف في أوساط الحركات الإسلاموية.
البيانات في حقيقتها تهدف لتحقيق أمرين في غاية الأهمية: تكوين رأي عام عربي جماهيري تتفق عليه شعوب المنطقة، وبناء مشروع نهضوي بمقدوره أن يترجم عبر آليات عمل فاعلة على أرض الواقع. لكن جميع البيانات الصادرة لحد الآن لم تستطيع تحقيق هذين الهدفين، بقدرِ ما أثار بعضها نوعا من التصادم بين قوى إسلامية وأخرى ليبرالية، وسعت الهوة بينها بدلا من أن تردمها، وأفرزت خطابات متطرفة من الفريقين.
هذه البيانات وفي قراءة لمضمر خطاباتها - في جزء منها وليس بكلها- تؤسس لحال فئوية ليس بمقدورها أن تحتضن تنوعات الطيف الفكري والعرقي والمذهبي والتباين بين ثقافات شعوب المنطقة. بل هي في جزء منها تشكل حال تفردية، كونها تنطلق من مسلمات ومواقف مسبقة هي في الأساس لا يمكنها أن تخلق خطابا حداثيا متجاوزا لارتهاناتها الكلاسيكية والشعبوية.
&
***
&
في البيان الأخير حول (التهديدات الأمريكية في المنطقة) ثمة ثغرات، وأخطاء تم تكرارها وصياغتها من جديد، دون أن يستفاد من تجارب البيانات السابقة. فثمة قلق وخوف لا مبرر له من العلمانية، وكأنها حربة المشروع الأمريكي في المنطقة. هذا الخوف يتضح من خلال ما ورد في البيان عندما تحدث قائلا: "ومن ذلك الضغط على بعض الحكومات لتغيير مناهجها الدراسية ... ودفعها إلى تبني نموذج علماني يتناقض مع قيم الشعوب ويؤدي إلى الصدام بينها وبين حكوماتها". هذا الموقف من العلمانية، وإقحامها بوصفها هدفا أساسا تسعى أمريكا لتحقيقه، ينبئ عن خلط في المفاهيم، لأنهم بهذا الإقحام يساوون بين العلمانية والإمبريالية، ويقدمون العلمانية بوصفها أداة لنهب ثروات الشعوب والسيطرة عليها. فيما العلمانية في مفهومها بعيدة كل البعد عن ذلك. وفرق بين العلمانية والإمبريالية والعلمانوية.
إن الإمبريالية والعلمانوية مرفوضتان لكونهما قائمتان على التطرف والإقصاء. فيما العلمانية بمفهومها الفكري، هي خيار معرفي، وسلوك حياتي شحصي، لا يمكن تحميله كل هذا الوزر. شيء آخر، أن هذا الطرح السلبي ضد العلمانية من شأنه أن يخلق حال من اللآتوافق بين النخب السياسية والفكرية الفاعلة في الوطن العربي، بدلا من أن يجمعها في مشروع واحد. إن من حق أي صاحب مشروع إسلامي أن تكون له رؤيته وموقفه من العلمانية، لكن أن يستحيل هذا الموقف لنوع من المساواة بينها وبين النوايا الأمريكية أمرٌ ينبئ عن خلل كبير. إن الإدارة الأمريكية لا تهدف إلى علمنة المنطقة، لأن المشروع العلماني لا يعني بسط السيطرة الأمريكية، ففرنسا وألمانيا دولتان علمانيتان، فهل جعلتهما علمانيتهما رهينتان للمواقف الأمريكية؟.
فيما يتعلق بالمناهج الدراسية، فإن كل هذه المنافحة من أصحاب البيان والتأكيد على عدم تغييرها، إنما هو ذات الشرك الذي تريد أمريكا وقوى التطرف أن نقع فيه. إن إعادة النظر في المناهج لا يعني إلغاءها أو إبعاد الدين عن المدارس والجامعات، وإنما ما يراد هو قراءة حقيقية ونقدانية تجاه خطاباتنا الدينية والفكرية، تقوم بعملية غربلة وإعادة تقييم وقراءة واعية، تجعل بالإمكان صياغة مناهج وخطابات إسلامية تنشئ جيلا يمتلك معرفة دينية حقيقية لا تدينا أجوفا خالٍ من كل معرفة.
ثمة موضوعة مهمة يرى القارئ للبيان غيابها عنه، ألا وهي موضوعة "الديمقراطية" التي استبدلت بـ"الشورى"، مما يعني أن ذات النظرة التشكيكية القائمة تجاه الديمقراطية لا تزال تحكم نخبنا الإسلامية. هذه النظرة التشكيكية سببها السكونية في قراءة مفهوم الديموقراطية، والنظر لها بوصفها أدلوجة تتعارض والأدلوجة الإسلامية. فيما الديموقراطية لا تعدو كونها آلية عمل إجرائية تقوم على تطبيق القانون والدستور، وستكون بذلك تابعة لطبيعة المجتمع المنبثقة منه. فيما نجد أن مفهوم "الشورى" الذي طرحه البيان، لم يُبلور لحد الآن بشكل جيد في الأدبيات الإسلامية، ولم يصاغ كمشروع حقيقي ممكن أن يوجد على أرض الواقع. ذات الأمر يتعلق بما أسماه البيان "مسلمات وثوابت الأمة"، هذه المسلمات والثوابت لا تزال ضبابية في تجلياتها، ودخل فيها كثير من الدس والعادات والتقاليد والاجتهادات الفردية والجماعية التي أحالتها لمقدس لا يمكن الاقتراب منه وإعادة قراءته وتفكيكه، وعليه ولكي يحصل اتفاق لا بد من تحديد واضح لهذه الثوابت.
في جزء آخر يرى البيان أن "التهديد الخارجي الأميركي لا يمكن أن ينفذ إلا من خلال هذه الثغرات أو من خلال النخب الدائرة في فلك أميركا والملتزمة بمشروعها ونموذجها"!!، والسؤال هو: من الذي جاء بالقوات الأمريكية لأفغانستان؟، ومن الذي أثار كراهيتها تجاه المسلمين بكل هذا العداء؟، هل هم النخب الدائرة في فلكها، أم الحركات الإسلاموية المتطرفة وما قامت به من أعمال لا شرعية جرت المنطقة لكل هذه الويلات. إن إلقاء الكرة في ملعب المروجين للمشروع الأمريكي فيه كثير من التبسيط لما يجري على أرض الواقع، وهروب من مجابهة حقيقة الداء المستشري في أوساط الخطاب والحركات الإسلاموية، وابتعاد عن الفعل الحقيقي الواجب القيام به، ألا وهو مجابهة الذات وتفكيكها بوعي في حال من المكاشفة الجادة لا المجاملة وخطابات التبرير والدفاع غير المجدي عما حصل من أخطاء.
&
***
&
ضمن توصيات البيان الموجهة للشعوب يرى الموقعون ضرورة العودة للدين والتوبة واليقين بالله، وجميعها توصيات خيرة وطيبة. لكن المرء يتساءل: هل مأزق المسلمين في ابتعادهم عن الدين؟، وهل مأزقهم في كونهم مذنبين غير تائبين؟، لماذا نجد دول أوربا وكثير من دول العالم متقدمة ومتحررة رغم كونها دولا "لا دينية"!. إن المشكل لا يكمن في الابتعاد عن الدين بقدر ما هو مأزق غياب مشروع نهضوي عربي حقيقي، يكون الدين أحد مكوناته وجزء منه، دون إهمال الجوانب الأخرى. أضف لذلك إن العودة للدين دون تحقق المعرفة الدينية والوعي الفكري سيقود لنصوصية متطرفة تنتج المزيد من الخطابات الماضوية، دون أن تعي لخطورة ما تقوم به.
إن بيانا كهذا وقع عليه أناس أجلاء أمثال: القرضاوي، والغذامي، والنفيسي...وسواهم، كان يؤمل فيه أن يعيد طرح المفاهيم بشكل معمق أكثر، ويخرج عن المواقف المأزومة وردود الأفعال. وهذا لا يعني أن نذهب لما ذهب له الكاتب البحريني يوسف العباسي في مقاله المنشور في "إيلاف"، من كون البيان " لا يمكن فهمه إلا في إطار العمل على نشر المزيد من الكراهية والتحريض على العنف في المنطقة" لأن خطابا متطرفا كخطاب العباسي، سيزيد من حال الانفصال بين النخب الفكرية والسياسية والدينية في الوطن العربي، ونحن بحاجة لخطاب موحد يؤسس لحال معرفية واضحة، ويفرق بين حق مشروع في الدفاع والمقاومة كما هي حال الحركات الإسلامية والوطنية في فلسطين، وبين حال الإرهاب التي تمارسها المنظمات الإسلاموية المتطرفة كـ"القاعدة"، وشتان بين النموذجين.
&
كاتب سعودي
[email protected]