الوسيم الشمري
&
إذا كان لعلم السياسة ميزة على غيره من العلوم الأخرى، فميزته أنه يتعامل مع المستقبل.. وليس مع الماضي والحاضر فحسب، وعلماء السياسة لا يقرأون المستقبل على طريقة (التكهن) أو (العرافة)، ولكنهم يضعون الظاهرة السياسة تحت المجهر، فيحللون ويستنبطون ويستقرئون، مثلهم مثل "عالم الأحياء" الذي يجري تجاربه على الكائنات الحية التي لا ترى بالعين المجردة، ومثل "عالم الكيمياء" الذي يضع العناصر الكيمياوية مع بعضها لتتفاعل فتنتج عنها مركبات وعناصر جديدة!
السياسي ينظر الى الأحداث وتفاعلاتها كما ينظر الكيمياوي للتفاعلات الكيمياوية في المختبر، وفي علم السياسة معادلات وقوانين وجداول، ضرب وأسس وجذور تكعيبية وتربيعية، وإلا لكان استقراء السياسيين للمستقبل، اقرب الى (قراءة الكف) منه الى التنبؤ المستند الى التحليل العلمي. وهناك من يرى أن ثمة حد فاصل بين السياسة كعلم والسياسة كممارسة، فإذا ذهبنا الى العلم من اجل العلم يصبح واضحا أن هناك فاصلا بين العلم كعلم والعلم كتطبيق، أما إذا ذهبنا الى العكس أي أن العلم يوظف لأغراض العمل، فليس هناك حد فاصل بين العلم كنظرية والعلم كتطبيق.. وعلم السياسة هو علم لأغراض العمل السياسي. وليس بالضرورة أن يكون بالسياسي متخصصا بالعلوم السياسية وليس شرطاً بالمتخصص بالعلوم السياسية أن يكون سياسياً، ولكن يحبذ أن يكون رجل السياسة مطلعا على علم السياسة، لرفد التجربة أو لرفد الخبرة بإطارها النظري، الذي يساعد على حدوث تفاعل بين النظرية والتطبيق. والسياسة فن الممكن، وهي أيضا فن تطويع المستقبل ابتداء من الحاضر. وإذا كان الإنسان سياسيا بالفطرة، فان الذين ينبغون بعلم السياسة هم القلة القليلة، أما الذين يتصدون لقراءة المستقبل، ويعكسون صورة الغد في مرآة اليوم، فهم نخبة النخبة، وهذا ما شهدناه من النخبة العراقية في صحيفة (المؤتمر).
&
صحيفة جديدة
&
وثمة دوماً، متسع لصحيفة جديدة، وهناك دائماً قارئ جاهز لاستيعاب الجديد في الصحافة، وتكتمل المعادلة بان ثمة جديداً دائماً يمكن تقديمه للناس، ضمن هذه الورقات، التي تحمل التعب، والقهر، والحب.. وقد يقرأها شخص خلال دقائق، وهو لا يعرف أن تجهيزها أستغرق أياماً وليالي. والصحيفة روح وكيمياء وشخصية، وقد تخلق هذه الأمور صحيفة بصفحات قليلة، ولا تنالها صحف تمتلئ بعشرات الصفحات، وقد لا تحصل عليها صحيفة، إلا بعد سنوات طوال، في حين تستأهلها صحيفة منذ العدد الأول. وهذا ما كنا نتمناه للـ(المؤتمر)، التي لو لم يكن حسن العلوي على رأسها لما كانت بهذا الحال.
وإذا كانت الصحف.. أي صحف، يجاهد القائمون عليها، من أجل أن تكون لها موقعها في الوسط الذي خطط لها أن تكون فاعلة ومؤثرة فيه، مترسمين في ذلك خطوات مسبقة الجهد، وماكثين مدة انتظار قد تطول، لتكون هي الحاكمة في النجاح أو الإخفاق، فأني لا أتردد حين أقول أن خصب (المؤتمر) قد اعشوشب ونما وأزهر منذ أول يوم استلام حسن العلوي لإدارتها، كما أن من حق كل الذين ساهموا في إخراجها للناس، إن يعتزوا بأن تكون صحيفة (المؤتمر) قد حملت منذ ذلك اليوم الذي تعاونوا فيه على صدروها بحلتها (العلوية)، نسغ نجاحها ووقع قبولها الحسن لدى القراء، حتى وكأن الشرائح العراقية في المهجر، بدت وكان هذه الصحيفة، قد سدت لها فراغاً، أو هي قد وجدت فيها أو في بعضها ضالتها، وعلى وفق متوازن وعرض محكم، يستقي من نبع الإرث وأصالة المكامن.
وأعظم شيء حققته صحيفة المؤتمر، إنها استقطبت الصحفيين الحقيقيين، أمثال الأساتذة جليل العطية وهارون محمد واسامة مهدي وليث الحمداني وفلاح العماري وصادق الصائغ، في وقت انقلبت فيه معادلات المهنة، وأحتل الهواة الأعمدة الصحفية (الطويلة والقصيرة)، ونزل عليها السياسيون الفاشلون بالمظلات، وتكاثروا بأرنبية غريبة عجيبة، على حساب الصحفيين الحقيقيين، وصرنا نشاهد السفير والعسكري والطبيب والمحامي، يذيل كتاباته بـ(كاتب وصحافي)، وبتنا نعرف من أسم الكاتب ما هو مكتوب.
&
حديث في الحب
&
وليس هيناً علّي الحديث عن حبي لصحيفة (المؤتمر).. ففي الحب تتساوى عندي البدايات والنهايات.. فمع (المؤتمر) لا أستطيع أن أكون حيادياً، فكما لا حياد مع امرأة أحبها، فلا حياد مع صحيفة أصبح عشقي لها نوعاً من العزف المنفرد على أعصاب القلب.
و(المؤتمر) أحبها وتحبني..
أسكنها وتسكنني..
أستوطنها وتستطونني..
وسامحوني.. إذا كنت أحادي الحب، فأنا أؤمن أن تعدد الحبيبات مثل تعدد الزوجات.. مثل تعدد الانتماءات.. وأؤمن انه ليس هناك من حب قديم وحب جديد، وان الحبيبات ليست كلهن واحدة.. وجهاً، صدراً، قواماً، ردفاً، خصراً.
منذ قرابة عام ونيف، وأنا أسكن (المؤتمر)، وعندما يختار شاب في مطلع العشرينات من عمره، ليسكن مع حبيبته أو ليسكن إليها، فهذا يعني أنه أختار وطناً.. ويشاء قدري أنني و(المؤتمر) أقمنا منذ أول نظرة، أحلى مؤسسة حب بين قلبين، فأنا أسكن في أجفانها وتسكن (المؤتمر) في أجفاني.
وإذا كنت بدوياً في أصلي، وطبعي، وأخلاقي، وفي عشقي للـ(المؤتمر)، فان البدوي في داخلي، لم يولد أصلاً (دقة قديمة) وإنما ولد بدوياً يقص أظافره، ويقص شعره (على أخر مودة)، ويستعمل الشامبو، ويلثم يد حبيبته الجميلة، من دون أن يأكل منها إصبعين.
&
لمن أقرأ؟
&
في المؤتمر اقرأ لـ:
حسن العلوي، لثلاثة أسباب:
أولاً: أنه يصنع حريته والفكاك من قيود منصبه كرئيس للتحرير باجتهاده الخاص.
ثانياً: أنه يمزج الفقه الديني بالسياسة بريشة فنان تشكيلي.
وانه ثالثاً يتفلسف ويفسر الأشياء بنظام تحليل العبارات، وفي تلك جميعها برز كاتب من نوع خاص، يرغمك على متابعته، وان خالفته رؤية، أو خالفك في منهج الأيديولوجيا. وكالعادة، فلا خوف من أن تفوته الموضوعية أو يجانبه الصدق، لتكون كتاباته مصدرا مهما من مصادر الباحثين والدارسين، وتأكيداً على ألمعية الكاتب العراقي وتميزه، الذي لا يستطيع الزمن مهما قسا، ولا الليالي مهما ادلهمت أن تحجب إشراقه الدال في التدفق والابتكار والجدة، وهو الذي آمن -من خلال تجربته وخبرته- أن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين.& ويقابلك هارون محمد، الذي عرف دوماً، بتميز الأداء في الفعل الوطني، والوطنية الصادقة في الإبداع، والنجاح في مختلف مواقع المسئولية وملاحم الشرف والأباء، التي خاضها وما يزال.
كاتب يحمل عقلية أساسها الدافع الوطني، وحماسة إخلاص ووفاء عظيمين، وإمكانيات فعل مبدع، نهلها من مدرسة، هي النموذج في الوطنية والمعرفة والفكر والوفاء، مترجم كل ذلك بوعي جعل قلمه ضد انحرافات السلطة وتخبطاتها، وضد كل أولئك الذين هللوا لسقوط المشروع القومي العربي، فكانت كتاباته كاشفة للجميع.. أن جمرات المشروع القومي لا تزال متوقدة تحت ركام التخريب، وأنها ستشتعل من جديد لتحرق الجناة وترمي بهم نهائياً في مزبلة التأريخ. والمهم في الجريدة، جليل العطية، الذي يملك حاسة تمييزية، ويكتب عن طريق الرموز، رمز له ورمز يسخر به من الأدعياء، ورمز يهدف به بعيداً، وهو من القلة الذين اثبتوا وجودهم ومكانتهم، وفرضوا على الجميع احترامهم وتقديرهم. والدكتور اسامة مهدي، الكاتب المثابر والصحفي النشيط، يفرض حضوره عليك، كما فرضه على الساحة الصحفية المعارضة، منذ غزو الكويت وحتى اليوم. فقد لفت إليه الأنظار بنشاطه وأدبه، كاتباً ومحاوراً، وروحاً وطنية متدفقة، وتكاد تتيقن انه من القلة التي لا تعبأ بالراحة ولا تبالي بالتعب، لفرط ما ترى من حركته وحيويته ووجوده في كل مكان، متوقع أو غير متوقع، تؤطره نفس تواقة الى الخير، وخلق سام رفيع، لا تملك أمامه إلا أن تحب صاحبه.
وصادق الصائغ، الصحافي والفنان والناقد والشاعر، وخواطره الرائعة في الصفحة الأخيرة، ليدل بذلك على أن الجذور مهمة وان العطاء لا يضيع. وبلا شك فان المجال لا يسعنا الى الحديث عن كل من كتب في (المؤتمر)، وهو نخبة النخبة العراقية، فعذراً .. والى حديث آخر.
وإذا وجب علي من دين اقرّ به كقارئ، فهو في المرتبة المتقدمة، لكافل نسيجها، ومطرز لحمتها وسداها، الأستاذ الفاضل حسن العلوي، وكل من عاونه فيها، فكانوا مثال الحرص، والتفاني، والدأب، والسجايا العالية، ولولاهم لما كان للجريدة مسارها المتقدم، وعطاؤها الذي سيعاود ويتواصل، بأذن الله. صحيفة (المؤتمر) في وقفتها الاضطرارية.. تحية وإلى لقاء آخر.