تونس "إيلاف" من حكمت الحاج: كتاب د. فتحي بن سلامة الجديد الصادر بالفرنسية أيضا عنوانه الدقيق هو "التّحليل النّفسيّ على محك الإسلام" صدر في سبتمبر 2002 عن دار "أوبييه" بباريس. يقع في&334 صفحة.
ومن المؤمل صدور ترجمته العربية قريبا بقلم الناقدة والجامعية التونسية د. رجاء بن سلامة، التي حدثتنا مشكورة عن هذا الكتاب الهام الذي هي بصدد تقديمه للقراء العرب، قائلة ان هذا البحث يحاول أن يطرح على الإسلام مشروع فرويد المتمثّل في إيضاح المكبوتات المكوّنة للمؤسّسات الدّينيّة وفي ترجمة الميتافيزيقا التي تنبني عليها إلى ميتاسيكولوجيا. إنّه عبارة عن مقاربة تحليلنفسيّة لنصوص وأحداث أصبحت لها قيمة مرجعيّة بالنّسبة إلى هذه الدّيانة، كما أنّها على صلة بأصل الدّيانتين التّوحيديّتين الأخريين، المسيحية واليهودية.
يذكرنا د. فتحي بن سلامة في كتابه المذكور ان الدّين حاضر كلّ الحضور في مؤلّفات فرويد، ومع ذلك فإنّ تفكير فرويد في التّوحيد لم يشمل الإسلام. نعثر على ذكر للإسلام فحسب عند فرويد في "موسى والتوحيد"، وهو آخر كتبه. إلاّ أنّ الآراء التي قدّمها عن الإسلام في هذا الكتاب رافقها الإعلان عن ترك هذا الدّين خارج مجال الدّراسة. ورغم ذلك فإنّ نظريّة الدّين لدى فرويد تتجاوز دراسة الظّاهرة الدّينيّة المحض لتشمل الأسئلة المتعلّقة بأساس المجتمع البشريّ وبنشأة القانون والأزمة الدّائمة التي تشهدها الحضارة. ويتساءل المؤلف عمّا يحصل إذا أردنا، بعد حوالي قرن، أن ندخل إلى هذا الحقل الواسع من البحث في أبنية الإسلام الخياليّة حول الأصل وملابسات مؤسّسته الرّمزيّة؟ وما هي التّعديلات التي أدخلها الإسلام على الذّاكرة التّوحيديّة، والتي تمّ تفعيلها في أقواله ونصوصه التّأسيسيّة؟ وهل تبرز هذه التّعديلات مسألة أخرى تتعلّق بالأب والأصل، كانت ستظلّ لغزا إذا ما استنطقت على ضوء اليهوديّة والمسيحيّة فحسب؟
وتضيف د. رجاء قائلة انه ما كان لهذا النّوع من الابحاث أن يطرح نفسه لولا أنّ الإسلام الذي ظلّ طويلا بمعزل عن الأسئلة المعاصرة، حبيسا في معاقل الاستشراق، قد ظهر بغتة على السّاحة العالميّة الرّاهنة، ليفرض علينا التّحاور معه، تدفعنا إلى ذلك خطورة وضرورة لهما صلة وثيقة بانتقال الإسلام إلى الحداثة. لم يبتدئ هذا الانتقال الآن، بل إنّه بلغ مرحلة حرجة، أو دخل في صلب الموضوع : ففي المجتمعات الإسلاميّة ظهرت ذات مختلفة عن ذات التّقليد، مدفوعة إلى فعل تاريخيّ يتجاوز حقل الوعي. ظهور هذه الذّات، والتّمزّق والتّناقضات التي ولّدتها هو منطلق الاستاذ فتحي بن سلامة في هذا الكتاب الذي يمكن وصفه بأنه يصدر في قلب الرّاهن المتحيّر القلق، رغم أنّه يستكشف صرح الأصول في الإسلام. فالفصل الأوّل من هذه المحاولة مخصّص لأزمة الإسلام المعاصرة، ولمقاربة نشأتها ومظهرها الأكثر دلالة على الاعتلال (الحركات الإسلاميّة)، وقد قدّم المؤلف في كتابه تأويلا لهذه الأزمة مختلفا عن التّأويل السّائد في السّوسيولوجيا السّياسيّة.
فما يجري تحت مظلة الإسلام منذ خمسة عشر سنة يبيّن بالفعل، ومن خلال الكثير من العلامات، تلك القطيعة التي تعرّضت إليها الذات الماضوية أو ذات التّقليد، كما يسميها المؤلف، وما ينجرّ عنها مباشرة من "هيجان القوى المدمّرة للحضارة. يتعلّق الأمر، بحسب المؤلف، بمسار تحوّل تاريخيّ يتطلّب منّا التّفكير في عبور الإنسان من النّفس ذات الإله la psyché de Dieu
إلى النّفس-ذات اللاّشعور la psyché de l'inconscient "، وهذا ما يبرّر عنوان الكتاب: "التّحليل النّفسيّ على محك الإسلام". فمن خلال هذا العنوان،& أراد د. فتحي بن سلامة أن يسمّي محنة أو مهمّة تبنّاها منذ سنوات، وجسّمها في أبحاث عديدة تجتمع في هذا الكتاب لتكوّن نظرة شاملة. لا شكّ أنّ الفرضيّة المعاكسة: الإسلام على محك التّحليل النّفسيّ غير خاطئة، ولكنّ الباحث دخل مغامرة الإسلام من باب التّحليل النّفسيّ وباسم التّحليل النّفسيّ وحاول توضيح بعض القضايا المتّصلة براهنه وأصوله، ليصب الكلّ في المعرفة التّحليلنفسيّة الكونيّة الباحثة في العلاقات بين الأمورالنّفسيّة، والحضارة.
تشرح مترجمة الكتاب د. رجاء بن سلامة ما التبس من المعنى أعلاه قائلة ان التّفكير في العبور من& النّفس ذات الإله إلى النّفس ذات اللاّشعور لا يعني بأي حال من الأحوال تصفية القديم. هذا بينما يكتب المؤلف في مقدمته للكتاب المذكور انه "على أيّة حال أمر ليس بوسعنا أخذ قرار فيه، بل يتمثّل في إقامة علاقة بالقديم، تكون تأويليّة وتفترض إدراكنا للتّأويلات القديمة وللماقبليّات التي تتأسّس عليها. وإذا تعلّق الأمر بالأنظمة الرّمزيّة، وخاصّة الدّين، فإنّ التّحليل النّفسيّ يعتبر أنّ قوّة الماقبليّ الأساسيّ مرتبطة بمدى كبته والغفلة عنه. فما يقبع في اللاّشعور هو ما تنحني أمام سلطانه رقاب النّاس".
"ودون سابق إضمار أو تصميم"، ودائما مع د. فتحي بن سلامة، "قادني هذا البحث تدريجيّا وحتميّا إلى مصير المرأة والأنثويّ والأنوثة في مسارات الكبت التي يقوم عليها الصّرح الرّمزيّ والمؤسّسيّ للإسلام". ولذلك فإنّ القسم الأكبر من هذا الكتاب مخصّص لهذه المسألة التي طرحها المؤلف في الفصل الثّاني، وهو بعنوان : التّطليق الأصليّ"، والفصل الثّالث وعنوانه "مصائر المرأة الأخرى". فإذا تناولنا بالنّظر مسألة الأنثويّ في أصل الإسلام، كما يريد المؤلف، وإذا تتبّعنا حلقات تركيبيّته الخاصّة في لحظة معيّنة سمّاها بـ"علاج اللّيالي"، فوجئنا بانقلاب في الكفّة ووجدنا أنفسنا إزاء صياغة أولى تأسيسيّة لإشكاليّة النّرجسيّة الذّكوريّة ولمحاولة تجاوز مآزقها وعنفها، وهنا يكمن في رأي االباحث الرّهان المركزيّ لأبنية الثّقافة التّوحيديّة، وهو موضوع الفصل الرّابع الذي يحمل عنوان : "من هو إلى هو".
وطبيعيّ ألا تكون كلّ المظاهر التي تعرّض إليها المؤلف في هذا الكتاب خاصّة بالإسلام. إنّ أوجه التّقاطع بين الثّقافة الأوروبّيّة وثقافة الإسلام كثيرة جدّا، شريطة أن نفهم التّقاطع بمعناه الثّنائيّ : أي أنّه التقاء وانقطاع في آن. إنّنا إذا قصرنا اهتمامنا على الخصوصيّات وقعنا في الماهويّة الاختلافيّة، كما أنّنا إذا لم نمتحن الكونيّ بتعريضه إلى الوقائع المحسوسة وإلى أصداء الغيريّة، بقينا في دائرة المقرّرات المتّسمة بكونيّة مغرقة في التّجريد، كما يبسط المؤلف وجهة نظره في الموضوع.
ان امتحان التحليل النفسي بالاسلام قد يعود بالنّفع على التّحليل النّفسيّ، كما يشدد المؤلف في مقدمته، بما أنّ هذه المعرفة التي بدأ انتشارها وتناقلها في العالم الإسلامي يتجسّد على الصّعيد الفرديّ أو على صعيد مجموعات صغيرة أو حتّى من خلال تكوين مؤسّسات مخصوصة (توجد اليوم جمعيّتان للتّحليل النّفسيّ : لبنانيّة تأسّست سنة 1980 ومغربيّة تأسّست 2001.) ستعترضها أسئلة وقضايا جديدة، فتناقل هذه المعرفة& يسير في اتّجاه مناطق أخرى مختلفة عن موطنه التّاريخيّ والآنتروبولوجيّ الأوروبّي ومختلفة عن امتداداته الأمريكيّة.
ومن شأن هذا المحك أيضا أن يعود بالنّفع على نساء العالم الإسلاميّ ورجاله الذين يواجهون تحوّلا في الذّاتيّة النّقديّة، والذين قد يجدون في المعرفة والتّجربة التّحليليّتين إمكانيّة وبارقة أمل : إنّها معرفة ضروريّة لمصاحبة ومواكبة صيرورة طويلة عسيرة هي صيرورة تكوّن الذّات الحديثة& وما يرتبط به من عمل& ثقافيّ تراكميّ.
ولهذه الغاية المزدوجة التي يصبو إلى تحقيقها مفكر ومحلل نفسي من نوع د. فتحي بن سلامة، مستند أساسيّ هو اعتقاده الرّاسخ بأنّ التّرجمة الميتاسيكولوجيّة التي يعتبرها فرويد إحدى مهامّ التّحليل النّفسيّ ليست مجرّد تطبيق للنّظريّة. بل هي حسب فرويد عمليّة تفكيك جذريّ، وهو يستعمل في هذا الصّدد كلمتي: Aufl?sen" : الحلّ، فكّ العقدة، نقض التّصوّرات الأسطوريّة عن العالم و"Umtezen": ترجمتها، نقلها، تحويلها. والغاية من هذه العمليّات المنطلقة من هندسة الصّروح الميثيّة-اللاّهوتيّة-المنطقيّة هي تبيّن الموادّ التي تمّ بها صنع أسسها اللاّمرئيّة، والوقوف في كلّ تركيبة من التّركيبات على نواة المستحيل التي لفّ حولها غشاء خياليّ مصنوع عبر اللّغة، هو إسقاط للنّفس على العالم الخارجيّ.
ويختتم المؤلف د. فتحي بن سلامة مقدمته لكتابه الجديد "الاسلام على محك التحليل النفسي" قائلا انه إذا استطاع هذا البحث أن يساهم بقسطه في هذه الغايات والمشاغل المتضافرة، وفي أداء مهمّتها وبلورة أفق تقبّلها، فإنّه يكون قد حقّق بعضا من مراميه.
&
&
د. فتحي بن سلامة كاتب ومحلّل نفسانيّ يدرّس مادة التّحليل النّفسيّ والأمراض النّفسيّة في جامعة باريس 7، وهو كذلك رئيس تحرير مجلّة "أنترسينيه" التي تأسّست سنة 1990. صدر له بالفرنسيّة: "فلق الصّبح" ، منشورات رامساي 1988، "تخييل الأصول" 1994، عن أدب سلمان رشدي، وقد ترجم& إلى العربية وصدر عن دار الجنوب بتونس. وله دراسات كثيرة عن العلاج النّفسيّ وعن الإسلام والغرب.