الدكتور توفيق آلتونجي
&
كل مكان في هذه الدولة المتمركزة في قلب القارة الاوربية يبعث بالنفس الشجون والذكريات وتاخذ بالالباب الى سياحة عبر التاريخ فها هنا كل الماضي حاضرا نشاهده بكل تفاصيله وروعته كالاحتفاء بيوم تتويج ملوكها وقياصرتها في كنيسة القديس اصطيفان في قلب العاصمة النمساوية فينا .. ها هنا جلس نابليون بونابارت الى الامبراطورة ماريا تيريسيا ودار بينهم حديث حول الحرب والسلام واوربا تحت تخت النصر على الرابية المقابلة لقصرها الملكي الفخم "شون برون"
قصر شون برون العامر
هنا تعالى صريخ كبير النازيين من على&شرفة قصر الملك المطل على اجمل ساحات العاصمة في حين كانت& يتعالى صوت الرعاع وتصعد عنان السماء حين اجتاح ذلك العريف القصير القامة الجمهورية النمساوية الاولى وطنه الاصلي وظمها الى امبراطوريته النازية الالمانية قبل اكثر من نصف قرن حيث جائها من الشمال مدججا بالسلاح ليغتصب اجمل عواصم الدنيا "فينا" .. وقبله كان الاتراك اللذين لا تزال تجد اثار القوات العثمانية التي اجتاحت اوربا في اطراف فينا حيث رفع نصبا على المكان الذي وطئها جحافل الجيوش العثمانية وخيم وعسكر فيه و حيث خسروا الحرب فولوا هاربين امام التنظيم الجيد للجيش النمساوي العصري وبدلاتهم الحمراء وكانت بذلك فاتحة تغيرات واصلاحات في الامبراطورية العثمانية حتى يوم انهيارها اعقاب الحرب العالمية الاولى ولا تجد اليوم من اثارهم الا اسم القهوة التركية التي كانت ربما تقدم لظباطهم في مقاهي فينا.
&
ولعل من المفيد الاشارة هنا الى ان متحف مدينة "كراتتس" عاصمة مقاطعة " شتايرمارك" الحدودية تحوي في احد متاحفها عدة وتجهيزات وسلاح وملابس جيش كامل من تلك الفترة التاريخية الحقبات المتاخرة. الحركة الاشتراكية النمساوية نشطت مع وضع الحرب العالمية الثانية اوزارها وتلك ما تسمى الجمهورية الثانية في تاريخ النمسا المعاصر وكان السياسي اللامع "برونو كرايسكي" رئيس وزراء النمسا و لعدة عقود. هذا العصامي الذي عانى ما عانى واهله من اظطهاد بيد الشرطة السرية النازية "الجستابو" السيئ الصيت.
يعتبر مع اقرانه "ولي برانت", "هلمت شميت", "اولف بالمة ,&"ميتران" واخرون رواد الحركة الاشتراكية العالمية وقد سادت وطغت افكار الحركة الساحة السياسية الاوربية ابان الحرب الباردة وكنتيجة لتصارع قطبي القوتين العظمتين ومع زوال وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق وجدت الاشتراكية الاوربية نفسها امام خلاء الساحة السياسية من العدو التقليدي اللدود "الشيوعية"& وحيدة فالتضاد السياسي الاساسي غاب ورحل وبقى& فراغ كبير هنا حاول القوميون ملئ ذلك الفراغ فبات بين صبح وضحاها الاحزاب القومية الصغيرة والتي لم تكن لها اي تاثير على الشارع السياسي يظهر الى الواجهة و في كافة الدول الاوربية تقريبا. وقد كنت قبل اكثر من اثنان وعشرون عاما اواصل دراستي الجامعية مع اخرين من امثالي من الطلاب فكنا نلتقي دوما بمجاميع من الشباب الجامعيين اللذين كانوا يحلوا لهم ارتداء الملابس الشعبية القروية النمساوية في مطعم الطلبة الملحق بالجامعة "مينزا" وكنا نناقشهم افكارهم وكانوا بمجرد ان يستعلموا عن اصولونا الشرقية يتجنبون الجلوس الينا. اما اذا اكتشفوا بان احدهم من اصول" ارية "حسب ادعائهم رافقوه وصاحبوه.
مدينة كراتس عاصمة مقاطعة اشتايرمارك وبرج الساعة الشهير
الذي فداه مواطني المدينة بالذهب كي لا يهدمه الغازي نابليون بونابارت
&
الجدير بالذكر ان نسبتهم القليلة واعني القوميين من حزب الحرية(على ما اتذكر 2 %) لم تكن تؤولهم الا الحصول على عدد يسير من المقاعد البرلمانية انذاك.&كان النمساويون بصورة عامة يخجلون من وجود ذلك الشاب المتهور "يورك هايدر" في مجتمعهم بل كانوا يستهزئون منه ومن افكاره. قد نرى نفس هذا المنحنى في دول اوربية اخرى كفرنسا وهولندا وبلجيكا وايطاليا وبريطانيا وتركيا والدول الاسكندنافية ودول اخرى. ان الحركة القومية بدات تتصاعد وبدا التطرف يسود الشارع السياسي الاوربي. بات القوتين السياسيتين الكبيرتين اللتين كانتا مسيطرتين على زمام الامور ويتبادلون السلطة فيما بينهم بعد كل انتخاب واعني بهما الاشتراكييون وتجمع الاحزاب البرجوازية وكانهم " مكانك سر" يتارجحان في مكانهما انتظار لما يجلبه القدر ولعل ها هنا تجب الاشارة الى ان الاحداث المؤلمة في الحادي عشر من سبتمر من العام الماضي بسطت بظلالة قاتمة على العالم اجمع ولم تكن اوربا استثنائا. بدا الناس بالعودة الى التفكير العقلاني والعودة الى الجذور الحقيقية للحظارة الاوربية المتمثلة بالافكار الانسانية والديمقراطية والشفافية والاعتدال ونبذ التطرف وبدات& شوكة التطرف السياسي بالانحسار شيئا فشيئا وقد شاهدنا ذلك جليا في العديد من الدول كفرنسا والسويد والمانيا وحتى في تركيا حين لم تتمكن حزب الحركة القومية المتطرفة من نيل حتى مقعد واحد في الاتنخابات التي اجريت في الشهر الماضي.
&
قارئي الكريم النمسا دولة متعددة الاعراق هنا تجد مواطني كافة الدنيا بالاظافة الى المستوطنين الاصليين من الالمان والمجريين والسلاف والايطاليين والسويسرين والثقافة النمساوية اختلاط عجيب لتلك الامم والشعوب التي عاشت ها هنا وعبر التاريخ. بقت النمسا محافظة على سياسة الحياد في السياسة الدولية ما بعد الحرب العالمية الثانية فساد الاستقرار البلاد وانتعش الاقتصاد ولعلك اليوم وانت تتمشى على طول الشارع الذي يتوسطه احد اكبر الاسواق المفتوحة " ناش مارك" تلاقي ابناء شعوب العالم وثقافاتها متجمعة.
الجدير بالذكر ان فينا التي غنتها المطربة الراحلة اسمهان في اعذب لحن شرقي يصف الشاعر لياليها واصفا اياها بليالي الانس لم تكن يوما&تكن اي كره& للاجانب والظيوف, بقت المدينة طوال تاريخها تفتح احظانها للتستقبل الجميع. قدم الكثيرين من التجار الشرقيين اليها ليجربوا نصيبهم وحظهم وباتوا من المرفهين الاغنياء او ظلوا الطريق الى كازينو "بادن" فقامروا بما لديهم وافلسوا. كانت ولا يزال مصايف البلاد الخلابة بجمال الطبيعة والغابات ولا تزال قبلة للسياح صيفا وشتاء وللعديد من رؤساء دول العالم والشخصيات السياسية والاجتماعية فباتوا يصطافون فيها ويبنون فيها قصور احلامهم. كان لتجار السجاد من الايرانيين وخاصة المستوطنين منهم منذ ايام شاه ايران الراحل , العديد من المحلات التجارية وسط العاصمة فينا ومدنها الكبيرة كالتاجر الكبير "ريحاني".
بقت النمسا الى السنوات الاخيرة قبلة الفنانيين والموسيقيين ومحبي الثقافة والفن وقد ترى في كل زاوية من المدينة لوحة فنية تاريخية وتجد في القصور المنتشرة في المدينة والمدن الكبيرة اماكن زيارة ومتعة كبيرة ولا تزال العديد من مقتنيات تلك القصور على ماكانت عليها ايام عزها ولو توجهت صوب الحدود الشمالية قاصدا مدينة الموسيقى "سالسبورك" لوجدت في قلعتها ما يذكرك بكافة الافلام التاريخية عن العصور الوسطى وقصورها , ها هنا نرى البرج الذي شيد كي يكون مكان يسجن فيه العاقون. في حدائق المدينة ستذهب في سياحة مع الزمن في مجموعة من التماثيل النادرة وقد تدخل الكاتدرائية الكبيرة لتسمع المزامير وانشاد العذارى في حين تجد وسط سوقها بيت الموسيقار النمساوي الكبير" موزارت" فهذه المدينة عريقة في ثقافتها الموسيقية واجراء الحفلات السمفونية وبرامج احتفالاتها السنوية . النمسا وطن الموسيقى وطن بتهوفن وهايدن وباخ وشتراوس ومئات اخرون.
الموسيقار ولفكانك اماديوس موزارت
&
الغريب انك تلتقي بوجوه من كافة انحاء الدنيا فتبقى متسمرا في مكانك وانت تسمع دعاوي العنصرية التي يطلقها القومين اليوم بقيادة ذاك الشاب المتهور "هايدار" الذي لم يكبر منذ ذلك اليوم وهو من مواليد مدينة حدودية مع المجر. الجدير بالذكر ان العديد من الابنية التاريخية في فينا قد دمرت ابان الحرب واعيد بنائها وكنيسة القديس اصطيفان التي ذكرتها في بداية المقال قد هدمت سقفها اثر سقوط احد القنابل عليها واعيدت ترميمها وهي قطعة اثرية نادرة في شكلها المعماري ومحتوياتها من ايقونات وتماثيل.
كنيسة القديس اصطيفان في مركز المدينة حيث توج الاباطرة
&
اليوم تقف بناية البرلمان بهيئتها المعمارية التي توحي الى البناء الروماني القديم وسلالمها المزدوجة الملتوية التي تؤدي الى بوابة البناية يتوسطها شذروان وتماثيل بديعة الجمال وليس بعيد من هذ المكان وعلى الجهة المقابلة وانت تقطع احد اقدم الجنائن في اوربا تجد قصرا يطل على ساحة كبيرة ومن شرفتها خطب "هتلر"& قبل اكثر من نصف قرن.
بناية البرلمان النمساوي
&
الجهة الاخرى من نهر الدانوب الخالد الذي يشطر المدينة الى شطرين تجد مكان للطمئنينة والسلام ها هنا بنايات العديد من مكاتب منظمات هيئة الامم المتحدة وبرج فينا الشهير ومطعمها الذي يدور فترى المدينة من كل النواحي ويظهر الجامع الاسلامي القريب امام ناظرك لتسمع صوت المؤذن في دولة فتحت قلبها للجميع وسيغيب عنها غمامة العنصرية الرمادية والى الابد وتتفتت بين اصوات اجراس الكنائس وصوت المؤذن احلام الحاقدين.
&
جامع فينا الكبير على ضفاف نهر دانوب
بالقرب من مجمع بنايات هيئة الامم المتحدة