القاهرة ـ إيلاف: قال د. مصطفي عثمان اسماعيل وزير الخارجية السوداني ان هنالك تطورات ايجابية في العلاقة بين السودان والولايات المتحدة، لكنه اعتبر في ذات الوقت ان الطريق مازال طويلاً وشاقاً مشيراً الى ان هنالك العديد من عوامل الواقع والتاريخ منذ الحرب الباردة وتداعياتها التي اثرت على الاوضاع السياسية في المنطقة بأسرها وضمنها السودان مروراً بمختلف التطورات التي حدثت داخليا وخارجيا خلال عقد التسعينات قد اسهمت في تشكيل ملامح ومسارات العلاقات السودانية الاميركية.
وتناول الوزير السوداني في محاضرة ألقاها في الخرطوم بالتحليل طبيعة نظرة مراكز صنع القرار في واشنطن ـ التي وصفها بانها تتشكل من عدة آليات تتكامل فيما بينها الوظائف ـ تجاه الاحداث والقضايا كافة في السودان على مر الحقب والعهود السياسية التي عاشها. واجرى عثمان العديد من المقارنات بين الاسلوب الذي تعاملت به الادارات الاميركية المتعاقبة مع انظمة الحكم العديدة التي مرت على السودان.
وقال عثمان ان واشنطون لم تتعامل بهذا القدر من الحساسية الذي تطبعه روح العداء الذي تعاملت به مع حكم الانقاذ منذ ايامه الاولى، خلال تجربتي حكم الرئيسين الاسبقين إبراهيم عبود وجعفر نميري، رغم ان التجارب الثلاث قد اتسمت بسمة موحدة تتمثل في وصول مجموعة من ضباط الجيش السوداني الى السلطة، بغض النظر عن طبيعة التوجهات او الملامح الايديولوجية التي طبعت بلونها كل تجربة من هذه التجارب الثلاث.
مرحلة الانقاذ

واعتبر مصطفى عثمان ان مرحلة الانقاذ تزامنت مع انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية عام 1989 مما جعل نظامها يفتقد ذلك النوع من الحماية الضمنية الذي كانت توفره حقبة الحرب الباردة لكثير من الانظمة فتتحاشى في ظل تلك الاوضاع السابقة الدخول في اي نوع من المواجهات الحادة مع اي من القطبين العالميين. وانتقل عثمان في التحليل الذي قدمه بخصوص حلقات ازدهار او تدهور تلك العلاقات ليقوم بكشف العديد من خفايا المواجهة الطويلة بين حكم الانقاذ والادارات الاميركية المتعاقبة
واكد وزير الخارجية السوداني ان مختلف المؤشرات تقول بان استراتيجية الادارة الجمهورية الحالية تعطي اولوية قصوى لتحقيق السلام في السودان.
وذكر عثمان ان توافق مصلحة أميرك مع مصلحتي الحكومة والجنوبيين ـ كل على حدة ـ واتفاق الجميع على ضرورة واولوية احلال السلام في السودان تمثل قوة ايجابية دافعة تضاعف من احتمالات التوصل الى صيغة سلام عادل وشامل تقبل به كل الاطراف. وكما كشف عن تسبب الادارة الديمقراطية السابقة في أميرك في اعاقة كافة الجهود التي بذلك عبر جولات عديدة للمفاوضات التي جمعت بين الحكومة والحركة من اجل تحقيق السلام.
واشنطن والخرطوم

ورصد عثمان في محاضرته النقاط الجوهرية بالغة الاهمية المرتبطة بموضوع العلاقات السودانية الأميركية. وقد اعطى عثمان اشارة اولية بان تحليله لواقع هذه العلاقة الثنائية في كافة مراحلها ازدهاراً او توتراً، وانفراجاً او تأزماً، ينبني على دراسة المراحل المختلفة للعلاقة بين السودان وأميرك على مدى عقد كامل من الزمان (التسعينات) وهو ما يشكل معالم اساسية لماضي وحاضر هذه العلاقة ليضيف الي ذلك الشق المتعلق بالرؤية المستقبلية ويحددها هنا - زمنياً - بفترة (10) سنوات التي تمثل العقد الاول من القرن الجديد.
ويقول في هذا الجانب ان تصوراته للعلاقة ومداها الزمني المقبل تنبني على افتراضين وهما استمرار الانقاذ في السلطة حتى عام 2010، وهو ما يحسب بناء على ترتيبات الفترة الانتقالية في حال التوصل لاتفاق سلام نهائي، وتجديد انتخاب الادارة الجمهورية في الولايات المتحدة الأميركية بعد عامين من الآن لدورة عمرها "4" سنوات، ويربط ذلك بظهور اشارة اساسية هي فوز الجمهوريين بالاغلبية الساحقة في غرفتي الكونغرس الأميركي (مجلسي النواب والشيوخ).
وفي الاطار العام لحديثه اشار عثمان الى انه سيهتم - في محاضرته عن العلاقات السودانية الأميركية - برصد نقاط التباين او التلاقي واستكشاف مسارات العلاقة نحو احدى النهايتين "تفاهم او انفجار".
وشدد عثمان على ان العلاقات الثنائية بين البلدين تحتاج لمرونة وصبر قائلا انه في مواجهة تحدياتها الراهنة لابد من التفكير بجرأة في معالجات تستجيب لشتى المتغيرات الحالية التي تعيشها هذه العلاقات.
وأكد على اهمية الرصد والتحليل لتسع نقاط رأي الوزير انها تشكل محاور اساسية في سبيل تلمس مختلف الحقائق حول العلاقات السودانية الأميركية واجملها في ما يلي:
- وسيلة التغيير العسكري كأداة استخدمتها الحركة الاسلامية السودانية (اضطراراً على حد تعبيره) للوصول الى السلطة في 30 يونيو 1989.
ـ الارهاب
ـ حرب الجنوب
ـ الموقف السوداني من القضايا الاقليمية
ـ الاقتصاد
ـ الديمقراطية
ـ حقوق الانسان
ـ العلاقات بين السودان ودول الجوار
ـ الهوية والتوجه الحضاري
مسار العلاقات
ومن بين المعطيات التي استفاض فيها عثمان هو بحث العلاقة بين انتهاء الحرب الباردة وارتفاع معدل التوتر في العلاقات بين البلدين علي خلفية التعارض بين مصالح الطرفين خاصة مع محاولة (سودان الانقاذ) للعب دور أكثر استقلالية عن محور التبعية للسياسات والمواقف الأميركية ازاء مختلف القضايا الاقليمية والدولية.
وتحدث وزير الخارجية السوداني عما وصفه بـ" التعامل الهادئ مع عبود ونميري" رغم المرجعية العسكرية التي اتت بهما الى السلطة قائلا ان واشنطون قد عمدت مبكراً (1990) الى تنشيط احد قرارات الكونغرس المناهضة للانقلابات العسكرية لتبدأ منذ ذلك الحين مسلسل العداء للسودان وتوجهاته، ومن ثم تصعيد حالة التوتر بين الطرفين الى درجة لم يسبق لها مثيل طوال فترة انشاء الطرفين للعلاقة الدبلوماسية القديمة نسبيا بينهما.

الفلاشا

ورصد عثمان في محاضرته كيف تطورت العلاقات الثنائية عقب اتفاقية اديس ابابا الشهيرة (1972) التي افلحت في انهاء حرب الجنوب خلال عهد الرئيس الاسبق نميري، قبل ان يشتعل التمرد الحالي الذي قاده قرنق في النصف الاول من الثمانينات.
وفي هذا الاطار تحدث د. مصطفى عثمان عن ان قضية ترحيل اليهود الفلاشا "ما كانت لتتم لولا التعاون والتنسيق والتحالف الوثيق بين السودان وأميرك" خلال ذلك العهد.
وتطرق عثمان في هذه المحاضرة ايضاً الى العلاقة بين واشنطون والخرطوم خلال العهود الحزبية المختلفة معتبرا ان التحول الديمقراطي خلال العهد الليبرالي الاخير (1985 - 1989) قد حال دون تأزم العلاقات بين الطرفين رغم انها كانت تمر بمرحلة من الفتور الى ان أتت الانقاذ.
وقال ان أميرك جربت استخدام عدة ملفات مثل قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها من اجل عزل النظام واكمال حصاره اقليمياً ثم الانتقال الى المستوى الدولي باصدار عدة عقوبات عليه وفرض حصار اقتصادي عليه ايضاً.
وسرد وزيرالخارجية السوداني واقعة معينة تتعلق بزيارة كان مساعد وزير الخارجية الأميركي للشئون الافريقية الاسبق هيرمان كوهين قد قام بها الى السودان اثناء استعداد واشنطون لشن الحرب ضد العراق خلال ازمة الخليج الثانية (1990 - 1991). وقال ان كوهين حاول إقناع الحكومة السودانية بتغيير موقفها خلال تلك الازمة وذكر ان كوهين وصف ما تريده أميرك من دول المنطقة بالقول "إننا لانريد طوبة خارجة عن الجدار" فاما ان تعود الي موضعها مع اللبنات الاخرى أو ان تضربها أميرك، وذلك ما يعتبر تلويحاً باستخدام "سياسة العصا ـ الغليظة"، في اشارة الي رفض أميرك ـ آنذاك ـ لاية محاولة في الاستقلال بالموقف آزاء القضايا الاقليمية او الدولية تخرج عن نطاق ما تخطط له وتريده أميرك.
واشار عثمان الى الرد الذي قدمه الرئيس البشير، خلال سنوات تأزم العلاقة مع أميرك في مطلع التسعينات، حيث قال السفير الأميركي ـ في ذلك الوقت ـ الذي هدد بأن بلاده "ستدمر الاقتصاد وتعزل النظام سياسيا وتحاربه" قال له: جربوا ذلك وستجدوا ان تجربة فيتنام ستكون ارحم بالنسبة لكم من تجربتكم مع السودان.
الى ذلك كشف عثمان ان سوزان رايس مساعدة وزير الخارجية الأميركي السابقة قد ذكرت له ان استراتيجية أميرك كانت تقوم علي عدم السماح بتوصل الحكومة وحركة التمرد الى سلام وقال إنها شرحت ان بلادها كانت ترى ان ذلك من شأنه ان يقوى النظام السوداني في ذلك الوقت.
واوضح عثمان ان السودان قد شهد تغييرا جوهرياً في سياساته الداخلية والخارجية منذ عام 1998م حتى الآن، مشيراً الى ان التعاون الامني بين السودان وأميرك في ملف الارهاب الذي حدث خصوصاً خلال الفترة التالية لاحداث سبتمبر 2001م في واشنطون ونيويورك كان امراً طبيعياً بناء على ما اختطه السودان بعد عام 1998م من سياسة جديدة تجاه كافة القضايا السياسية الداخلية والخارجية ومن بينها قضية الارهاب.
قانون سلام السودان

والي ذلك تحدث عثمان عن قانون سلام السودان وما احاط به من تداعيات قائلاً: ان القانون صدر في اجواء الانتخابات التكميلية للكونغرس وتجديد حكام الولايات في أميرك وتزامن ايضا مع مرحلة اتخاذ واشنطن لقرارها بشأن العراق على خلفية اتهامها له بإمتلاك اسلحة الدمار الشامل موضحاً ان تلك الظروف في مجملها تشكل المناخ الذي صدر فيه قانون (سلام السودان).
وقال الوزير السوداني إن من بين المفاهيم التي يعد من الضروري الاسترشاد بها لفهم طبيعة التحولات التي مرت بها العلاقات السودانية الأميركية خلال السنوات الاخيرة مسألة تأكيد ضرورة التعامل بعقلانية وواقعية وحرص واستمرارية من الطرف السوداني مع الولايات المتحدة معتبراً ان الأمر الذي يحتم ذلك يتمثل في كونها "علاقة مع دولة اعظم". وشدد على ان العلاقات مع أميرك تحتاج الي جهد اكثر مما نبذله مع الآخرين مضيفاً "اننا نحتاج الى الصبر على انفعالات الطرف الآخر لأنه اقوى سياسيا واقتصاديا وعسكرياً" وتابع: ان ذلك الطرف هو القادر علي الاذى والذي ليس بحاجة إلىَّ، بقدر ما انني احتاج لتحييده او استقطابه.
واضاف ان هذه العلاقات تحتاج الي درجة من المرونة تتيح لنا قدراً من امكانية التقديم والتأخير في عدد من قضايانا ومواقعنا، حرصاً على ان تتهيأ لنا في وقت ما الظروف الملائمة للتحرك في هذه الملفات والقضايا.
وقال إن المستقبل لاينتظر تكرارا لما يحدث في الامس "لان تحديات اليوم تختلف عن تحديات الغد" وانه لابد من التفكير بجرأة ناظرين الى شتى المتغيرات التي تحدث من حولنا.

الاهتمام الأميركي بالسودان بدأ مبكراً

وقال عثمان إن الاهتمام الأميركي بالسودان بدأ مبكراً، قبل وصول الانقاذ الى السلطة، مشيراً الى ان ذلك قد حدث في اطار التنافس الدولى الذي طبع الحرب الباردة وبحث المعسكرين الشرقي والغربي عن مناطق نفوذ في مناطق كانت معقلا للنفوذ البريطاني او الفرنسي. وتطرق الى مسألة نشوء حلف بغداد ـ في وقت باكر ـ قائلاً إنه قد جاء كرد فعل تجاه محاولات التغلغل الاشتراكي في المنطقة في ذلك الوقت وقال إن المرحلة تلك طبعت ايضا بسطوع نجم الناصرية على الساحة العربية بالخصوص. واضاف ان الاهتمام الأميركي بالسودان ليس مرده فقط الى قضية البحث عن مناطق نفوذ وانما لمعرفة أميرك بالموقع الاستراتيجي للسودان ومايزخر به من موارد وما يمتلكه من ثروات.

استخدام الحرب لإضعاف النظام

وقال د. مصطفى عثمان إن حرب الخليج الثانية (1991) قد قادت الي مجابهة فرضت من أميرك على النظام في السودان واشار الى أن تلك المجابهة استمرت طيلة فترة الادارة الديمقراطية (عهد الرئيس السابق بيل كلينتون) في الولايات المتحدة الأميركية التي صاغت استراتيجيتها تجاه السودان بناء علي استخدام الحرب لاضعاف النظام.
وذكر ان المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس المصري حسني مبارك قد شكلت سانحة لأميرك لتنتقل بالملف السوداني الى المستوى الدولى بعد ان اكملت حصارها الاقليمي عليه واشار الى انه في ذلك الوقت اصدر مجلس الامن اصدر حينئذ عدة قرارات تهدف الى فرض الحصار على السودان وهي القرارات "1044" و"1054" و(1077".
وقال إنه في فترة الرئىس الاسبق "بوش الاب" فقد ظلت علاقات الخرطوم بواشنطون متذبذبة بين التراجع ثم التقدم. واشار الى ان ما اصدره كلينتون لاحقاً (عام 1997)م قد قضى علي كل المساعدات الاقتصادية الأميركية للسودان. واوضح انه في عهد بوش قدمت ادارته (الجمهورية) مبادرات لايقاف الحرب واستطرد قائلاً: إما الديمقراطيون فإنهم لم يطرحوا مطلقا مبادرة للسلام في السودان، وذكر ان هنالك جهوداً مقدرة اسهم بها الرئيس الاسبق جيمي كارتر في محاولة احلال السلام في السودان وتابع ان تلك الجهود معروفة ورغم انه ديمقراطي الا انه ظل يقود تلك الجهود وكان على اتصال مع الادارة الجمهورية.
واشار الى انه قد طرحت مبادرة خلال فترة كوهين ورفضتها الحكومة السودانية وتضمنت اقتراحاً بوقف لاطلاق النار والسماح بامدادات الاغاثة للمتضررين من خلال عملية "شريان الحياة" وبدء مباحثات بين الحكومة وحركة التمرد.
واوضح ان واشنطون سحبت في فترة من فترات تأزم العلاقات وتوترها ـ مرحلة حرب الخليج الثانية ـ سفيرها في الخرطوم وقال إن طاقم دبلوماسيي السفارة عاد الى البلاد بعد الحرب وابدت واشنطون رغبة في فتح صفحة جديدة مع السودان مع الوعد بتقديم معونة غذائية كبيرة له. واضاف "لكن عدم تجاوب السودان معها جعل أميرك لا تفي بذلك".
واختتم قائلا إن واشنطون اثر ذلك نبهت الخرطوم الى وجود مجموعات ارهابية تقيم بالسودان وطلبت مغادرتها الا ان الحكومة السودانية لم تستجب لذلك الطلب بابعادهم عن البلاد.