علي سعد الموسى
&
مساء الثلاثاء الماضي لبيت دعوة صديق لزيارته في مقر الشركة السعودية للأبحاث والتسويق في مدينة جدة, ذلك المبنى الذي تخرج منه في الغسق الأخير من الليل سبع صحف يومية تملأ الدنيا وتشغل الناس وبعضها يتصدر قائمة الصحافة العربية خبراً وتحليلاً ونخبوية. يدهشك الحال وأنت تدخل إلى التفاصيل حيث إن طابقاً واحداً من المقر الصغير نفسه, لا يزيد في المساحة عن منزل متوسط يخرج إلى النور أربع صحف متخصصة بأربع لغات ويعمل زميلي في إحدى هذه الصحف في مساحة أجزم إنها أقل بكثير من مساحة الشقة المستأجرة التي أكتب إليكم منها الآن. تقودك المساحة إلى السؤال البدهي: ما الذي يحتاجه الإعلام كي ينجح؟ وما هي الأدوات والآليات المطلوبة فعلاً لا مظهراً لتقديم مادة إعلامية متميزة؟
لَعلني أبدأ بنقد واقع صحيفتي حتى لا أثير حفيظة الغير. قبل أكثر من ثلاث سنوات كان الإخوة في القيادات الإدارية والتحريرية هنا يسابقون الزمن للانتقال إلى "المقر الرسمي" للصحيفة الذي كان على وشك الانتهاء والتدشين. كان الزمن المحدد للصدور يقترب وكان الهاجس أن لا تتطابق الأهداف فيما بين يوم الإصدار واكتمال المبنى. كان رئيس التحرير السابق مصراً على الصدور في الموعد المحدد اكتمل المبنى أو لم يكتمل وكان يكررها كثيراً في كل اجتماع مؤكداً: سنصدر من هنا, من المبنى الموقت القديم إن لم نتمكن من "المقر الجديد" في الوقت المناسب. كان الجميع يرد عليه بالابتسامة ولم يأخذوا قوله على محمل الجد وكانوا يتطلعون إلى الجدران والغرف من حولهم يقيسون مساحتها ويبنون عليها: إن سعادة الرئيس لا يقصد سوى شحذ الهم على الرغم من أن مساحة المبنى القديم أكبر حجماً من ذلك الطابق المدهش الذي تصدر منه أربع صحف يومية, ذلك الذي وقفت عليه مساء الثلاثاء ذلك الذي أجزم أنه الطابق الإعلامي الوحيد على كل الكرة الأرضية الذي يقوم بهذه المهمة الاستثنائية. الذي أعرفه جيداً بعد التجربة القصيرة الثرية أن رئيس التحرير كان واثقا منً أن ثلاث غرف متجاورة كافية لوحدها للقيام بمهمة المبنى العملاق. الميادين الواسعة تصلح للرياضة وسباق السيارات ولنا مئات التجارب في الانتقال من مبنى لآخر حتى باتت "البحبحة" ماركة سعودية مسجلة على الرغم من أننا لم نلحظ مطلقاً تلازماً بين سعة المباني ونوعية الإنتاج. ها هي وزاراتنا ومبانينا الحكومية تنتقل إلى مرحلة الزجاج ورقائق الكمبيوتر وتنقل معها العقليات الإدارية نفسها صناديق الأوراق من الأرشيف القديم وبالطبع بيروقراطية العمل نفسها التي تزداد كلما ازدادت المساحات الفارغة أمام أعين الموظف أو شعر "بالبرود" تحت وطأة مكيفات الألفية الثالثة. سأنتقل للغير, مقدما أعذاري على قسوة النقد. أكتب اليوم بعد أن درست كقارئ "متفحص" خطوة الزميلة العزيزة "عكاظ" التطويرية لأكثر من شهر. للمرة الأولى, خارج إطار مطبوعات الشركة السعودية للتسويق أجد نفسي مرغماً على الاشتراك في صحيفة "محلية" إذا ما اعتبرت صحيفتي تصلني بالمجان كل مساء بعد دورة المطبعة. أجبرتني عكاظ على أن أكون قارئاً يومياً وأنا الذي كنت أعد صحافتنا كلها مجرد "حمام زاجل" ينقل رسالة عامة موحدة. تكتفي بحمامة واحدة أو تصطاد اثنتين لا فرق. صحافتنا بلا استثناء, إلا في استثناءات معدودة محسوبة, تقف أمام الإشارة وهي ما زالت "خضراء" خوفاً من قسائم المرور وهي لم تعبر "الأصفر" بعد. المشكلة أن الإخوة من رؤساء التحرير يعرِّفون "الوطنية" على مقاسهم الخاص في وطن يتسع لكل الألوان، والمشكلة أنهم ما زالوا يؤمنون بهيبة الصحافة وتأثيرها على الجمهور في الوقت الذي أستطيع فيه بإثبات بسيطة أن القارئ اليوم يتصفح مواقع "الإنترنت" ليحصل منها ما لا تستطيع صحيفة أن تعثر عليه. المؤسسات الصحفية قد تؤمن أن التطوير وثورة الإعلام والاتصال تتحقق بالأحبار المزركشة والألوان الزاهية وقد يظنون, مثل غيرهم, أن الصحافة العصرية هي في الإخراج والتبويب وقد يسلمون أن القارئ سيطلب منتجهم استناداً إلى "نثرة" الصفحة الأولى أو تغيير جوهري في شارة الصحيفة ورمزها. إعلامنا للأسف الشديد يظلم هذا البلد كثيراً في الوقت الذي يظن أنه يحسن إليه. التركيز على الجوانب المضيئة في مسيرة التنمية وإن كان مطلباً وضرورة إلا أنه لا يجب أن يكون هدفاً. المدن والشوارع الجميلة بحاجة إلى صيانة "بسيطة" ومحبتنا لوطننا تفرض علينا الدخول إلى الأزقة والممرات الخلفية في بلد هائل لا تختلف قضاياه ومشكلاته عن تلك التي لدى غيرنا. الفارق أن الصحفي البسيط لدينا يفكر بعقلية رئيس التحرير على أن المنطق والعقل يقول إن لكل منهما حساباته الخاصة في عمر الحاضر والمستقبل. الصحفي الحقيقي هو من يثير القضايا الساخنة وهنا تنتهي به المسؤولية حين يضعها على دائرة "الرقيب" وفوق طاولته. ولنتذكر جميعاً أننا اليوم صحافة مقروءة في كل أركان "الدنيا" بمجرد "ضغطة زر" على جهاز الحاسب المنقول بين طيات جيب السترة ولنتذكر أننا لا نريده صورة بلدنا العملاق على هذه الشاكلة: مئة عام من التنمية الهائلة فيما حركة الإعلام تدور. الإعلام هو ما يقرأ لا ما يتوهم المنتج أنه صالح للنشر والكتابة وحرام أن تظل صورتنا الفكرية والثقافية لدى غيرنا هي ما ينقله الإعلام المبرمج.
خرجت من مبنى "زميلي" مع السحور أحمل في يدي أجمل صحف العرب, تلك التي تصدر من لندن وتطبع في كل الدنيا ويقف وراء المنجز عدد من الأشخاص هو ضعف جميع الأصابع في الجسد الواحد. أذكر أنني وقفت ذات يوم في القاهرة أمام مبنى أكثر الصحف العربية توزيعاً واشتريتها مرة واحدة فقط بعد أن اكتشفت أن أجمل ما فيها صفحة الحوادث والوفيات. ويشتغل فيها عشرة آلاف "موظف" على الرغم من أنني أعرف جيداً أن أكثر الشوارع "ضجيجاً" ليس أكثرها ربحاً على الإطلاق. بالمناسبة ما سطرته هو رأي شخصي لا دخل له برأي أحد على الإطلاق.(عن "الوطن" السعودية)
&
كاتب وأكاديمي سعودي