يمكن للمرء أن يزعم الآن إن السيد جمال مبارك نجل الرئيس المصري، يخطو بثقة ووفق خطى محسوبة بدقة نحو دور سياسي بارز في المستقبل، وليس أبرز ما يؤيد هذا الزعم تنامي دوره داخل الهيكل التنظيمي للحزب الوطني الحاكم، حتى ذهب بعض المحللين والمراقبين إلى استنتاج أنه صار الأمين العام الفعلي للحزب، بعد إقصاء يوسف والي نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة، وتعيين صفوت الشريف وزير الإعلام محله، فيما أوكلت لجمال مهمة أمانة السياسات التي وصفها الشريف ذاته بأنها (قلب الحزب النابض).
&
سيناريوهات
ومن دون مزيد من المقدمات، نقفز إلى صلب الموضوع، فليس سراً إن ما يدور في الشارع المصري لم يعد مجرد همسات، بل صارت مادة مناقشات تخفو وتطفو من حين لآخر، ورغم اعتبار هذا الملف في قلب المسكوت عنه، لكن يحدث أحياناً أن تنشر تلميحات هنا وهناك، تتساءل وتتوقع وتتكهن بأن جمال مبارك يجري إعداده لدور قيادي ربما يصل لأن يخلف والده في الحكم، بل يذهب البعض إلى ما هو أبعد من هذا العنوان العريض إلى تفاصيل سيناريو يقول إن هذا لن يحدث (بعد عمر طويل)، لكنه سيكون مع نهاية فترة الولاية الحالية للرئيس مبارك، الذي سيوكل للحزب مهمة اختيار بديل له، وبالطبع سيختار الحزب ـ بالإجماع ـ جمال مبارك ليطرح اسمه على البرلمان، وبمجرد حصوله على الأغلبية التي يحددها الدستور، يجري عرض اسمه في استفتاء شعبي عام، يتم تنصيبه بعدها رئيساً للبلاد، كما يقضي بذلك الدستور المصري.
&
جمال رئيساً
هذه أبرز الخطوط العريضة للسيناريو الذي يتردد في كل مكان بمصر بتفاصيل تزيد هنا وتنقص هناك، وباستخدام مفردات مهذبة من هذا الفريق، وحادة من ذلك الرهط، ومطعماً كعادة المصريين بعشرات النكات والقفشات، لكن لا يخرج الأمر عن صلب هذا التصور، الذي يسوق انصاره عشرات الأدلة على صحته.
ويثير هذا السيناريو ردود فعل متباينة، وإن كان يشوبها جميعاً الترقب وانتظار ما ستسفر عنه الأيام المقبلة من تطورات وتداعيات لم تزل في رحم الغيب حتى الآن، لكن ومع احترامي الكامل للمعارضين لهذا الطرح منذ بدايته كإرهاصات مع أول ظهور عام لجمال مبارك، غير إن مزيداً من التفكير بالأمر ورؤية الصورة من مختلف جوانبها تثير تساؤلات مشروعة، كما تفرض علامات استفهام واجبة وضرورية، وجميعها تدور حول هذا الرفض المسبق الذي اضطر الرئيس المصري حسني مبارك ومستشاره أسامة الباز له عدة مرات، وبشكل قاطع في حينه، حتى يقطعا الطريق على اللغط والجدل حول مسألة أكدا إنها غير واردة، في ما يقول البعض، إنه لو جاء جمال أو غيره فهذا خيار الشعب الذي ينبغي احترامه، ووسط هذا الجدل يحق لنا وينبغي علينا أيضاً أن نتساءل : (لماذا لا ؟ ولماذا نعم؟) ونسعى بعد ذلك لردود تتسم بالشفافية.
فلماذا لا يكون من حق جمال مبارك أن يسعى للأمر أو يسعى الأمر إليه ؟
لكن يجب علينا أيضاً أن نتساءل، إن كان ذلك سيشكل تغييراً حقيقياً وملموساً يلائم المستقبل الذي كان أول شعار يرفعه جمال مبارك في مطلع ظهوره العام من خلال جمعية "جيل المستقبل" ؟
وأخيراً : وما نسبة المفاسد في مقابل المنافع المترتبة على ذلك ؟
لماذا نعم ؟
ونبدأ بالجوانب الإيجابية، التي يمكن أن نوجزها في أربع نقاط رئيسة هي :
* إن جمال مبارك سيكون نقلة نوعية من سيطرة العسكريتاريا التقليدية على مؤسسة الرئاسة، فالرجل لم يكن يوماً عسكرياً، وبهذا سيكون أول مدني يجلس في (قصر عابدين) منذ انقلاب يوليو العسكري، وهذا سيدشن عصراً جديداً يؤكد على حقيقة واقعة الآن وهي إن جيش مصر هو جيش محترفين، وليس جيشاً مسيساً كما هو حال جيوش بعض بلاد المنطقة، وفي نفس الوقت يفسح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني السياسية منها كالأحزاب، والمهنية كالنقابات، والحقوقية كمنظمات حقوق الإنسان، والخدمية كمؤسسات الرعاية والعمل التطوعي، ومن المعلوم إن مجمل أداء هذه المنظمات معاً هو معيار فاعلية أي مجتمع وأي نظام حكم.
* إن جمال مبارك ابن ثقافة عصرية، وسيكون من المستحيل اختطاف القرار منه لصالح الحرس القديم الذي فقد مبررات بقائه، بعد أن اتسعت الهوة بينه وبين المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، ولا اختطاف القرار أيضاً لصالح التيارات الراديكالية التي لم تزل تردد خطاباً ينتمي لحقبة الاتحادي الاشتراكي سئ الذكر، ولا لصالح فصيل الانتهازيين الذين يرفعون شعارات دينية ويشيعون قيم التخلف ويروجون لذائقة التطرف في المجتمع.
* كما إن جمال مبارك بهذه الثقافة السياسية العصرية، وذلك الانفتاح على العالم المتحضر يمكن أن يقبل أن يكون رئيساً سابقاً ذات يوم، إذا أفضت نتائج أي انتخابات لاحقة إلى ذلك، فالرجل لم يأت على ظهر دبابة، ولا يحمل بين كتفيه خاتم الملك المقدس، بل هو شاب عصري سافر وأقام وعمل في الغرب، ورأى بعينه التداول السلمي للسلطة، وكيف أفرز مجتمعات قوية تقوم على المؤسسات لا الأشخاص، وكل مسؤول أو مواطن يعرف دوره وواجبه وحقوقه.
* إن خبرة الحزب الأخيرة كشفت بوضوح إن جمال مبارك ليس راضياً عن هيمنة الحرس القديم المهيمن على مقدرات الحزب منذ نحو ربع قرن، وأعلن ذلك بقوله "إن مناقشات داخل الحزب في اطار ديموقراطي اظهرت الرغبة لدى قطاعات كبيرة بالتغيير والتطوير وتوسيع دور الشباب، بعد أن أتاح المناخ السياسي في البلاد ظهور قوى جديدة قادرة على التعاطي مع التفاعلات الدولية التي فرضت تعميق الاصلاح والتطوير"، وبالتالي فإن فريق إدارته لن يكون من هؤلاء، وإن اضطر تحت ضغط متطلبات المرحلة الانتقالية أن يستعين بهم حتى تستقر الأوضاع، ويجري استيعاب الأمر داخلياً وخارجياً.
* إن نظرة على كل الأسماء والشخصيات التي يمكن أن تكون مطروحة في هذا السياق، ومقارنتها مع جمال ستكون نتيجة المقارنة الموضوعية في صالح الأخير، لأن الرجل لا يوجد في تاريخه ما يشين، ولم ينخرط في دوائر مصالح هنا ولا هناك، فهو ابن تجربة نظيفة لا شبهة فيها تلوث سيرته الذاتية.
لماذا لا ؟
لكن مقابل هذه النقاط الإيجابية لصالح جمال مبارك، فهناك ما يمكن وصفه بالمخاوف أيضاً، يمكن اختصارها بأنها تكاد تنحصر في مسألة بقاء الحال على ما هي عليه، كأن يلعب فريق الانتهازيين الذين تربوا على موائد سيئ الذكر (الاتحاد الاشتراكي)، وشكلت قناعاتهم سيئة السمعة (منظمة الشباب)، ثم ما لبثوا أن قلبوا لتلك القناعات والانتماءات ظهر المجن، ليرتدوا مسوح دولة (العلم والإيمان) أيام الرئيس الراحل أنور السادات، وبنفس البراعة تكيفوا مع مقتضيات مرحلة الرئيس مبارك، مما يعزز مخاوف أن يتمكن هؤلاء وقد اكتسبوا خبرات هائلة في أصول "فن البقاء"، وإبقاء الحال على ما هي عليه، وهو ما حدث ويحدث الآن في سوريا مثلاً، حين تفاءل الناس خيراً بتولي بشار الأسد سدة الحكم خلفاً لوالده، لكن بعد سنوات من ذلك اتضح ان الحال مازال يراوح مكانه دون تغير يذكر، فمازال الانتهازيون هناك يسيطرون على الجانب الأكبر من صناعة القرار السياسي المحلي، وهو أمر مرشح للاستنساخ مصرياً، ولعلنا لسنا بحاجة لتسمية أي من النماذج الانتهازية المحيطة بدائرة صنع القرار المصري أو السوري، فهم معروفون للكافة، ومهما قدموا للمواطنين من وعود فلن يصدقها أحد، حتى لو صدقوا فلن يشفع لهم ما تبقى من أعمارهم لتجميل تاريخهم العريق في الفساد السياسي والانتهازية.
ثم إن التغيير في حد ذاته سنة من سنن الله في خلقه، فما بالنا لو كانت هناك بالفعل مبررات لتغيير هذه الوجوه التي تكلست على مقاعدها منذ دهر.
&
تساؤلات
وبعيداً عن المخاوف السابقة، تأتي في النهاية، تساؤلات ربما كان مردها جهل الناس ـ وأنا منهم ـ بما يفكر به جمال مبارك، ورؤاه حول كافة القضايا المطروحة على الساحة، ومن هنا تبرز أهمية تواصله الحقيقي مع الجماهير الحقيقية في أطر أوسع من كهنوت الحزب، الذي أؤكد له بحكم سنوات ليست قليلة من العمل الصحافي والسياسي، إنه مازال يعاني من تنفذ الحرس القديم، لدرجة مملة، وبصورة تحول بينه وبين ملايين المواطنين الذين يأملون به خيراً، ومنهم سيأتي الدعم لمشروع دولة ديموقراطية ليبرالية قوية اقتصادياً، تستطيع أن تعيد لمصر دورها التاريخي الذي تستحقه كمصدر للحداثة والتحضر في المنطقة بأسرها كما كانت دائماً.
أغلب الظن إن أحداً لن يرد على هذه التساؤلات، حتى يقضي أمراً كان مفعولا.