حسين كركوش
&
القرار 1441 لم يلغ تصميم الإدارة الأميركية على مهاجمة بغداد والقضاء على نظام الرئيس العراقي صدام حسين. هذا القرار هو فخ حفرته الولايات المتحدة, وليس غيرها, ثم أجبرت دول العالم الأخرى على القبول به. وهو فخ نُصبَ خصيصا لصدام حسين, وأَريد له إنجاز هدفين في آن واحد: الهدف الأول هو إلحاق إهانة بالغة بصدام حسين وإذلاله, عن طريق إجباره على قبول الشروط المهينة ألى حد لا يطاق, الواردة في القرار, وهي شروط (لا نجد ما يشابهها منذ فجر التاريخ) على حد تعبير وزير الخارجية العراقي ناجي صبري الحديثي في رسالته الثانية لكوفي عنان. وما قاله الوزير العراقي صحيح جدا. فلم يشهد تاريخ العلاقات السياسية في العالم بلدا تستطيع فيه مجموعة من الموظفين الأجانب إعلان "منع التجول" داخله. ولم تشهد هذه العلاقات بلدا واحدا يتمكن فيه موظفون أجانب من إستجواب من يختارونه من مواطنيه, بما في ذلك الوزراء والقادة العسكريين, وارسالهم مخفورين لأي مكان في العالم, للتحقيق معهم. ولم تعرف العلاقات السياسية بين الدول بلدا واحدا يوافق فيه رئيسه والقائد العام للقوات المسلحة, بان تقوم مجموعة من موظفي الأمم المتحدة بتفتيش قصوره الرئاسية, أي "مخدعه الزوجي", على مرأى العالم كله, وأمام عدسات المصورين. إنه الإذلال الشنيع المتَعمد التي تريد الإدارة الأمريكية إلحاقه بصدام حسين.
في الواقع, إن لجنة الرصد والمراقبة والتحقق التي تعمل حاليا داخل العراق للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية, هي بمثابة دولة داخل دولة0 بل إنها تملك صلاحيات "فرض" أوامرها و"قوانينها" على الدولة العراقية0 أي أن رئيس اللجنة بليكس يملك صلاحيات لا يملكها رئيس الدولة صدام حسين0 وهذا يعني, من الناحية العملية, أن صدام حسين فقد, كرئيس دولة مناط به حفظ كرامة وسيادة البلد والمواطنين, مبرر وجوده, أصلا. والهدف الثاني النهائي من القرار 1441 هو, الإجهاز, نهائيا, على صدام حسين ونظامه, بعد إلحاق المهانة بهما. ومن جانبه, يصر الرئيس العراقي على البقاء على رأس النظام حتى الرمق الأخير. والطرفان, الأمريكي والعراقي, يعرفان ان القوة العسكرية كوسيلة لحسم هذه المنازلة, يمكن التنبؤ بنتائجها منذ ألان, بطريقة إيجابية لصالح الولايات المتحدة, وسلبية لصالح العراق.
وإذا كانت الإدارة الأميركية واثقة من تفوقها العسكري وربح الحرب المحتملة على العراق, فإننا نفترض ان الشق الثاني من هذه الحرب, أي الشق السياسي, المتمثل بإيجاد بديل للرئيس صدام حسين, يبدو, هو الآخر, في طريقه إلى الحسم, ان لم يكن قد حُسم فعلا. فبعد ان دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة, منذ انتهاء حرب الخليج الأولى, على اتخاذ مواقف ملتبسة, أو حتى متناقضة, مع أطراف المعارضة العراقية, فان الإدارة الأميركية الحالية قررت, على ما يبدو, حسم الأمور, واختيار ستة أطراف معارضة للتحاور معها كجهات رئيسية ممثلة للشعب العراقي0
وهذه الأطراف هي: حركة الوفاق برئاسة السيد أياد علاوي, المجلس الاعلى للثورة الإسلامية في العراق بزعامة آية الله محمد باقر الحكيم, الحزبين الكرديين الرئيسيين, الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني, والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارازاني, المؤتمر الوطني بقيادة السيد احمد الجلبي, واخيرا الحركة الملكية الدستورية بزعامة الشريف بن علي0&
على ضوء "تصنيف" هذه الأطراف الستة في المعارضة العراقية التي اختارت الإدارة الأميركية التعامل معها, يتضح ان الولايات المتحدة تنظر إلى حل "المسألة العراقية", ليس وفقا للتمثيل السياسي, وإنما وفقا للتركيبة الطائفية - ألا ثنية: سنة عرب, شيعة عرب, وأكراد, بالإضافة الى مجموعات أثنية اخرى. وبوجود الحركة الدستورية الملكية كطرف رئيس ضمن الأطراف الستة, فان الأمر يعني ان الولايات المتحدة لم تسقط من حسابها فكرة, أو مشروع إعادة إحياء النظام الملكي إلى العراق, الذي كان أطيح به في 14 تموز / يوليو 1958, وربما ايضا, إعادة تشكيل الاتحاد الهاشمي الذي كان قائما بين المملكة العراقية والمملكة الأردنية الهاشمية, قبل 14 تموز 1958.
على ضوء ما تقدم, فبالإمكان القول ان الولايات المتحدة تسعى لان يكون النظام في عراق ما بعد صدام حسين, ليبراليا في السياسة والاقتصاد,علمانيا في الممارسات اليومية, مؤيدا لصيغة فيدرالية عربية / كردية ( في هذا الصدد, تعتبر برقية التأييد التي بعث بها وزير الخارجية الأميركي كولن باول إلى البرلمان الكردي الذي عقد دورته الأخيرة, اعترافا أميركيا, ضمنيا, بالوضع الفيدرالي القائم في منطقة كردستان العراقية ), مقبولا من الأقلية السنية, مؤيدا من الأكثرية الشيعية, وكذلك مستعدا للسير في عملية المصالحة الإسرائيلية - العربية ( وفقا للرؤية الأميركية, بالطبع ), مؤيدا للمشروع الاستراتيجي الأميركي المستقبلي لعموم المنطقة, ومستعدا, ربما, لقبول اتحاد ملكي عراقي / أردني, لأمور تتعلق بأفاق حل قضية الصراع العربي - الاسرائيلي. ولكننا نعتقد ان الإدارة الأمريكية لا تعتبر مجموعة ( الستة ) ( وصفة طبية ) لا يمكن التلاعب بها0 فقد تقوم هذه الإدارة بأجراء تغييرات واسعة داخل هذه التشكيلة, حتى قبل إتمام عملية الإطاحة بالنظام العراقي الحالي, ُيقصى بموجبها هذا الطرف أو ذاك, أو ُيقلل حجم هذا الطرف أو ذاك, أو يضاف أليها هذا الطرف أو ذاك0 إذ ربما ستعمد الولايات المتحدة على تقليص دور المجلس الاعلى للثورة الإسلامية وأضعاف تمثيله, بل وربما إقصائه, لصالح وجود (مجلس أعلى للشيعة في العراق), مثلما بدأ يتردد الان0 وقد تعمد الولايات المتحدة إلى توسيع ممثلي التيارات الليبرالية/ العلمانية, حتى تلك التي تتخذ ألان مواقف مناهضة للحرب على العراق,وذلك لغرض توسيع نفوذ القوى العلمانية في المستقبل, والحد من نفوذ القوى الدينية 0 وقد تتنكر الولايات المتحدة للصيغة الفيدرالية التي يطالب بها الأكراد, وتصر على وجود حكم لامركزي, بدلا عنها, مثلما بدأ يلوح في أفق التصرفات والتصريحات الامريكية0وقد تلجأ الأدارة الأمريكية لخيار "أنقلاب القصر", إذا رأت أن ذلك يخدم مصالحها0 وربما تنتظر الإدارة الامريكية حدوث إنتفاضة ثانية, تخلقها, هذه المرة, آلية تطبيق القرار 1441 نفسه, عندما تتأكل هيبة الدولة, ويفقد صدام حسين أية مصداقية في عيون المدنيين وكبار قادة الجيش. فالولايات المتحدة تريد ان ُتبقي الأبواب مشرعة لجميع الاحتمالات (التي تراها مناسبة لها)0 وتناقلت وكالات الأنباء في الآونة الأخيرة أخبار تفيد ان الإدارة الأمريكية بدأت بتشكيل نواة لقوات عسكرية عراقية في منطقة كردستان العراقية بأشراف القيادي الشيوعي المنشق بهاء الدين نوري,استعدادا لتدربيها, واستخدامها كرأس رمح في هجومها على بغداد0 وهي إشارة أمريكية واضحة, مفادها ان الولايات المتحدة ليست بحاجة لجهود قوات البيشمركة الكردية, ولا لقوات فيلق بدر التابع للمجلس الاعلى للثورة الإسلامية بزعامة محمد باقر الحكيم0 وجاءت هذه "الرسالة" الأمريكية لتثير غضب واستياء القادة الأكراد, ورئيس المجلس الاعلى للثورة الإسلامية, الذين شعروا أن هذه "الرسالة" الأمريكية تهدف ألي تهميش أدوارهم "العسكرية", وربما السياسية, أيضا.
سيقول قائل: وهل تريد الولايات المتحدة خلق "عراق" قادم على مواصفاتها؟
الجواب, هو نعم. فالولايات المتحدة لن تشن الحرب, وتتخلص من نظام صدام حسين, ثم تقول للعراقيين: هذا بلدكم, فاحكموه مثلما شئتم0 والولايات المتحدة لم تقل, في يوم من الأيام, أنها جمعية خيرية تقدم خدماتها مجانا لمن بحاجة إليها, لتنسحب بعد ذلك, انتظارا لتقديم هذه الخدمات لمحتاجين اخرين. ما تريده الولايات المتحدة من وراء شنها الحرب هو, بالدرجة الأولى وقبل كل شيء, ضمان مصالحها ومشاريعها الآنية والاستراتيجية داخل العراق, أولا, وخارجه بعد ذلك0 وكل حديث أمريكي عن ( مساعدة ) الشعب العراقي, وتخليص البلاد من ديكتاتورية صدام حسين و(ضمان الأمن والسلام ) في المنطقة, يظل في باب الفرضيات التي تحتاج ألى الأثبات. ومثلما يحدث في كل الحروب في العالم, فان المنتصر هو الذي يحدد شروطه ويفرضها0 هذا ما حدث لألمانيا في الحربين العالميتين, ولليابان بعد الحرب الثانية, وللعرب في حروبهم مع إسرائيل, ولأفغانستان بعد هزيمة طالبان, وللعراق نفسه بعد حرب الخليج الثانية, وهو ما سيحدث للعراق في الحرب المحتملة. ولان الولايات المتحدة هي التي ستبادر لشن الحرب, وهي التي ستربحها, فإنها& ستقوم بفرض شروطها هي, أي شروط المنتصر, وليست أي شروط أخرى0 وقد بدأت تتحدث, منذ ألان, عن إمكانية تعيينها لحاكم عسكري أميركي على العراق, أو عن تواجد عسكري أميركي دائم على الأراضي العراقية, بل أنها بدأت, مثلما أفادت بعض التقارير, التفاوض من ألان مع بعض الدول الكبرى حول حصص هذه الدول في عراق ما بعد صدام حسين. ومهما ستكون الشروط التي ستفرضها الولايات المتحدة, جائرة لا يرضى عليها العراقيون, أو عادلة تحوز على رضاهم, فان الأمر لا يتعلق برغبات وأماني العراقيين, بقدر ما يتعلق بشروط الحروب وقوانينها. فعندما يتحدث المسؤولون الأمريكيون, حتى ولو على شكل تسريبات صحفية لا تحمل طابعا رسميا, عن نيتهم في تعيين حاكم عسكري أمريكي لحكم العراق,أو تواجد عسكري لقواتهم داخل العراق, فانهم يريدون القول: ان وضع العراق في مرحلة ما بعد الحرب, مرهون بنا وحدنا. ولأن الولايات المتحدة هي التي ستكون (المبادرة) لطرح مشروع (مستقبلي قادم ), و نظام صدام حسين سيصبح مشروع (ماضوي دابر), ولأن السياسة لا تتحمل (تماما مثلما الأمر مع الطبيعة) وجود( فراغ ), فانه سيكون من بديهات الأمور ان تقوم الولايات المتحدة بالعثور على (حميد قرضاي عراقي) لحكم العراق, إن لم يكن اليوم فغدا. ولسنا هنا بصدد معرفة مواصفات الرئيس العراقي القادم, مثلما لسنا بصدد ان نعرف فيما إذا كان الرئيس العراقي الجديد, هو الذي سيملك الصلاحية الحقيقية لإصدار القرارات, أو ان خليل زادة, المستشار الأمريكي من اصل أفغاني للرئيس بوش للشؤون الآسيوية,هو الذي سيملكها, كما هو الحال في أفغانستان في الوقت الحاضر. ما نريد قوله هو, ان الولايات المتحدة أمامها هوامش عديدة وواسعة للمناورة0 فماذا بشأن هامش المناورة المتوفر للرئيس العراقي صدام حسين ؟
&
***
&
يدرك الرئيس العراقي انه سيخسر, لا محالة, الحرب التي تهدد بشنها الولايات المتحدة0 وهو يعرف, ربما اكثر من غيره, انه لم يعد يملك أي هامش للمناورة, بعد ان استنفد أوراق اللعب كلها, واصبح يستند بظهره على جدار دفاعه الاخير. وحتى هذا الجدار, فأنه لم يعد, من الناحية العسكرية الصرف, قائما مثلما كان الأمر عليه عشية حرب الخليج الثانية, عندما كان الجيش العراقي يعتبر آنذاك ( رابع جيش في العالم). وكل ما بمقدور الرئيس العراقي ان يفعله هو, تجميع قوات الحرس الجمهوري بقيادة نجله الأصغر قصي, ومعها, ربما, قوات فدائيي صدام, بقيادة نجله الأكبر عدي, وكذلك أعداد من ( جيش القدس ), داخل العاصمة العراقية بغداد, ومن ثم إجبار القوات الأمريكية, ومعها القوات العراقية التي قد تنشق عنه, على خوض معارك شوارع. ويبدو ان القيادة العراقية تفكر جديا بتطبيق هذا التكتيك العسكري0 فقد أفادت تقارير صحافية من العاصمة العراقية, بعث بها مراسلون أجانب كانوا حضروا خصيصا لتغطية انتخاب صدام قبل أسابيع, ان السلطات العراقية بدأت بتطبيق خطط تمنع بموجبها سكان العاصمة من مغادرتها, مثلما حدث عشية حرب الخليج الثانية, من اجل الاحتفاظ بهولاء السكان المدنيين كدروع بشرية, إن اقتضت الضرورة. ولكن هذا ( الخيار ) العسكري لن يغير شيئا, على الإطلاق في نتيجة الحرب0 بل إنه سيكون, في حال لجأ صدام ألى تطبيقه, بمثابة الخفقات الأخيرة في جسد الطائر المذبوح, قبل ان يلفظ أنفاسه الأخيرة0 إنه سيكون خيار ( علي وعلى أعدائي, يا رب). ولكن البعد التراجيدي في هذا الخيار الشمشوني هو, إن ( أعداء ) الرئيس العراقي, أي القوات الأمريكية, سوف لن تلحق بها إصابات ماحقة, بقدر ما ستلحق بالسكان المدنيين الأبرياء في داخل العاصمة, وربما في مدن أخرى, وكذلك في صفوف العسكريين العراقيين, الذين سيضطرون على خوض معركة, ستصبح, بدون شك, مذبحة حقيقية. وسيتحول هذا السيناريو إلى كارثة جماعية حقيقية بحق العراقيين, في حال عمد صدام حسين لاستخدام أسلحة كيميائية ضد السكان المدنيين في حال تمردهم ضده, أو ضد القطعات العسكرية التي قد تنشق عنه, أو إذا عمدت القوات الأمريكية إلى استخدام أسلحة دمار شامل, كتلك ( القنابل الذكية ) التي تجعل الخصم ( أعمي وأصم وأبكم ) والتي يشاع ان الولايات المتحدة ستستخدمها في الحرب, عندما تقتضي الضرورة.
إن الإصابات الباهضة ستلحق بالعراقيين أنفسهم, وليس بالقوات الأمريكية0 فقد وضعت القوات الأمريكية, من ألان, خططا عسكرية لمواجهة جميع الاحتمالات0 وبدأنا نسمع عن تدريبات تجريها القوات الأمريكية, للتعامل مع حرب شوارع, قد تنشب في بغداد. وإذا كان الرئيس العراقي صدام حسين ما يزال يملك هامشا عسكريا, ولو محدودا جدا, فأن هامش المناورة السياسية الداخلية, فيما يتعلق بإعادة ترتيب البيت العراقي, يكاد أن يكون معدوما تماما. وبادرة العفو عن السجناء السياسيين التي أقدم عليها صدام حسين, سوية مع نيته في أجراء حوار مع بعض الشخصيات ( المعارضة ) لحكمه والمتواجدة خارج العراق, يؤكدان أنعدام هامش المناورة, أكثر مما يؤكدان على وجوده. فبعد ان ظل النظام العراقي ينكر إنكارا قاطعا وجود سجناء رأي في العراق, وبعد أن ظل يعتبر أية جهة سياسية معارضة ( خائنة وعميلة للأجنبي ), عاد فتراجع عن مواقفه السابقة, واعترف بوجود سجناء سياسيين وبوجود معارضة عراقية. لكن هذين الاعترافين لا يغيران شيئا, ولا يخففان من العزلة والأزمة السياسية التي يعيشها النظام القائم في بغداد, ناهيك عن كونهما وُلدا ميتين. ففي الوقت الذي يعلن فيه صدام حسين ان العراقيين انتخبوه بنسبة 100 في المائة من الأصوات, أي عدم وجود عراقي واحد معارض لحكمه, فأنه يعترف, من جهة أخرى بوجود "معارضة" عراقية ضده, ويعلن استعداده للحوار معها. هل يستقيم "إجماع" العراقيين الشامل على انتخابه, مع قراره بالعفو السياسي واعترافه بوجود معارضة ضده, وهل تؤدي هذه المحاولة إلى نتائج إيجابية. بالتأكيد لا, ولكن هذه المحاولة هي, حيلة الذي لا حيلة له. فالرئيس العراقي يعيش الآن مأزقا لا يحسد عليه. وهو ينطبق عليه المثل العراقي (مثل بلاع الموس), أي مثل شخص أبتلع مدية ُشحذت جيدا, فلا هو قادر على ابتلاعها فيستريح من الألم, ولا هو قادر على تقيؤها والخلاص منها.
إن أية شخصية سياسية, أو أية مجموعة من الشخصيات,سيكلفها الرئيس العراقي بأحداث تغييرات "ديمقراطية", ستكون عاجزة تماما عن أحداث هذه التحولات0 والأمر لا يتعلق بهذه الشخصيات التي ستوكل إليها مهمة أجراء "مصالحة" وطنية, وانما يتعلق الأمر بالأوضاع الداخلية في البلد, ويتعلق بطبيعة شخصية صدام حسين وأسلوبه وطريقته وفلسفته في الحكم, مثلما يتعلق بالحرب التي تصر الولايات المتحدة على شنها ضد النظام العراقي القائم. فما يزال مجلس قيادة الثورة يعتبر أعلى سلطة سياسية وقانونية في البلاد, وما يزال الرئيس العراقي يصر على اعتبار حزب البعث الحاكم, هو ( قائد المسيرة). وما يزال صدام حسين يملك صلاحيات قانونية ودستورية وحزبية وعسكرية مطلقة0 فهو رئيس مجلس قيادة الثورة, والقائد العام للقوات المسلحة, ومسؤول القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم0 بالإضافة إلى ذلك, بل قبل ذلك كله, فإن صدام حسين يتصرف ويحكم البلاد باعتباره الرجل الذي اختارته العناية الإلهية لحكم العراقيين. وإذا كان بعض ما يسمى بالقادة التاريخيين في الحكم, مثل طارق عزيز وعزة إبراهيم وطه ياسين رمضان, لا يتجرأون حتى على إشعال عود ثقاب, دون أن يؤذن لهم صدام حسين, فكيف سيتصرف أي شخص ( معارض ) من طرح أراءه والتعبير عن وجهات نظر مغايرة, في حال أوكلت إليه مهمة تشكيل وزارة جديدة, تسعى لأجراء تحولات ديمقراطية في البلد, بوجود صدام حسين كقائد للبلاد؟
ثم, ماذا بمقدور أية عملية ( انفتاح ديمقراطي ) يقدم عليها النظام العراقي أن تفعل الآن, وهذا النظام بدأ ( يلعب في الوقت الضائع ), وَحكم المباراة الأمريكي يوشك, بين لحظة وأخرى, ان يطلق صافرته, مؤذنا بانتهاء المباراة بين الفريق العراقي, وفريق مفتشي الأسلحة, الدائرة الآن في الملعب العراقي؟
خلاصة القول هي, ان الحل الوحيد لدرءْ كارثة الحرب القادمة ضد العراق, يكمن في تخلي الرئيس صدام حسين عن الحكم, لا من اجل أن يخلفه نجله أو قريب له, أو أي شخص يختاره هو, ولكن من اجل ان يغادر العراق و يترك للعراقيين تدبير شؤونهم.
هذا هو الحل الوحيد الواقعي, العقلاني,العملي, والمقبول من جميع الجهات0 وعلى القوى المناهضة لشن الحرب ضد العراق, خصوصا القوى الإسلامية والقومية في الأقطار العربية والأسلامية و القوى اليسارية في العالم الغربي, وهي قوى واسعة ومهمة فعلا, ان تطالب باستقالة الرئيس العراقي, كمدخل لا بد منه ليتجنب العراق كارثة رهيبة, يبدو أنها قادمة, لا محالة.
نحن نفهم أن لا يطالب القادة العرب الرئيس صدام حسين بالتخلي عن السلطة, لانهم إذا فعلوا ذلك, فأنهم سيسنون سابقة قد تحرقهم نارها في المستقبل0 ولكننا لا نفهم لماذا لا تطالب القوى الشعبية العربية والأسلامية والقوى اليسارية الغربية الحريصة على سلامة العراق وشعبه, بتخلي صدام حسين عن الحكم, حرصا على العراق وسكانه, وأبعاد شبح الحرب.
إن أي حديث عن إرسال دروع بشرية إلي العراق, مثلما يناشد الآن المسؤولون العراقيون, وأي حديث عن مقاطعة شحن البواخر الأمريكية, أو غلق ممرات العبور النهرية والجوية بوجه البوارج والطائرات الأمريكية, يذكرنا بما قاله هولاء المسؤولون عشية حرب الخليج الثانية, وكيف كانت تلك المناشدات ( حرث في الماء), لا أكثر ولا أقل.
تخلي صدام حسين عن السلطة هو الحل الوحيد الذي سيجنب العراق زلزالا جديدا يجعل الأرض تميد تحت أقدام العراقيين, وربما تحت أقدام غيرهم في المنطقة. أما أن يقوم هذا الشخص العراقي أوذاك, أو هذه المجموعة أو تلك, بتمثيل دور "شهابور بختيار عراقي" جديد, فأن ذلك سيقود, حتما إلى طريق مسدود. وأية شخصية عراقية تقبل بتأدية هذا الدور, ستكون واحدة من اربع: شخصية ماسوشية تتلذذ بإهانتها وبعذابها, على يد صدام حسين. شخصية مغامرة, تبحث عن الشهرة بأي ثمن. شخصية متعطشة لتسجيل سابقة ثانية في تاريخ العراق, على غرار السابقة التاريخية التي أقترنت بالخليفة العباسي عبد الله بن المعتز, الذي لم يبق في الخلافة سوى يوم وليلة, فسمي بعدها (خليفة يوم وليلة).