مصطفي الكاظمي
&
لا يستطيع قارئ أو مثقف عربي أن ينكر دور ادوارد سعيد الفكري كونه صاحب أفكار جديدة وجذرية في تاريخ الاستشراق والثقافة الغربية وموقفها من الإنسان العربي والتراث الإسلامي والإسلام بالذات، وسواء اتفقنا مع هذه الأفكار او اختلفنا معها، وسواء كانت تعبر عن مزاج شخصي أو معاناة أو حصيلة نظر دقيق، فان الشيء الذي يثير حفيظة كل قارئ منصف موقفه من المفكر العراقي كنعان مكية، اذ كان موقفاً انفعاليا شخصيا تبدو فيه النبرة المتعالية التي لا تليق بمكانة الاستاذ سعيد. من حقه أن يتناول تصورات الأستاذ مكية بالنقد والتشريح، ولكن ليس له أن يتعامل معه بهذا الأسلوب التهكمي! فمكية صاحب اختصاص فني رائع وله إسهامات علمية وفكرية لها روادها من العرب، وخاصة العراقيين، وهو سياسي معارض طرح تصورات تخصه هو ووطنه العراق، والمطلوب من سعيد وغيره قراءتها باحترام ونقدها باحترام إذا كان للسيد سعيد الحق بالتدخل بالشأن العراقي. ولكن المؤسف حقا، أن سعيد شن هذا الهجوم المقذع علي مكية ومشروعه لخلاص العراق من الدكتاتورية البغيضة في مقالتين بـ الاهرام المصرية و الحياة اللندنية مؤخراً لكنه لم يقدم البديل! رغم أن سعيد يقر علنا بدكتاتورية صدام حسين لكنه لم يدنها بل يساند هذه الدكتاتورية التي تعتاش علي دماء العراقيين. أفلا يستحق ادوارد سعيد بمثل هذا الموقف الاحادي ادانة كالتي سطرها هو بحق الكثير من المثقفين العرب الذين لم يكتبوا حرفاً واحدا عن معاناة الشعب العراقي تحت نير صدام حسين؟ خاصة وإنّ سعيداً وغيره يعرفون مدي الخدمة التي أسداها صدام لمشروعهم القومي الذي ينادي به سعيد ومحمد المسفر ومعن بشور! موقف سعيد من مكية يذكرنا بموقفه من المفكر الفرنسي روجيه غارودي وهو المدافع عن الاسلام وقضايا المسلمين، انها ذات النبرة الاستعلائية رغم ان غارودي يُعد مفكر الحضارات البارز، تري هل هي عقدته من المثقفين الكبار ام حسد الحاسدين من النجاح الذي حققه كنعان مكية لصالح الشعب العراقي والقضية العراقية واندحار معسكر صدام وأتباعه من العرب المستعربة؟
لم يكن الدكتور ادوارد سعيد موفقاً في تعاطيه مع مشروع مكية، لأن الموضوعية تداخلت مع الذاتية بشكل فاضح ومكشوف، وليت الامر يقف علي أعتاب الشخص المُسمّي بل تعدي إلي الاب والخصوصيات الشخصية التي تعتبر من المحرمات في الشرائع الوضعية والسماوية، وهو شيء يؤسف له حقيقة، فما كان جديراً بالكاتب المعروف ادوارد سعيد أن يخوض بمثل هذه المجالات. علي أن سعيداً يحاكم مكية وكأن الكائن الانساني في تصوره قطعة من رخام، فهو هو من حيث الجوهر والموقف والتصور، لا يتغير ولا يتبدل، وهل يضمن لنا سعيد أنه سيبقي هو نفسه، بلا تغيير ولا تبديل؟ هل الامبريالية والثقافة حقيقة خالدة؟ أم أن الاستشراق أرقام رياضية تصدق في كل زمان ومكان؟ إن الناس تتغير وتتبدل، وسبحان الذي لا يتأثر بما يدور حوله!
إتهام الآخرين بالسذاجة نوع من الاستهانة بالفكر الانساني، حتي اذا بدا لنا أنه نوع من الفكر الاسطوري، وكان علي الاستاذ سعيد أن يحترم فكر مكية، وذلك كأي إنسان آخر، ولا ننسي انه يصدر عن دراية بالعراق، وتاريخ العراق، ولا نعتقد أن الاستاذ سعيد لا يعرف من هو محمد مكية وابنه كنعان الذي كان له دور كبير في إثراء التراث العراقي والعربي وحتي العالمي، وبالتالي، هو أدري من سعيد وغيره بوطنه وشعبه.
إن الأستاذ سعيد يتعامل مع مكية من منطلق الأيمان بالتاريخ الازلي من حيث لا يشعر... وذلك منهج لاهوتي في التعاطي مع الزمن لا يمكن ان نطمئن او نركن اليه.
ما طرحه سعيد ضد كنعان مكية، يعيد الي الذاكرة محاكم التفتيش، فهل يريد سعيد أن يستنهض الأمة بالسيف والمقصلة!
ما طرحه سعيد ضد مكية يذكر بالمفكر الشهيد فرج فودة الذي اغتالته يد التعصب الاعمي باسم الدين حين قال الذين يفكرون ثم يكتبون احترمهم، والذين يكتبون ثم يفكرون اعذرهم، والذين يكتبون ولا يفكرون ابداً، ارد عليهم فهل تحول سعيد من مدرسة المفكرين الليبراليين الكبار الي مدرسة الكتاب الذين لا يفكرون والتي يديرها الملا عمر واسامة بن لادن؟