سالم أيوب
&
إن الله لا يقبل القسمة على اثنين والتسليم بالإيمان به لا يقبل التشكيك ولا التأويل، وهذه حقيقة لا تتطابق مع ممارسات معظم الشعوب العربية المسلمة التي تنجرف باستمرار عن ما هو صحيح ومطلوب تطبيقه. إن هذا الضياع والإستسلام للدمار والخنوع إلى الجذب المستمر للغوص إلى قاع الظلمات يفسر بأن الثقافة الدنيوية الزائلة قد تمكنت من التحكم والسيطرة على عقول وأحاسيس شعوب المجتمعات العربية. ومسببات هذا الأمر ترجع إلى تولي بعض الأنظمة الحاكمة وبعض القادة بشتى انتماءاتهم مقاليد السلطوية سواء كانت المعسكرة أو الفكرية، والذين بدورهم تلاعبوا بمصائر وروحانيات المعتقدات الدينية لشعوب هذه الدول. هادفة من ذلك جرهم لمجتمعات لا تدين إلا إلى المادة الفيزيائية المرئية ولنقل بأن الرأسمالية أحد رموزها.
فالمنطقة العربية الآن في حالة قطاف للثمار التي زرعها المستعمر الغربي ومن ورائه الصهيونية العالمية بالتعاون مع أنظمة لها وجهان أحدهما مرٌ والآخر أكثر مرارة. فمن جهة ساقوا الوطنية بأشكال متعددة للديكتاتورية وهذا بدوره غرس الجبن والخوف في قلوب الشعوب، والوجه الآخر هو رفع راية الإسلام "المتعلمن" (التدين القطري واللاممتد)، وذلك للحد من التواصل دينيا ما بين المسلمين بإسلام صحيح ليتغلغل بين هذه الشعوب في الأقطار قاطبة. وهذا جاء مكملاً لما بدءه الاستعمار حينما أقدم على تقسيم هذه المجتمعات إلى دويلات متنافرة ومبعثرة، نتيجة فرضه لأفكار مسمومة، منها القومية تارة والقطرية تارة أخرى تهدف منه تمييع الدين بين فئات هذه المجتمعات لإضعافها ولتكريس مفهوم الديكتاتورية المبطنة مؤقتا لاستعمار جديد ليس بالضرورة أن يكون عسكريا كما كان بالسابق ولكن فكريا وثقافيا واقتصاديا، والذي مما لا شك فيه سيكون وقعه مدمرا على أجيال قادمة ونحن الآن نشهد بعض منها.
إن النظام الدولي الجديد قادم لا محالة!! فهل أنت متحضرٌ له؟ وسرعان أن تفهم ماهية هذا النظام العالمي الجديد، والتدرج الذي سيفرض به على العالم ليكون واقعا فإنك ستلاحظ بأنه سيتطور ويتداخل في حياتك اليومية وتتفاعل معه كمفهوم تشربته رويداً رويدا. لقد أطلق الصناعي الأمريكي "هنري فورد" تحذيرا خطيرا في العشرينيات من القرن الماضي قائلا " ... إنني واثق من أن الحروب التي تحدث تقوم كي يستفيد منها طرف ما وعلى الدوام هؤلاء هم اليهود. فهم يبدؤون بالحروب الدعائية التي يوجهونها من بلد ما ضد الآخر... وقبل الحرب يتاجرون بالسلاح والذخيرة لكلٍ من الطرفين المتحاربين ويثرون من وراء ذلك، بالإضافة إلى إيقاع المتحاربين في مصيدة ديون الطلب المستمر على الأسلحة... وبعد أن تضع الحرب أوزارها يضع تجار السلاح والذين أغلبهم من اليهود على مصادر الثروة في تلك البلدان سدادً لفواتير السلاح..."
هؤلاء هم اليهود ومن يواليهم من سياسيين غربيين يدينون بالأصولية المسيحية-اليهودية ويساندهم طغم حاكمة تتصرف بمقدرات الشعوب العربية دون حسيب ولا رقيب. فهذه الطغم استغلت غياب قوة الشارع الذي يطيح بهكذا رموز وتفوقت على المجاميع بالقوة الناتجة عن ضعف وخوف الطوفان البشري. وهذا يدفعني إلى القول بأن العالم يندفع بسرعة إلى الهاوية الذي تقوده مطامع بشرية تتاجر بالخرافات والنبوءات والاعتقادات المزورة.
أما بالنسبة للفشل الواضح في حل القضية الفلسطينية فإن دور الصهيونية وبعض الأنظمة العربية بكافة ديكتاتوريها الذين تركوا بصمات واضحة ولا تقبل التشكيك في ذلك كان دليلا على انهزام الشعوب العربية في معارك من قبل أن تبدأ. وقد تشاركت تلك الأطراف الثلاثة التي ذكرتها آنفا بأن أصبح جُلْ عملية السلام التي وقع بها اتفاق مبادئ في أوسلو العام 1994 ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كان مخطوطاً له أن يكون فترة مرحلية في مسيرة الصراع العربي-الإسرائيلي بحيث يجب أن تكون نتائجها بكافة الأحوال والظروف غير واضحة وأن لا تكون مؤكدة بسبب اتخاذ الطرف الإسرائيلي للاتفاق (وقد ساعده لتحقيق ذلك أطراف عدة عربية منها أو غربية) كفسحة زمنية تكتيكية في طريق حسم جميع الأمور لصالحهم في المستقبل القريب. وهذا يعتبر مرحلة في سبيل الهيمنة على الشرق الأوسط (وليس فلسطين فقط) بكافة مكوناته الجيوسياسية والديموغرافية والاقتصادية في نهاية الصراع الاستراتيجي الذي تخطط له قوى الصهيونية العالمية.
لقد كتب المؤلف الفرنسي "أليكس دي توكفييه" خلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية في عام 1830م "... إن أميركا عظيمة لأن الطيبة تختزن مجتمعها، وإذا استطاعت أن تحتفظ بهذه الخصلة فإنها ستبقى عظيمة...". للأسف فإن دي توكفييه لم يكن يعلم من أن هذا المجتمع الذي لمس عظمته من خلال احترامه لمبادئ الأخلاق على الرغم من أن الكنائس لم تكن مكدسة بالمصلين، بأنه سيقع تحت وابل الهجمات الصهيونية التي استهدفت كنائسه ومعتقداته الدينية ومن ثمة أخلاقياته المجتمعية التي تغنى بها دي توكفييه.
فالحركة الصهيونية العالمية كانت تخطط لوطن يلملم شتات يهود العالم وجمعهم في الوطن الأم كما كانوا يسموه، على الرغم من أن أغلب اليهود كانوا مستقرين ومنتمين لدول كثيرة، أي أنهم لم يكونوا مشردين. بمعنى أن هذا الفرد اليهودي لم يكن يفكر مطلقا بأن يبحث عن موطن آخر له. إن هذا الوطن الأم الذي طمعت به الصهيونية هي أرض فلسطين التي كان المتدينين المسيحيين في أمريكا وككل المسيحيين في العالم يعلمون (لأن ذلك ذكر في كتابهم المقدس) علم اليقين بأن أرض فلسطين ليست لليهود كما سيدعون، وأن هذه الأرض تسمى بالأرض المقدسة وأن اليهود هم من ادعوا باطلا على سيدنا عيسى عليه السلام في بدايات دعوته للمسيحية والذي أدى إلى تشجيع فكرة صلب المسيح على يد الجنود الرومان في ذلك الوقت.
ولهذا السبب فقد أطلق اليهود برنامجا لتغيير بعض المعتقدات في الديانة المسيحية وذلك بإدخال بعض التحريفات في الكتاب المقدس "الإنجيل" كما فعلوا ذلك من قبل في "التوراة". وقد ساعدهم على ذلك سيطرت اليهود على مطبعة جامعة اكسفورد ووجود أحد قدماء المحاربين في الحرب الأهلية الأمريكية ويدعى سيروس سكوفيلد وهو يتصف بالمرونة الكبيرة والطواعية العمياء وقد كان مغمورا نوعا ما.
لقد خطط اليهود للعمل على تغيير النظرة المسيحية للصهيونية وذلك من خلال إدخال وتعزيز بعض التراثيات اليهودية والأفكار الصهيونية على "الإنجيل". وهنا جاء دور سكوفيلد ليعيد كتابة إنجيل الملك جيمس في سبيل إدخال بعض التفسيرات والملاحظات بين فقرات وفصول "الإنجيل" وهوامشه الجانبية والمتواجدة في قاع الصفحة وقد سميت بإنجيل سكوفيلد. وقد تضمنت هذه الملاحظات والتفسيرات كتابات تربط ما بين المسيحية واليهودية لكي تظهر الوجه الجميل لليهودية والصهيونية فيما يخص المسيحية وذلك لخلق مذهب مسيحي بروتستانتي يقترب بشكل كبير من اليهودية ويتوافق معها بتشددها وتشدقها بالأطماع.
إن الصهيونية نجحت وبشكل كبير على تحقيق هذا المأرب على مدى أكثر من قرن ونصف وهي تقطف الثمار الآن، حتى أن إنجيل سكوفيلد أصبح الأكثر مبيعا في أمريكا على مدى أكثر من 80 عاما وقد تغلغل بدرجة كبيرة بين أوساط جميع الفئات العمرية في هذا المجتمع وقد ساعد على ذلك صعوبة التفسير من إنجيل الملك جيمس عند قراءته ولسلاسة إنجيل سكوفيلد الذي يكتفي كل من يقرأه بالملاحظات والتفسيرات التي أضافها سيروس سكوفيلد على النسخة الأصلية الصعبة. وبهذا نرى اليوم المجتمع الأمريكي على ما هو عليه من شتات وضياع واندثار للقيم الأخلاقية والذي بكل تأكيد لن تبقي أمريكا عظيمة لفترة طويلة كما تمناها المؤلف الفرنسي أليكس دي توكفييه.
وهذا بدوره ينطبق على المسلمين، فالصهيونية تدرك أن إذا ما تمسك المسلمون بكتابهم وسنة نبيهم فلا سبيل لهم للنجاح والوصول إلى تحقيق أطماعهم بالسيطرة على العالم كله. فهم نجحوا برص الغرب خلفهم وهم يعملون الآن على تحقيق ذات النجاح السابق في المجتمعات المسلمة ونستعيذ من بعض الأنظمة التي تساعدهم في ذلك، ولكن مسؤولية الشعوب مسألة لا تغتفر إذا ما تهاونت عن الدفاع عن الدين أو عن مقدرات أجيالهم القادمة.
&
مدير مركز معلومات صحيفة السياسة الكويتية