رضا الأعرجي
&
لم تثمر السياسة العراقية سوى سلسلة من الأخطاء والمفاجآت والافتراضات الناجمة عن عدم القدرة على التنبؤ والجهل الفادح بالمتغيرات. وما يحصل الآن، وبعد أكثر من عشر سنوات على فشل مغامرة غزو الكويت، هو مراوحة في المكان، وتعلق مثير للدهشة بذات الأفكار والأوهام والنوايا والأهداف التي قادت العراق إلى مأزقه الحالي الذي يتخبط فيه.
&فما وقع للعرب في الثاني من أغسطس 1990، حين اخترقت الدبابات العراقية حدود الكويت، كان حدثا مفزعاً أعادهم إلى نقطة الصفر، وزاد من التمزق الذي كانوا عليه، كما أضاع ممكنات ووسائل بناء نهضتهم وتطورهم بهدر الثروات ورهن ما تبقى منها لمدى غير منظور. وتكفي الإشارة إلى ان كلفة تلك الحرب التي فرضها النظام العراقي عن سابق إرادة وتصميم بلغت 676 مليار دولار، عدا الخسائر النفسية التي مازالت تجثم بكوابيسها السوداء على صدر الإنسان العربي في كل مكان.
ولكن رغم كل ما عرف عن تلك الحرب، وعن الجهود التي بذلتها مختلف الأطراف العربية والدولية لتلافيها وتدارك أخطارها. ولاحقا، التخلص من آثارها الممضة سياسيا واقتصاديا ونفسيا، فان مواقف النظام العراقي وحده مثٌلت وما تزال تمثل امتحانا جدياً للعقل والمنطق والإدراك الواعي، حيث طغت الرؤية الغوغائية المماحكة والقاصرة في طرحها ومعالجتها وتصورها الأخلاقي على تلمس الطريق الصحيح، فضلا عن التمسك بذرائع الغزو وتبرير ما انطوى عليه من تضليل وتلاعب مقصودين بعواطف البسطاء من المواطنين العرب.
وها هو نظام بغداد يحاول تصحيح الخطأ بخطأ أفدح من سابقه، أو كما يقول المثل العراقي "راد ايكحلها عماها"، حين تصور انه برسالة متأخرة جداً بحسابات الزمن، وملتبسة بقياسات السياسة، يستطيع التخلص من الأطواق المضروبة حوله، وأن يسجل هدفا في مرمى الجار الجنوبي، وبالتالي، أن يكسب جولة جديدة في رهانه الدائم على البقاء في السلطة.
لاشك، ان لكل منا حقه في الدفاع عن مواقفه بما في ذلك نظام بغداد، ولكن ليس بالتحريف والتزييف والتفسير العجيب للوقائع كما تجسد في رسالة رأس النظام إلى الشعب الكويتي، ذلك ان "حسنة" الاعتذار سرعان ما تم محوها بسيل من "السيئات" أقلها التحريض على الإرهاب ومحاولة الفصل بين الشعب الكويتي وحكامه، بل الفصل بين الشعب نفسه على طريقة بن لادن والبنلادنيين، حيث فسطاط الأحرار وفسطاط الأشرار!!&
مرة أخرى، تتكشف "استراتيجية" الهدم والتدمير وإبقاء فتيل الأزمة مشتعلا بسجالية مغلقة ومغلوطة، وخالية من أبسط الحقائق!!
ومرة أخرى، يتوهم نظام بغداد، انه باللف والدوران، والتلاعب بالألفاظ، يستطيع صرف الأنظار عن سياساته الطائشة وما ألحقته من أضرار فادحة بالعراق والأمة العربية. فثمة بون شاسع بين الرؤية القومية الصادقة، والإيمان بها وتجسيدها قولا وفعلا، وبين اعتبارها وسيلة خلاص، كلما ضاقت السبل واستنفذت الشعارات قدرتها على مواجهة الواقع ومتغيراته.
&فالرئيس العراقي صدام حسين برسالته الموجهة إلى الشعب الكويتي والتي هللت لها الفضائيات إياها والأسماء ذاتها، لا يختلف بشيء عن ذلك الطبيب في مسرحية (الدكتور كنوك)، إذ ينشر الوهم بالمرض، ويبيع الأوهام مقابل أن يقبض شيئا. وما أكثر الذين يبيعون الأوهام والأحلام هذه الأيام، ويتاجرون بآلام العراقيين ومعاناتهم !!
والواقع، لم نضع في التوقعات أن يباغتنا الرئيس العراقي بخطوة شجاعة تحرر تفكيره من أوهام الأيديولوجيا وجهالاتها، ومن طواحين الهواء والأعداء الأشباح الذين يخترعهم كلما أحس بعجزه وقلة حيلته، إلا أنه أشعرنا لأول مرة، ربما دون أن قصد، بتهدم أسوار قلاعه وافتضاح هشاشتها، والأهم من ذلك، مدى الانهيار الذي بلغه نظامه، حيث بدا كالممثل في نهاية استعراضه الطويل.
فهذه الرسالة، فضلا عن كونها تكريساً لحالة التصدع والانشقاق في الصف العربي، تثبت بوضوح ان نظام بغداد قد فقد نقطة الارتكاز الضرورية لاستمراره، وان مرحلة الانهيار باتت وشيكة جدا، فهي أشبه ما تكون بالإشارة التي يبعثها الغريق طلبا للنجدة.
ولا نضيف جديدا، إذا قلنا ان نظام بغداد لم يظهر حتى الآن الفهم الصحيح للواقع ومجرياته، وبدلا من ذلك يعمد إلى فرض قوانينه الخاصة على هذا الواقع، وحين يفشل في ذلك، يبدأ في البحث عن مخرج. ولكن هل تنفع رسالة متأخرة وملتبسة في إيجاد باب خلفي للمأزق الكبير؟
&

صحفي عراقي ـ كندا
[email protected]