فيصل يوسف
&
إذا كان المجتمع المدني الذي يحتل موقع الصدارة في التحليلات الاجتماعية والسياسية في أحد عناصره الرئيسة إقراراً بالتنوع والتمايز؛ من خلال ممارسة الفرد المواطن لحقوقه دون النظر لأي اعتبار سوى انتمائه الوطني، فإن ما يدعونا- كمواطنين أكراد- السعي الحثيث لإعادة إحيائه ينبع من حرماننا لحقوقنا الوطنية في ظل غياب المجتمع المدني في البلاد ومبدأ المواطنة المستمدة منه.
إن تغييب ثقافة الوطن والمواطن أولا، وما نجم عن ذلك من حرمان الأكراد لحقوقهم القومية، بسبب اتباع معيار الولاء الإيديولوجي الحزبي في العلاقة مع المواطنين، قد أحدث ضرراً بالغاً في العلاقات الوطنية العامة وعلى صعيد وحدة المجتمع السوري وقوة تماسكه. فالمواطنة، تعني تشارك عدد من الأفراد المواطنين في العيش معاً على أرض محددة وفي مكان واحد أي في وطن واحد، ويشكلون مجتمعاً معيناً أو دولة واحدة بالمعنى الحديث، وقد ورد في دائرة المعارف البريطانية بأن المواطنة هي علاقة فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة وما تتضمنه تلك العلاقات من واجبات وحقوق في تلك الدولة، أما موسوعة كيلر الأمريكية فتشير إلى أن المواطنة أكثر كمالاً من العضوية في المشاركة السياسية، فالمواطن يدين بالولاء التام لدولة وهو يتمتع بكامل الحقوق المدنية والسياسية؛ فحقوقه وواجباته تكون عادة أكثر شمولية من الأشخاص الآخرين ضمن سيادة دولة كالأجانب، أو الأشخاص، الذين يقيمون في بعض المناطق المستعمرة، أو التابعة التي لا تتمتع بالوضع القانوني للمواطنة الكاملة.
لقد أدرك المفكرون والمهتمون بقضايا الوطن والأوطان، بأن الإنسان لا يتكون في الفراغ ولا يكون على ما هو عليه، إلا لأنه يعيش في شروط اجتماعية، واقتصادية، وثقافية معينة، يكون لها الدور الكبير في صياغته على هذا النحو، أو ذاك، لكن ما أن تصاغ تلك الشخصية على نحو ما، حتى ترتد إلى المجتمع الذي صاغها كي تسهم في الارتقاء مجدداً بالشروط المذكورة، بحيث يتحقق لكل الأفراد المزيد من الارتقاء وهكذا دواليك، إن القاسم المشترك في عصرنا الراهن المعبر عن وجود قناعة فكرية وقبول نفسي والتزام أساسي بمبدأ المواطنة، يتمثل في التوافق المجتمعي على عقد اجتماعي، يتم بمقتضاه اعتبار المواطنة وليس أي شيء آخر عداها هي مصدر الحقوق ومناط الواجبات بالنسبة لكل من يحمل جنسية الدولة دون تمييز ديني أو عرقي بسبب الذكورة أو الأنوثة ومن ثم تجسيد ذلك التوافق في دستور ديمقراطي. إن أول دستور سوري في عام 1918م ومن بعده دستور عام 1928م قد انطلقا من الواقع التاريخي المستجد، الذي كان يمكن وصفه بأنه كان حالة تحول من مفهوم الرعية إلى مفهوم الجنسية الذي أسست له الدولة الوطنية، وبموجبه اعتبر السوريون لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفي ما يترتب عليهم من الواجبات والتكاليف، ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الدين أو المذهب أو الأصل أو اللغة، واعتباراً من بداية الخمسينيات ومع تنامي أيديولوجيا العروبة التي كانت تنـزع إلى القول بأمة عربية وتطالب بدولة عربية تتطابق مع مفهوم الدولة/الأمة/ وبعكس المفاهيم والمنطلقات التي استمد الدستور السوري مبادئه منها، والتي كانت مأخوذة من بيان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا فقد أعيد صوغ الدولة الوطنية إلى دولة قطرية واعتبرت الرابطة القومية العربية هي الرابطة الوحيدة القائمة التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة أمة واحدة ويكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والعرقية والإقليمية.
لقد كرست هذه النظرة الأحادية على صعيد الواقع جملة من السياسات التمييزية والمشاريع العنصرية بحق المواطنين الأكراد المساهمين في بناء الدولة السورية تأسيساً وتطويراً، وسلبت معظم حقوقهم الوطنية التي عبرت عنها الدساتير الأولى في البلاد والتي كان يفترض تعزيزها وترسيخها بالتزامن مع عمر الدولة الوليدة وتفعيل مشاركة المواطنين جميعاً في قضاياها المصيرية، وبدلاً من ذلك أسقطت الجنسية عن مئات الآلاف منهم ووضعوا في دائرة الشك والريبة من قبل الجهات الشوفينية بالسلطة.
الآن وفي ظل الحوار الوطني الهادف لإصلاح يشمل مختلف جوانب المجتمع السوري، فإن حقوق الأكراد القومية والوطنية والاعتراف بها هي مدخل مهم للانتقال إلى المجتمع المدني الحديث من خلال دمج سائر الجماعات (( القومية - الدينية - الثقافية - المذهبية )) وسائر الفئات الاجتماعية في الحياة العامة على قاعدة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، ولأنه وفي ضوء الإقرار بواقع التنوع والاختلاف تتحدد السمات العامة للمجتمع ويتحدد مفهوم الدولة الوطنية دولة الحق والقانون.
من الإنصاف القول بأن قوى وطنية وشخصيات اجتماعية وثقافية، باتت تتفهم قضية المواطنين الأكراد و تطالب بإلغاء السياسات التمييزية المتبعة بحقهم، وفق مبدأ المواطنة والمساواة وإشاعة الحياة الديمقراطية، لكن فئة من المثقفين -وجلهم من دعاة الفكر القومي العربي -يطالبون بزج كل الطاقات لتحقيق هدف الوحدة العربية الشاملة، وتأجيل البت بالقضايا الأخرى راهناً، وثمة مجموعة أخرى تنشق من هذه الفئة أيضاً ترى في الأكراد مجموعة متهمين دوماً وما عليهم إلا إثبات براءتهم من النـزعات الانفصالية، وعلى أنهم ليسوا قوة معادية، وذلك عبر موقف سياسي وتنظيمي موحد، حتى يتمتعوا بحقوقهم الوطنية والقومية، وإلا فتكون النتائج سيئة عليهم وعلى من يدافع عنهم؛ بدعوى عدم الحرص على الثوابت الوطنية وعلى قدر الاحترام لما يطرح من أفكار وآراء تبغي المصالح الوطنية ؛ فإننا نعتقد بأن بناء المواقف من منطلقات نظرية سابقة دون الأخذ بالاعتبار الظروف العالمية الراهنة وبما يستوجب السعي لبناء الدولة الوطنية القومية والتي يتمتع فيها كل المواطنين بحقوقهم- ومنها بلادنا سوريا -ستفضي إلى نتائج عكسية نحو تحقيق الوحدة العربية الديمقراطية على أسس متينة ينشدها كل المواطنون.
إن حشر الأكراد جميعاً في حزب واحد، أو هيئة واحدة، أو موقع واحد، فيه من الظلم والإجحاف على شريحة من المواطنين يحملون الهوية الوطنية قبل أي صبغة أخرى، ومن حقهم مثل غيرهم من أبناء البلاد التنعم بحرية الفكر والرأي والممارسة الديمقراطية ؛دون حواجز أو مواقع، كما ينشدون الرخاء الاقتصادي وهم يختلفون في الرؤى والتصورات الإيديولوجية والقومية، ومثلما يطالب الديمقراطيون بتعددية سياسية داخل البلاد، فان هذا ينسحب على الأكراد أيضاً -من حيث هم جزء من المجتمع السوري- ويحق لهم العمل ضمن المجال الوطني الأرحب والأوسع، بعد تمتعهم بحقوقهم القومية الوطنية كاملةً، وأن من يطلب لهم غير ذلك يختلق لنفسه الوصائية الوطنية ليأمر بالمعروف لوطن على مقاسه وينهى عن منكراته فقط، ويروج لعقيدته دستوراً للبلاد وما على الآخرين إلا الانصياع والطاعة.
إن تغيب مفهوم المواطنة في بلادنا، ومنذ عقود عديدة، والتعامل مع الأكراد من نظرة قومية عصبية ضيقة خلق حالة موضوعية في ان يدافع الأكراد عن أنفسهم في أحزاب قومية صرفة، تماثلاً لما هو معمول به من ممارسات سياسية وثقافية كانت سائدة حينذاك وفي غياب الصمت المريب، لأغلب المثقفين العرب والأحزاب الوطنية حيال ما كان يطبق بحقهم من سياسات ظالمة لا تزال آثارها بادية للعيان.
كثيراً ما نتساءل عن موقف كردي موحد، وهذا مطلب محق حيال المظالم المتبعة بحق المواطنين الأكراد، كما هو مطلوب من مختلف القوى الوطنية والديمقراطية، أما فيما عدا ذلك فما يجمع الكردي والعربي وكل السوريين في القضايا الوطنية، ربما هو أوسع بكثير مما يجمع بين الكردي/ والكردي، وأنه ليس من العدل أن تثور ثائرة من هو ذو شأن وطني لرأي يصدر عن مواطن كردي، يخالف القاعدة العامة ويطلب من الأكراد جميعاً إدانته مثلما لا يجوز إسقاط هذه الحالة على غيره من السوريين العرب أو سواهم. فالأكراد السوريون هم مواطنون في دولتهم، وليسوا رعايا، ولهم حق التمتع بحقوق المواطنة كاملة، حتى وان لم تكن لهم أحزاب سياسية خاصة بهم، وان تناول هذه المسألة وفق منظور المواطنة الصحيحة لكفيل بتعزيز روح التآخي بين أبناء الوطن الواحد، ونبذ التعصب، والكراهية، وصولاً لإنتاج مفهوم متطور وواع للهوية يتطابق مع جغرافية وثقافة البلاد.
ختاماً فإنني أكرر ما قاله الكاتب جاد الكريم الجباعي في ندوة عن الأكراد بدمشق : مسؤولية رفع الظلم عن الأكراد انما تقع على عاتق المواطنين العرب، ولا سبيل إلى رفعه إلا حين يعي المواطنون العرب أن قضية الأكراد في سوريا هي قضيتهم جميعاً وأن الحيف الذي يقع على الأكراد بصفتهم القومية هو انتقاص من كرامتهم الوطنية بل إهانة للكرامة الوطنية.
فليستمر الحوار مادام ان مبتغانا الأول والأخير فيه هو الوطن والمواطن....وهذا سبيلنا ولا شيء... آخر.
&
نـص لمداخلة ألقيت في ندوة طاولة مستديرة جرت في مدينة القامشلي بحضـور مختلف القوى السياسية والثقافية بمحافظة الحسكة حول معاناة المواطنين الأكراد السوريين.