وائل الحجار&
&
اذا كانت هجمات الحادي عشر من أيلول أثّرت بشكل كبير على طبيعة العلاقات السياسية في العالم، وكرّست دوراَ استثنائياَ للولايات المتحدة الأميركية بكونها القوة العظمى الوحيدة ، فان التطورات التي اتصلت بهذا الفعل، وتبعته، شكلت بدورها فاصلاً رئيساً وظاهراً بين حقبتين، ومؤشراً على تمادي "الصراع" وتوسعه الى مجالات غير مسبوقة: التربية والثقافة كجزئين من الخطاب الأيديولوجي للقوى المتناحرة.
&
يحلو لادارة الرئيس الأميركي جورج بوش، ومعها معظم منظري السياسة الأميركية، أن يؤكدوا وجود هذا الصراع، بين منظومتين أخلاقيتين تتناقضان في النظرة الى مختلف شؤون الحياة، والسياسة، والاقتصاد،الخ.. وتتماثل الدعاية الأميركية في ذلك، مع خطاب الاسلاميين الراديكاليين، الذين يعلنون جهادهم المقدس على الصليبية الأميركية وحلفائها في الغرب.
&
وحدهم، الذين يتمسكون بنظرية المؤامرة في تفسير ما جرى ويجري اليوم في العالم، يقللون من شأن الأيديولوجيتين.هؤلاء يذهبون الى نفي المضامين السياسية والثقافية للحركة الاسلامية المقاتلة، ويتبّعونها الى ضروب من خطط سرية صنعت وأعدت في غرف مغلقة لأجهزة المخابرات. هذا الادعاء، بغض النظر عما اذا كان يحوي بعضا من الصحة أم لا، يبقى قاصرا عن تفسير العديد من الظواهر التي يشهدها العالم اليوم، وخصوصا منطقتنا العربية والاسلامية. وهو لا يقدم أجوبة وتفسيرات منطقية، عما جرى مؤخرا من تفجيرات وهجمات طاولت أهدافا أميركية وغربية، ولماذا مثلا نجد شبانا من عائلات خليجية ميسورة مستعدين لشن هجمات بوسائل بدائية بناء لاشارات معممة التقطوها على شبكة الانترنت، ولماذا وكيف يغامر اسلاميو اندونيسيا بفقدان امتيازاتهم السياسية اذا هم انخرطوا في حرب بن لادن على اميركا، ولماذا ترفع صور هذا الأخير في غزة بينما يكاد معظم القادة والمحللين يجزمون أن بن لادن نفسه سبّب ضررا فادحا للقضية الفلسطينية...
&
هذا التفسير لحركة الاسلاميين، والذي يقتصر على ادراجهم في خانة العمالة المباشرة، لا يبدو فقط عاجزا عن تقديم الاجابات الضرورية التي تجعل من أفعالهم أمورا مفهومة بمعناها السياسي، بل انه اجترار ونسخ للموقف القومي الذي ساد طيلة عقود في عالمنا العربي تجاه التيار الاسلامي بمجمله، وهو موقف يتلاقى في دلالاته، وان تناقض في الظاهر، مع التفسير الأمني لظاهرة الاسلام السياسي الراديكالي والذي يكاد يختصر عنوان حركتهم بكلمتين: التكفير والهجرة. فكلا التفسيرين يعممان صورة واحدة عن هؤلاء: هامشيين، منفعلين لا فاعلين، وقابلين للاستخدام. والأهم، بعيدين عن السياسة.
&
بينما حقيقة ما جرى ويجري منذ سنوات من حرب ضارية بين الولايات المتحدة والأنظمة من جهة، والاسلاميين الراديكاليين من جهة أخرى، لا يعطي لهذا التفسير المبتور الصدقية اللازمة.
&
ان أي حركة سياسية مهما كان حجمها ووزنها ليست بمنأى عن أي استخدام، هذه حقيقة لا يناقضها ارتباط السياسي بعمل الحركة، واستقلاليتها، ووجود كيان ذاتي لها. وهكذا، ان نظرة أخرى لحركة الاسلام الراديكالي لا بد أن تخلص الى استنتاجات مغايرة للمنطق الذي يصر على نفي السياسي منها. كذلك، لا يمكن اختصار حركة هؤلاء الاسلاميين بتهمة التكفير والهجرة.
&
ان وثيقة خرجت في الذكرى الأولى لهجمات 11 سبتمبر، تظهر بشكل أو بآخر معالم وخطوط منهج سياسي للتيار الاسلامي المقاتل، الذي يلتف حول منظمة القاعدة بزعامة أوسامة بن لادن. الوثيقة التي ظهرت في كتاب ملحق بصحيفة الأنصار، وهي مجلة يصدرها اسلاميون متشددون في أوروبا، تلخص الاستراتيجية السياسية لمنظمة القاعدة وتحالفها المنضوي في اطار الجبهة الاسلامية العالمية. تفيد قراءة للوثيقة، بمعزل عن الجانب الفقهي فيها، وهو فقه يجمع بين السنية السلفية لبن لادن، وفكر واجتهاد سيد قطب (تأثير جماعة الجهاد المصرية)، في تلمس المنهج السياسي لهذه الحركة، ومفاهيمها الأيديولوجية.
&
تركّز الوثيقة في شقها الأول على تبيان السياق التاريخي للأحداث التي تعلن منظمة القاعدة تبنيها: سياق لا يختلف عما رصده الاعلام: انفجار الخبر في الرياض.. تفجير سفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا ونيروبي.. الهجوم على المدمرة كول في عدن.. وصولا الى "غزوة 11 سبتمبر"..وهذه "الغزوة" هي جزء من طبيعة العلاقة بين المعسكرين: "هي طبيعة العلاقة بين الحق والباطل". لكن تحديد مفهوم الحق والباطل لا دخل ظاهريا فيه للتقييم البشري "فالعداوة القائمة بين المعسكرين والطبيعة الراسخة لعلاقة الحق والباطل هي المحركات الأساسية للصراع"، هذا الصراع هو "حقيقة قدرية".
الحقيقة القدرية التي يدعيها الاسلاميون المقاتلون لا تتناقض مع موجبات ووقائع السياسة. بنظرهم ان للغزوة علاقة وثيقة أيضا مع "مفهوم السلام العالمي". لكن الحقيقة البشرية هي أن "السلام العالمي بالنظرة الغربية عبارة عن فكرة مثالية يستغلها القادة السياسيون لتخدير الشعوب وترددها الدول القوية لتسلب الآخرين ارادة الجهاد" و"قد اشتركت في هذا التضليل أكثر الحكومات الجاثمة على صدر هذه الأمة الاسلامية (...) حتى أصبح "السلام" هو الخيار الاستراتيجي الوحيد، وألغيت كل البدائل الأخرى".&
القائمون على الوثيقة يؤكدون أن "الاسلام لا يرفض فكرة السلام العالمي. ولا يسير في اتجاهها المعاكس، فهو دين يريد نشر السلام والأمن للناس جميعا. ولكن الاسلام دين المضامين لا الشعارات الكاذبة، ودين الحقائق الواقعية لا الأماني الطائرة، ولذلك فهو يدعو الى سلام حقيقي وواقعي (...) بل ينظر الى السلام نظرة شاملة تعطى للأفراد الذين لا يحاربونه وللجماعات التي لا تقف في طريق أدائه لرسالته حق حرية الاعتقاد وتكفل لهم مبدأ العدل في القوق والواجبات".
هذه النظرة لمفهوم السلام العالمي تكشف أمرين يدعيهما هؤلاء: الواقعية السياسية، حيث السلام الذي تنادي به الدول الكبرى هو استسلام الشعوب، والبعد عن التكفير، وهو أمر غير مستجد في أركان منظمة القاعدة، فقد سبق لتنظيم الجهاد المصري الذي يترأسه د.أيمن الظواهري أن تميّز به في بيان أصدره العام 1996 سحب فيه التأييد عن المجموعة القيادية للجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر بقيادة أبي عبدالرحمن أمين (الزيتوني). ومعلوم أن الجماعة الجزائرية نحت تدريجيا الى فكر تكفيري "خارجيّ" (نسبة للخوارج) وصلت فيه الى حد درس امكانية تكفير الشعب الجزائري، (توجته ببيان عنتر الزوابري في ايلول 1997).
الحديث عن حرية الاعتقاد، للذين لا يحاربون الاسلام (أو الدولة الاسلامية)، هو تقدم نسبي خصوصا اذا عرفنا أن المذهب الغالب على الجماعات التي تتألف منها القاعدة هو سني سلفي. لكن حرية الاعتقاد ياتي ذكرها أيضا كتكريس للسياسي في منهج المنظمة، دون اغفال أن حرية الاعتقاد هذه نسبية بحد ذاتها، ودون أن يعني ذلك أن هؤلاء نحوا الى انتهاج مسلك يقترب من قبول الآخر خصوصا في مجتمعاتهم، فالآخر هنا هو النصراني أو الغريب المسالم نموذجا، وليس المسلم الممانع أو المختلف مع اسلامهم. وتركز الوثيقة على اظهار الواقعية السياسية في افعال "المجاهدين"، فتؤكد أن "الغزوة المباركة تعتبر حركة سياسية تجديدية استطاعت أن تخرج العمل السياسي التقليدي المتخلف والفاشل من عنق الزجاجة، أي من المأزق السياسي والاستراتيجي الذي يعانيه، وتؤسس في نفس الوقت لمفاهيم سياسية جديدة تتناسب مع العولمة الأميركية". كما انها تحاول اظهار التناقض بين شرعية أعمالها والشرعية الدولية فـ"المعركة الدائرة حاليا بين الشرعية الاسلامية العادلة والشرعية الدولية الظالمة، بين السيادة الأميركية وسيادة التنظيمات الجهادية". وتهدف الغزوة الى تعزيز المشاركة السياسية للشعوب "المستضعفة" فـ"الجهاد بأنواعه وأشكاله المختلفة يعتبر الصيغة الصحيحة والمثلى للمشاركة السياسية في ظل العولمة الأمركة" و"حرب الاقتصاد تؤثر في السياسة".
&
حسناً، إن مجرد ادعاء "واقعية الرؤية التغييرية" لدى منظمة القاعدة، ومنظريها، لا يعني بالضرورة أنها تقارب "الواقعية السياسية" بالمعنى المفهوم، أو الذي يقصده أخصامها. وبطبيعة الحال لا يمكن أن& تسعى إلى ذلك، وإنما إلى نقيضه. لكن هذا الإدعاء، الذي يلازم المنهج السياسي الذي تضع أسسه الوثيقة، كاف لتظهير دينامية سياسية.
هذه الدينامية، تبرز أيضاً في الشق الذي تتناول فيه الوثيقة حال الأمة. ففضلاً عن تناولها لمسألة السلام "الخيار الإستراتيجي" الخاطىء عند الأنظمة العربية، تفنّد ادعاءات التأثير السلبي لـ"الجهاد" في العالم على القضية الفلسطينية، حيث أنه "بدون الإطاحة بأميركا-أو على الأقل إضعافها لتنشغل بنفسها- لا يمكن أن تحل القضية الفلسطينية".
وتبدو "واقعية" المنهج في استفادته من أخطاء التجارب السابقة، أكثر تجلياً في الحديث عن الموقف من جهاد الأنظمة فـ"الصراع مع أذناب أميركا في المنطقة الإسلامية بيّن أن هؤلاء الأذناب لا يستطيعون البقاء دقيقة واحدة في حكمهم الطاغوتي دون مساندة أميركا. ولذلك لا بد من ضرب الرأس لأنه العامل الأساسي في سقوط الباقي. كما إن خيار استهداف أميركا مفهوم ومقبول على طول الأمة الإسلامية وعرضها لعلم الجميع بما اقترفته أميركا من جرائم في حق الإسلام والمسلمين، وهذا ما يضمن التعاطف والتأييد الشعبي".
وعلى عكس الأداء العام الذي يطبع عادة ممارسة التنظيمات الإسلامية الراديكالية، فإن واضعي الوثيقة سعوا إلى تقديم سياسة قابلة للإنفتاح على خيار تعاوني - نظرياً- مع فئات غير إسلامية، إذ لم تكتف الوثيقة بإباحة حرية الإعتقاد لمن لا يحارب الإسلام، وإنما تناولت مفهوم مواجهة العولمة على المستوى الأممي، فهي تنوه صراحة بـ"موجات مناهضة العولمة الأميركية" التي بدأت تتسع "وظهر ذلك جلياً في المظاهرات الكثيرة التي شهدتها أميركا نفسها، وكذلك أوروبا وجنوب أفريقيا" وترى أن هذا الرفض الشعبي المتعدد المشارب "مثقفون، مهتمون بالبيئة، معارضو الحروب"، نموذج "للوعي الشعبي العالمي تجاه السياسات الأميركية".
هذه بعض ملامح خطاب تدعيه "الجبهة الإسلامية العالمية" التي أعلنها بن لادن من الإمارة الإسلامية في أفغانستان في فبراير 1998، والتي تفصّل الوثيقة أنها كانت إئتلافاً بين منظمة القاعدة، وأمير جماعة الجهاد المصري د.الظواهري، ورفاعي طه أحد مسؤولي "الجماعة الإسلامية المصرية"، ورئيس أحد الفصائل الكشميرية، وأحد القيادات الباكستانية. ومن خلالها يمكن تلمّس الأداء الحالي لمنظمة القاعدة التي تمد شبكة علاقات وثيقة مع العديد من "الحركات الجهادية" في العالم، والتي تحظى بنفوذ واسع داخل التيارات الإسلامية على امتداد العالم، وتسعى لإقامة تواصل مع حلفاء طريق كما في نضال الطالبانيين ضد الوجود الأميركي في أفغانستان، وتعاونهم مع زعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار، وتقدم جهاد أميركا على جهاد الأنظمة في الوقت الحاضر.
منظمة القاعدة لم تنته، حتى وإن تعرضت إلى ضربة قاصمة، فتأثيراتها تتجلى في اتساع نفوذها الأيديولوجي وتمكنها من اكتساب آلاف الناشطين الإسلاميين الذين تمردوا على "فقه السلطان"، والذين ينهلون من منابع ثقافية هي الأساس المادي والفكري الذي تقوم عليه المؤسسة الدينية الرسمية في العالمين العربي والإسلامي، وهي المؤسسة التي أظهرت الأيام والمستجدات في زمننا الراهن أنها كانت ترفد وتدعّم بشكل أساسي من أنظمة حكم استخدمتها لمحاربة التيار القومي التحرري في العالم العربي، وهي لا تزال منبعا لفكر ديني لا يولّد الا تمظهرات كتلك التي يعبّر عنها المنتفضون من اسلاميي القاعدة. وتستفيد القاعدة من غياب مشروع متكامل لمناهضة "العولمةالأمركة"، ومن هزيمة التيار القومي التحرري والتي كانت مساهمة في الحرب عليه، لتطرح مشروعها الذي يبدو مقنعاً لأجيال عربية تتطلع إلى الخلاص من ازماتها الراهنة، ومن إحساس يتزايد باضطراد بالذل والعبودية. كما تستفيد من إسقاط خصمها قيماً أخلاقية على حروبه الإمبريالية.
لكن تناول الموضوع من زاوية أن التيار الإسلامي المقاتل سبب الأزمة الراهنة التي يعانيها العالم العربي والإسلامي هو عكس الحقيقة. فهذا التيار وحركته السياسية هي مظهر ونتيجة الأزمة وليس مسبباً لها بالمطلق. والإكتفاء بإضفاء صفة التماثل على سياستي وأيديولوجيتي الولايات المتحدة الأميركية ومنظمة القاعدة، يشكل تماثلاً بحد ذاته مع المنطق الأيديولوجي الذي يستخدمه الأميركيون والإسلاميون على حد سواء.
التحدي الذي يطرحه التيار الإسلامي المقاتل على النخب السياسية في العالم العربي والإسلامي، يتمثل في إنتاج مشروع تحديث متقدم يقدم حلولاً واقعية للأزمات السياسية والإقتصادية والثقافية، وللعلاقة مع الغرب والموقع في النظام العالمي. هذه النخب متأخرة عن اللحاق بمبادرة التيار الإسلامي، إنها تكتفي بطرح شعارات الديمقراطية والتنمية والإصلاح.. حتى بعضها، ومنها بعض الاسلاميين أنفسهم، تقتصر حركته السياسية على عداء الغرب وأميركا.. لكن أي مشروع إن افتقد حاضنته وحاملته ينتفي وجوده. أما الإكتفاء بمجابهة هذا التيار من خلال الإدانة الأخلاقية لأفعاله، و"تكفيره" واتهامه بالعجز.. فهو لا يعدو إخفاء للعجز الحقيقي عن أي مبادرة سياسية، وايغالا في سياسة لا تقيس عواقبها المستقبلية.
فالحرب المعلنة اليوم من الأنظمة والنخب السياسية العربية على حد سواء، على الاسلاميين المقاتلين تغفل أن تضع أمام الشعوب بديلا واقعيا للأوضاع العامة في منطقتنا، وتعتمد الاستئصال الأمني والسياسي منهجا، في حين ان المطلوب محاكاة خطاب جريء يطرح المشكلات التي تعانيها الشعوب كما هي، والبدائل الممكنة، ولا يعيد تأجيج صراع يًضيّع فيه الحس النقدي للانسان العربي، الذي ينوء تحت عبء تجارب تحررية هزمت، وتحت ثقل أنظمة لا هم لها الا استيلاد نفسها، والحفاظ على السلطة، بعدما خسرت مشروع الدولة، وهذه البدائل لا يجب ولا يمكن أن تكون تخييرا قسريا بين تمديد لتبعية مزمنة أو الالتحاق بمنهج الاسلاميين..&
&
صحافي لبناني