نبيل عمر
&
كلما ركبت الطريق إلى مدينة الإسكندرية يتقافز قلبي من بين جوانحي مثل عصفور عائد من رحلة هجرة إلى موطنه، مع أنني لم أسكن هذه المدينة الساحرة أبدا، أتردد عليها فقط مرتين أو ثلاثا في السنة، أقضي بها عدة أيام لم تزد أبدا في أكثرها على أسبوعين، صاحبني هذا الإحساس منذ أول زيارة لها في متصف الستينيات وأنا صبي صغير، وظل يلازمني حتى الآن سواء كنت ذاهبا للعمل أو للفسحة!
عاد إلى هذا الإحساس صباح الثلاثاء الماضي فتيا عنيفا، واللافتات المتلاحقة على جانب الطريق تخبرني من بين لحظة وأخرى أن المسافة التي تفصلني عن معشوقتي آخذة في الذوبان، كنت ذاهبا إليها في ندوة نظمتها مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية بمكتبة الإسكندرية عن مصر اليوم والحوار المصري الألماني، وهي مؤسسة تعمل في مصر من ربع قرن تقريبا ومهتمة بالحوار بين مصر وأوربا خاصة ألمانيا وتدعم أنشطة متعلقة بالديمقراطية ودور المرأة بشكل أساسي!
وحين وصلت تقابلت مع صديق صحفي قديم، يتصف بقدر كبير من محاباة الحكومة وتأييد كل ما تقوم به من أعمال مفيدة أحيانا وضارة أغلب الوقت منذ التحاقه بمؤسسته الصحفية الحكومية، وجدته منطويا حائرا..ووجه إلى حيرته - بعد الترحيب والمجاملة- على هيئة سؤال: أين ذهب الرجال؟!
قلت له: ماذا تقصد؟!
قال: لم أعد أعثر على رجال يتمتعون بالجرأة والقوة ولا يسكتون على الحق ولا يكتمون ما يشعرون به داخلهم إلا نادرا..الحال يتدهور والأوضاع شبه مجمدة والأداء اليومي هابط ولا أحد يرفع صوته..بتنا جميعا مثل قوالب من الإنسان الآلي مربوطين بشيء خفي هو الذي يتحكم فينا ويعلمنا الطاعة العمياء!
قلت: الأحزاب ضعيفة والناس معذورة في الانشغال بالبحث عن لقمة العيش المراوغة سواء كانت مغموسة في صحن فول بالزيت الحار أو في طبق السيمون فيميه، أصحاب الفول لو توقفوا لحظة وسألوا عما يحدث، لن يجدوا الفول، وأصحاب السيمون فيميه لديهم كل الوقت ليسألوا لحظة وساعات، لكنهم خائفون أن فعلوا أن تضرب السلطة مصادر رزقهم الوفير بشكل أو بآخر عقابا لهم على السؤال!
باختصار أنقسم المصريون في الغالب إلى تروس في ساقية العيش والفول لا تملك رفاهية التأمل والرفض أو تروس في بلاط السلطة لا تستطيع أن تستغني عن الخدمة والفوز بنصيب من الكعكة!
فقال: أنا لا أتحدث في السياسة ولا أريد، وإنما أتكلم عن الناس في الشارع ومكتب البريد ودواوين الخدمات من أول قسم الشرطة إلى شركة المياه، الناس الذين لم تكن لهم اهتمامات عامة، قد باتوا كمن فقدوا حماسهم الداخلي، الممرض في المستشفي، الطبيب في عيادته، المهندس في موقعة، الموظف خلف مكتبه، المدير في إدارته..رئيس مجلس الإدارة في مؤسسته!
أتكلم عن حالة من الأداء الباهت الخالي من الطموح المهني والمتشبع بهوس المكاسب الشخصية حتى لو على حساب الكرامة الإنسانية!
قلت: ما تقوله هو عين السياسة، فالسياسة ليست أحزاب ومجلس شعب وانتخابات واختيار وزراء أو برامج فقط، السياسة هي حركة الناس اليومية لإشباع حاجاتهم وتطوير أنفسهم..وهذه الحركة تتطلب نظاما تعمل من خلاله وتنتج البشر القادرين على قيادتها إلى الوجهة التي توفر الأمن لهم، والأمن يشمل كل جوانب الحياة من أول أمن الوطن إلى أمن الفرد، والأمن الصحيح مرتبط بمستوى مرتفع من التعليم والصحة والإسكان والخدمات..الخ.
وعندما لا يشعر الناس بالأمن..يبحث كل فرد منعزلا عن جماعته عن "أمنه" هو دون أن يهتم بالقيم العامة، بل ويتنازل عن بعض قيمه الخاصة كالكرامة والنخوة وقول الحق والتصدي للظلم من أجل سعيه إلى هذا الأمن الفردي المحدود الذي يمتد من طبق الفول إلى السيمون فيميه!
وهذا بدوره ينعكس في أداء الأفراد داخل المجتمع، فهو أداء لا يرتبط بمصلحة الجماعة وهو جزء منها، ولكنه مشغول بالكسب الخاص على حساب الجماعة، مثل الزوغان ساعة من العمل أو تأجيل ما يطلب منه إلى الغد أو عدم الاكتراث به، أو نهب الفلوس من البنوك أو تسخير المؤسسات لمصلحة من يرأسونها..وهكذا!
هز صديقي رأسه وهو بين التصديق وعدم التصديق وذهبت أنا إلى الفندق الذي أنزل فيه!
استقبلني الصباح بأمطار غزيرة مسحت ببراءتها بعض الأسى الذي خلفه الحوار عن غياب "الرجال" في مصر، ثم مسحت كلمة الدكتور إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية بعضا أخر، فقد كانت مفعمة بالتفاؤل والأمل وهو يردد أن مصر قادرة على تجاوز مشكلاتها وبها من الإمكانات البشرية ما يمكنها من الاندماج في الاقتصاد العالمي بنجاح، لكن ما قاله الدكتور فريدمان بونتر أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الحرة في برلين أعادني إلى نقطة البدء من دائرة الأسى، بالرغم من أنه لم يقل شيئا سلبيا، وإنما كان يتحدث عن تجارب زياراته لمصر التي زادت على الخمسين منذ عام 1958 وإلى الآن، وذكر الإصلاح الزراعي والتعاونيات والسد العالي والتغيير الكبير الذي أصاب كل مناحي الحياة، وكيف تطورت البنية الأساسية وتحسنت المساكن وأوضاع المرأة، لكن هناك أيضا مشكلات مثل تضخم عدد السيارات وتلوث الهواء وضعف مستوى التنمية، وحين قال: في الماضي لم أكن أقطع تذكرة القطار مقدما للذهاب إلى الصعيد، والآن أقطعها وهذا شيء جميل لكن حال السكك الحديدية أسوأ من الخمسينيات والستينيات!
تحديدا هذه الجملة أوجعت قلبي، لأن معناها ببساطة أن التغيير الكبير لم يتجاوز شكل الحياة إلى مضمونها، كما يقول المثل الشعبي الشهير" من بره هلاهلا ومن جوه يعلم الله"..فالسكك الحديدية لن تكون نبتا عشوائيا في غابة منظمة!
وجاء الدكتور محمد دويدار أستاذ الاقتصاد بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية ليوسع مساحة الوجع حين ضرب مثلا بالتعليم الحالي وقال إن أهدافه مازالت كما كانت في عصر الاستعمار البريطاني وهو خدمة النظام الإداري للدولة وليس تحقيق طفرة فكرية وعلمية وبحثية قائمة على الحرية، فحدث ما حدث له من تدهور!
باختصار..الشكل تغير والمضمون لم يتغير..فقد انتشرت المدارس في كل ركن وصار عدد الطلاب بالملايين..لكن الهدف ظل كما هو بينما الناتج تراجع كثيرا..أي لا فرق بين السكك الحديدية والتعليم!
وبمشرط جراح راح الدكتور دويدار يشرح جسد الاقتصاد المصري، فالكلام محكم وتشخيصه للأزمة المصرية فيه إبداع وأفكار يمكن قبولها أو الاختلاف عليها، وإن وجدت ميلا لها في عقلي، وهو يحدد أن ما نعيش فيه الآن هو نتاج أو ميراث ثورة يوليو، وثورة يوليو لا ترتبط باسم شخص أو زعيم عاش أو مات وإنما بنظام عام صنعته للإدارة والسلطة لم يتغير في جوهره بتغير الرؤساء ولكن في بعض التفاصيل الصغيرة والصورة الخارجية ليس أكثر!
ثم أضاف تفسيرا للسؤال الذي استقبلني عند قدومي إلى عروس البحر الأبيض المتوسط وهو: أين ذهب الرجال؟!
وقال إن أخطر ما صنعه نظام يوليو هو القضاء على تسييس المجتمع المصري، وإبعاد المواطن عن الانشغال بالقضايا العامة لكي تحتكر الدولة الحياة السياسية!
طبعا ما يقصده الدكتور دويدار هو أن حالة السلبية التي ضربتنا جميعا ونزوعنا إلى الانزواء وهجرة الحياة العامة أو تركها للانتهازيين وندماء السلطة إلا قليلا هي نتاج ضرب منظم ودائم "لفكرة" المواطن ليحل محله نظام "الرعية" التي لها راع يقبض بيديه على كل شئونها العامة، ويفيض عليها بمساحة شخصية تفعل فيها ما تشاء، تجلس على المقهى، تشجع الأهلي والزمالك، تناقش الأسرار الخاصة للفنانين، تنغمس في تفسير العلاقة بين الرجل والمرأة، تنشغل بالجنس والنكات والقعدات والمسامرات، تنتصب أمام مسلسلات الغباء التليفزيونية بالساعات، تهددها المخاوف على لقمة العيش ومستقبل أولادها..لكن دون الاهتمام بالسياسة إلا تحت لواء الحزب الحاكم سواء كان الاتحاد الاشتراكي في الماضي القريب أو الحزب الوطني في الحاضر!
والرعية بطبيعتها لا يهمها ما يدور في دوائر الحكم، وتفقد بالتدريج حسها العام حتى في ساعات العمل أو ساعات الترفيه مهما تحدثت عنه أو بحثت فيها..فتصبح مثل المريض المشلول يتفرج على سباق في الجري ويتحدث عن عيوب المتسابقين وسرعتهم لكنه لا يستطيع أن يحرك قدميه ويشارك..فالشلل حتى لو كان نفسيا قد سلب الحياة من قدميه!
&وفي البدء رسم إطارا نظريا صارما لرؤيته أمتد عبر قرنين من الزمان، ولخصه في أن الحاضر هو جزء من التاريخ، والحاضر هو التخلف بالمعني العلمي وليس الأخلاقي، وهو نتاج لعملية اندماج المجتمع المصري في النظام الرأسمالي دون توفر شرط شديد الأهمية هو السيطرة الاجتماعية على شروط تحديد الإنتاج المادي والثقافي، فالهروب من التخلف ليس هو زيادة الدخل ولا نقل نمط من حياة الأوروبيين ولا اللحاق بالآخرين، وإنما أن تسيطر القوى العامة المصرية بنشاطها المادي والذهني والاجتماعي على حد أدني من شروط الإنتاج!
وقال أن إدارة الموارد المصرية تقوم منذ السبعينيات على ما يسمي "باقتصاد الريع"، والريع هو هبة الطبيعة للدولة..
أولا: ريع القوي العاملة المصرية..بتشجيع الخروج المكثف لأكثر شرائح القدرة المصرية ديناميكية وكفاءة إلى الدول العربية لتستقبل الدولة "دولارات العاملين بالخارج"!
ثانيا: ريع "التاريخ الحضاري"..وهو ما يدفعه السائحون لزيارة مزارات قدماء المصريين!
ثالثا: ريع الموقع المتمثل في قناة السويس..أي الإيرادات القادمة من عبور التجارة للقناة!
رابعا: ريع البترول..وهي إيرادات بيع البترول الخام!
هذه هي موارد الدولة المصرية الأساسية خلال أكثر من ثلاثين سنة، وهي موارد لدور لنظام الحكم في صنعها لا من قريب أو بعيد، ولم ينتج نصف هذه الموارد من خطط التنمية التي نسمع عنها!
وعموما اقتصاد الريع مهدد دائما بالنضوب، ولا يصنع مجتمعا متقدما على الإطلاق!
وبإيجاز..لم تنشغل الطبقة السياسية المسيطرة بالتنمية بمعناها الحقيقي ولا بالاقتصاد في فترة من فتراتها!
ويذكرنا الدكتور دويدار بأن مسألة بيع القطاع العام مطروحة للحوار والأخذ والرد من ورقة أكتوبر في عام 1974، دون أن يصدر تشريع ينظم هذا البيع ويحدد كيف نقيم شركاته، ولمن نبيع ومتى ودور العاملين في البيع، وكيف تستغل أموال البيع..الخ، مع أن الدول التي باعت القطاع العام لديها مثل تركيا وفرنسا لم تقم بالبيع إلا بعد صدور تشريع واضح لذلك..لكننا لم نفعل لأسباب ليست تخفى على أحد!
كل ما نجحت فيه الطبقة السياسية هو صناعة أزمتين عظميين..
أزمة شركات توظيف الأموال في الثمانينيات!
وأزمة بنوك "توظيف الأموال" الحالية!
وفي نهاية حديثه ضرب الدكتور دويدار الجميع بكرة كبيرة من اليأس المزدوج حين ضغط على حروب كلماته ليجيب عن سؤال طرحته القاعة هو: هل نستطيع الخروج من الأزمة الاقتصادية!
فأجاب بحسم وصرامة: لن نستطيع..لسببين..
الأول: داخلي وهو خاص بالإدارة الحالية للأزمة وهذه الإدارة ليست قادرة ولا نظيفة اليد!
والثاني: خارجي..إذ نمر بمرحلة تهديد عسكري مباشر لكل الوجود العربي تقوده الولايات المتحدة!
وكسر طوق الأزمة يلزمه أن نغير أو نستبدل هذين السببين، ولا أري ما ينبئ بأننا قادرون على التغيير!
خرجت من الندوة مكتئبا، ورحت أمشي في شوارع المدينة حتى حان موعد حفل موسيقي لفرقة لم اسمع بها من قبل اسمها القيثارة، دخلت القاعة لأجد خليط من الأجيال على خشبة المسرح الصغيرة، فرقة من 13 عضوا، شباب وشابات في العشرينيات أو دون العشرين، ورجال ونساء في الأربعينيات أو أزيد، كلهم من أساتذة وطلبة معهد الموسيقى بأكاديمية الفنون يقودهم الفريد جميل، وهو خفيف الدم والظل وموسيقي بارع، ليعزفوا لنا ويغنوا ألحانا مهملة من تراثنا الموسيقي، وكانوا مبدعين رائعين بددوا حالة اليأس، فهم أكبر دليل على أن جعبة مصر لا تنضب وفيها الكثير..