سـلمان مصالحة
&
في البلاد الّتي تتّبع النّظام الدّيمقراطي، حيث يتمّ فيها تداول السّلطة عبر صناديق الإقتراع، يمكن من النّاحية المبدئيّة وضع الأنظمة والشّعوب في هذه البلاد في سلّة واحدة. إذ أنّ الشّعوب تنتخب ممثّليها وحكوماتها بشكلّ حرّ تقريبًا، والقضيّة هي قضيّة نسبيّة في النّهاية إذ يمكن استبدال الحكومات دوريًّا كلّ بضع سنوات إذا شاء النّاخب ذلك طبعًا. ورغم ما قد يُنسَب إلى النّظام الدّيمقراطي من جوانب سلبيّة أحيانًا، إلاّ أنّ المجتمع البشري على العموم لم يصل بعد إلى صيغة مدنيّة أفضل من هذه الصّيغة. والواضح أيضًا هو أنّ البلاد الّتي تتّخذ هذا النّهج هي البلاد الّتي تتطوّر على جميع الأصعدة.وإذا نظرنا إلى العالم من حولنا نرى أنّ الصّيغ الأخرى قد أثبتت فشلها في جميع المجالات وفي جميع البلدان.ولـمّا أنّا مهمومون بالأقربين، وهم أولى بالمعروف كما ورد في الكلام المأثور، فيعرف الجميع أنّّه لم يتمّ تبنّى النّهج الدّيمقراطي في أيّ من بلاد العرب.
هنالك أسباب كثيرة لهذا الوضع المأساوي، غير أنّنا يمكن أن نُجمل هذه الأسباب في نهجين اثنين كلاهما يوصل إلى طريق مسدودة. النّهج الأول هو النّهج القبلي العربي وهو سابق للإسلام ومناقض له في جوانب كثيرة. فقد حاول الإسلام منذ البداية القضاء على هذا النّهج فأفلح مدّة وجيزة فقط، ولكن سرعان ما ثارت النّعرات القبليّة المتجذّرة في المجتمعات العربيّة التي قبلت الإسلام. نستطيع أن نسمع أصداء هذا التّوتّر القائم بين النّهجين وهي تتردّد منذ فجر الإسلام على لسان الرّسول العربيّ: "من كان في قلبه حبّة من خردل عصبيّة بعثه اللّه يوم القيامة مع أعراب الجاهليّة".& من هذه الأقوال ومن غيرها لاحقًا نفهم أنّه سرعان ما وجدت هذه النّعرات القبليّة طريقها إلى الفقه السّياسي فجيّرته لصالحها، وصار الصّراع على الخلافة صراعًا قبليًّا بحتًا مدعومًا بروايات صحيحة ومدسوسة من قبل علماء القبائل، فتجذّرت بذلك العقيدة القبليّة وصارت جزءًا لا يتجزّأ من العقيدة الدّينيّة في المجتمعات الإسلاميّة. وعلماء القبائل هؤلاء في الماضي لا يختلفون في عصرنا هذا عن علماء دور الإفتاء السّلطويّة في الممالك والجمهوريات الوراثية العربيّة.
القرون الماضية لم تشهد ثورة حقيقيّة في الفكر العربي الإسلامي، بل على العكس من ذلك فقد استمرّ النّهجان في توتير المجتمعات العربيّة، بحيث يُحيّدُ كلّ نهج منهما الآخر وتبقى الشعوب العربيّة في خانة الجمود والرّكود لا تستطيع الفكاك منها. في حال كهذه، آن الأوان للبحث عن طريق ثالثة، ولكي يُكتب لهذه الطّريق النّجاح عليها أن تكون نابعة من صميم المجتمعات العربيّة والحضارة الإسلاميّة. لا يمكن استيراد هذه الطّريق من مكان آخر، بل يجب على النّخب العربيّة بلورتها من داخل المجتمع العربي والإسلامي.
من أجل الوصول إلى هذه الطّريق واجب على النّخب الفكريّة العربيّة العلمانيّة واللّيبراليّة أن تدعو إلى تعميق دراسة التّراث العربي والإسلامي، وأن لا تبقيه حكرًا على المشيخات. هنالك حاجة قصوى لدى العلمانيين واللّيبرالبيين أن يغرسوا في الأجيال العربيّة الجديدة معرفة عميقة عن الإسلام الحضاري، أي إلى تعميق المعرفة بكلّ الأطياف العقائديّة والفلسفيّة دون حذف وشطب وإعمال رقابة على هذه الأطياف الكثيرة والمتنوّعة. في الحضارة الإسلاميّة الكثير الكثير ممّا يدفع العقل إلى التّحرّر من كلّ ما هو متخلّف فكريًّا، وفيها الكثير من الفلسفة والمنطق والكلام، وفيها الكثير من التّناقضات أيضًا، وكلّ هذه هي الحضارة العربيّة، ولا فضل لواحدة على الأخرى. الملاحَظ في العقود الأخيرة أنّ الأجيال العربيّة الجديدة لا تقرأ الإسلام إنّما تسمعه عبر أشرطة وتسجيلات وما إلى ذلك من إسلام شعبي وفولكلوري. يجب التأكيد على القراءة المتعمّقة لجميع الأطياف في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، إذ أنّ بداية هذه الدّعوة المتجدّدة يجب أن تكون: اقرأ. إذ أنّ القراءة هي تفعيل للعقل بينما الإستماع للتّسجيلات ومشاهدة الشّاشات هي تخبيل لهذا العقل تصل درجة التّهبيل.
ومع هذه الدّعوة إلى تعميق المعرفة بالحضارة العربيّة الإسلاميّة يجب أن يُضاف إليها دعوة أخرى هي الدّعوة إلى فصل الدّين عن الدّولة في البلاد العربيّة.هنالك نقطة في غاية الأهميّة تخصّ العالم العربيّ، ودون التّطرّق إليها بوضوح وجهرًا لا يمكن الوصول إلى إجابات وافية. الحكّام العرب أجمعين ليسوا بأيّ حال من الأحوال علمانيّين، كما قد يزعم البعض، بل على العكس من ذلك. إنّهم في قرارات أنفسهم يمتازون بعقدة نقص أمام كلّ ما هو دينيّ أو يمتّ إلى الدّين بصلة. خلال عقود من الزّمن، لم تأت هذه الأنظمة القوميّة العربيّة بأيّ نتائج ملموسة يشعر بها الفرد العربي. لا الديمقراطيّة جاءت مع هذه الأنظمة ولا الإزدهار الإقتصادي. خلال عقود من الزّمن القومي تمّ القضاء على كلّ ما هو منفتح في حضارة العرب. لقد تركت هذه الأنظمة متنفسًا واحدًا لكلّ أولئك الّذين يبحثون عن مخارج من هذا الوضع. هذا المتنفس الوحيد هو الدّين والمساجد. ولكون الحكّام مرضى بعقدة النّقص هذه أمام الدّين ورجاله، فقد وجد كلّ معارض للسّلطات أنّ في المساجد متاريس تقيه من عسف السّلطة. وهكذا انحرفت كلّ المعارضات العربيّة تقريبًا إلى المساجد، أو إلى الهجرة القسريّة إلى البلدان الغربيّة بينما الحكّام المستبدّون، الّذين لا يُستبدلون، يسيطرون على وسائل الإعلام وكنوز الشّعوب ومصائرها المشؤومة.
بالإمكان الخروج من هذا المأزق، لكن من أجل ذلك يجب على النّخب العربيّة أن تتحمّل مسؤوليّتها الأخلاقيّة تجاه شعوبها، تجاه الإنسان العربيّ المغلوب على أمره.& يكفي أن نذكّر كلّ هؤلاء بأقوال علي بن أبي طالب: "إنّ اللّه يعذّب طوائف ستًّا بأمور ستّة: أهل البوادي بالعصبيّة وأهل القرى بالكبر والأمراء بالظّلم والفقهاء بالحسد والتّجّار بالخيانة وأهل الرّساتيق بالجهل". وما أقوال عليّ بن أبي طالب هذه سوى تعبير حيّ عن حال العالم العربي الميّت في هذا العصر.
&