&
صالح العزاز
شاعر وأراد أن يكون رجل أعمال فنان وأراد أن ينسى نفسه في جدل سياسي أو وطني.. وفي كل تلك المجالات كانت قامته الشامخة ترتفع عن تلك الأجواء والاهتمامات لكي يراه الناس شاعراً وفناناً.. كتب لي قبل مرضه في رسالة شخصية ضمن ما كان يبعث لي بين وقت وآخر "العزيز تركي السديري.. تحياتي.. باغتني اضطراب جميل هذا الصباح.. بحثت عنك بإصرار طفولي لكي أنقله إليك.. لم أجدك.. كيف تكتب مثل هذا الكلام..؟.. كيف تطلق هذا النوع من الفراشات ثم تنام..". ولم يكن ذلك الكلام الذي بهره وجعله يعيش حالة اضطراب جميل يخص آراء سياسية أو اجتماعية كسبت منه ذلك الإعجاب ولكنها مقالة رومانسية على غرار ما كنت أكتبه كل خميس أسبوعياً قبل بضعة أعوام وأحاول العودة إليه بانتظام فلا أستطيع لتغير الظروف واهتمامات المجتمع وضيق الوقت.. تلك المسارب الناعمة لكلمات أنيقة رقيقة أردت لها أن تمتد برفق في مثل عذوبة الماء وعطر أنفاس الجاردينيا بين قلوب عديدة.. كان يروق لي أن أنسى هذا العالم في الغياب عبر تخيل أسطوري لشراع أمل حالم.. شراع حب حالم.. ينتشي صالح العزاز ويشعر أنك تزيد ما في قلبه من بذور حب وأفياء شاعرية وشموس وضوح.. لكن الرؤية الفنية والشاعرية عند صالح لذلك الموضوع كانت أكبر من مدلول الكلمات فشاعرية روحه أعطتها مضموناً أرقى فكانت له حيالها تلك الرؤية.. هذا هو صالح.. الذي يُلبس بتلك الروح والرؤى التي تحلّق به دائماً كل الموجودات أمامه حتى ولو كانت صخوراً أو جحوداً أو جفافاً.. ثنايا لا يكاد يراها إلا هو، ومنها يتخيل انبجاس جمال الضوء ودفء الحرارة وطراوة الندى، فتلزم النفس الشاعرة ذاتها حب كل ما حولها.. هذا هو صالح.. الذي احتفى به الجميع مثقفاً وصحفياً وصاحب محاولات ليكون رجل أعمال رغم عدم وجود الإمكانات.. وأعتقد أنه يندر أن نجد شاباً يجمع ذلك الكم الهائل من الصداقات.. من العلاقات.. بعضها قد لا يكون مقبولاً عند الجميع وبعض آخر مشغول بعالمه الخاص ويبقى صالح وكأنه نجمة فجر تضيء شفاه الآخرين.. ليتحدثوا معه أو عنه. قصة صالح رحمه الله مع مرض الموت لا تقل سخونة وحيوية وشاعرية وطرافة عن قصته مع الحياة.. كان المرض اللعين يطارده ولم يكن هو في الواقع مثل معظم المرضى يهرب منه إلى علب الدواء وشحنات العلاج الكيميائي الصعب، ولكنه يفتح قلوب كثيرين من معارفه ومحبيه كي يتأكد في داخلها بأن نبض الحياة مستمر في ديمومة المشاعر والعواطف الباقية ما بقي الوجود ترصف قصائد شعره.. أي شعر الوجود.. وتنمّق ألوان تعابير فنه.. أي فن الوجود.. أما الجسد.. أي جسد فلابد أن ينتهي إلى فناء.. أتخيل صالح وهو مع كل محادثة هاتفية أثناء مرضه مع محب بعيد عنه كمن يحتضن بالعبارات وهج الحياة الذي لا يريد له أن ينقطع وكأنه يقول للموت.. بقدر ما أنت تأخذ فنحن من تناسلنا وإزهار سخونة العواطف بيننا نمنح الحياة قوة استمرار لا ينقطع.. عندما عاد إلى الرياض.. حظرت أسرته على جميع أصدقائه فرصة زيارته، وكنت واحداً ممن تعذر عليهم أن يعودوه، لكنني متفهم بشكل جيد للأسباب.. فالرجل العاطفي.. المغرق جداً بالشاعرية والحب كان وهو في ذروة أمله بالشفاء قبل عام لا يملك إلا أن يبكي عندما يسمع صوت صديق فكيف وقد أصبح فاقداً للأمل.. لقد أرادوا أن يريحوه من تجرّع عذاب الوداع مع إطلالة كل وجه يراه.. ومعهم حق.. ومعنا نحن أيضاً كل الحق عندما نبكي أخاً وشاعراً فقدناه.. لقد كان صالح في رحلة المرض يذوب رقة تنتقل من جسد يريد أن يسيطر عليه المرض لتعمِّم تداخلها إلى عواطف ومشاعر ومذاقات كل الآخرين الذين يعرفهم، وكل ما يتخيله في الوجود من نبض حياة يتعشق أن يكون البعض من خلودها.. يذوب في إطلالة ضوء، في كل نعومة حبة مطر، في كل عاطفة ود، ليكون بقاءً في عيون وذاكرة الآخرين.. يقيني أن صالح كان في حاجة إلى عمر أطول وأطول كي يعطينا المدلول الأرقى للفنان والشاعر الذي احترمناه جيداً وهو في بدايات تكوينه. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.