مجدي خليل
&
& بتاريخ 9 كانون الاول (ديسمبر) كتب د. أسامة الغزالي حرب رئيس تحرير مجلة السياسية الدولية المصرية مقالا بجريدة الأهرام بعنوان "المسئولية الإسلامية لمصر" ولأن أسامة الغزالي حرب صديق وأخ عزيز اتصلت به لأهنئه بالعيد وذكرت له أنني أتفق مع المقدمات ولكنني أختلف بشكل كبير مع الاستنتاج الذي توصل إليه في مقاله وقال لي أنه يرحب بأن أرد عليه مقدما وجهة نظرا أخرى، وقد نبهني بداية أنه يقصد أن تقدم مصر النموذج والقدوة الثقافية أو بمعني أوضح النموذج المؤثر. ولأن القضية بالفعل مهمة، ولأن الحوار فضيلة إذا تم إزاء قضية هامة ومع شخص مهذب مثل أسامة الغزالي حرب، ولأن القضية شائكة أحب أن أوضح من البداية أن هذه المقالة تعبر عن رأيي الشخصي فقط والرأي في النهاية يحتمل الصواب والخطأ.
&& بداية أتفق مع د. أسامة في أن ما يواجه العالم الإسلامي الآن أخطر من الغزوة الصليبية في القرن الحادي عشر، والاجتياح المغولي في القرن الثالث عشر، وسقوط الأندلس في القرن الخامس عشر ثم وقوع معظم بلدانه في قبضة الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر. وأتفق معه ثانيا أن هناك بالفعل محنة يمر بها العالم الإسلامي وليس مؤامرة كما يتوهم المتوهمون، وأتفق معه ثالثا أن قوي متطرفة ومتعصبة تحتكر الحديث باسم الإسلام الآن أو كما يقول الأمريكيون "أختطف المتطرفون الإسلام" وأتفق معه رابعا أن من يشوه صورة الإسلام شخصيات ومؤسسات إسلامية وليست غربية بدءا من أسامة بن لادن في أفغانستان إلى المتعصبين في نيجيريا مرورا بمئات وربما آلاف من المنظمات الإرهابية والخلايا السرطانية المتنشرة في جسد ما يسمي بالعالم الإسلامي وأتفق معه. خامسا في أن جوهر المهمة ليس في تصحيح صورة الإسلام والمسلمين وإنما هي الإسهام في تطوير "أصل" و"واقع" الإسلام والمسلمين.
&& ونبدأ بالاختلاف أولى الاختلافات هي في كلمة "العالم الإسلامي" فهذه الكلمة علاوة على أنها ليست صحيحة سياسيا وجغرافيا فهي أيضا أحد الأوهام الكبرى فما الذي يجمع بين مسلم يعيش في الفلبين وآخر يعيش في الهند وثالث يعيش في صعيد مصر ورابع يعيش في نيجيريا وآخر يستمتع بعوائد النفط في دبي. هل الدين فقط يكفي لكي نقول على هذه الخريطة الهلامية المتسعة أنها عالم إسلامي. بل أيضا أن كلمة العالم العربي هي من الكلمات الوهمية فاللغة والدين والموقع الجغرافي ليست كافية لخلق هذا العالم الوهمي فبعض الدول الأفريقية تتفق مع أمريكا في اللغة والدين فهل يمكن أن نسميها غربا؟!! وأمريكا اللاتينية تتفق مع أمريكا وأوروبا في الدين والموقع واللغة والثقافة ولكنها لا تعتبر غربا. بل أن أصغر دولة عربية وهي قطر لها استراتيجيتها التي تحاول بها ربط نفسها بعالم الغرب وأمريكا تحديدا بعيدا عن عالمها العربي الوهمي وربما ضده، بل أن بعض الخلافات بين الدول العربية وبعضها ربما أكثر من خلافاتها مع إسرائيل الذي يقول العرب أنها عدوتهم جميعا. فالكويت لا تخشى إسرائيل وإنما تخشى نظام صدام، وقطر لا تخاف من إسرائيل وإنما تخاف من جارتها السعودية وسوريا ساندت إيران الفارسية في حربها ضد العراق ولبنان شبه محتل من جارته العربية سوريا وسط صمت عربي، ولولا تدخل أمريكا ما تحررت الكويت ولابتلعها نظام صدام، ودول المغرب العربي يتحدثون عن عداوة وهمية مع إسرائيل مجاراة للعرب ولكن الخلافات الحقيقية تقع بينهما. وحتى دول الخليج الذي يجمعهم تنظيم مشترك خاص بهم يوجد بينهم كثير من الخلافات، ولهذا لا يمثل العرب كيانا دوليا فاعلا، بل أن دول عربية تمثل عبئا على دول أخرى وخصما لها فهل يمكن أن يطلق على هذا "عالما عربيا واحدا".
&& وهناك التباس أيضا في تعريف الغرب فهناك فرق من ناحية بين الغرب والحضارة الغربية، فالحضارة الغربية كقيم تتسع وتنشئ أطراف جديدة لها فاليابان وكوريا الجنوبية وهونج كونج وسنغافورة وتايوان وربما الصين قريبا كلها مراكز جديدة للحضارة الغربية، وحتى الغرب التاريخي والجغرافي في أوروبا الغربية وأبنائها الذين استعمروا العالم الجديد في أمريكا وأستراليا حدثت فيه تحولات وما التوسع الأخير في حلف شمال الأطلنطي والاتحاد الاوروبى إلا أحد مظاهر التحول في تعريف الغرب وهناك توقعات كبيرة بأن تصبح روسيا قريبا جدا جزء من الغرب، وهناك من ناحية أخرى من يتحدث عن "تصدع الغرب" كما كتب فوكوياما في صحيفة الهيرالد ترابيون الدولية على كل الأحوال أن ما يجمع الغرب الحالي أكبر بكثير جدا مما يجمع ما يسمي "العالم الإسلامي" أو "العالم العربي".
&& ولهذا فالتعريف السياسي الدقيق هو" الإسلام السياسي" أو "المسلمين" بديلا لكلمة العالم الإسلامي وأنا شخصيا أفضل كلمة "الإسلام السياسي" باعتباره الإطار الأيدلوجي الذي جمع كل المسلمين تاريخيا. وأيضا اللفظ الصحيح سياسيا هي كلمة "الناطقين بالعربية" بديلا عن كلمة "العالم العربي".
&& الاختلاف الثاني مع د. أسامة في كلمة أن ما يحدث حاليا "مواجهة حضارية مصطنعة". وهذا غير صحيح فالتاريخ يخبرنا عن موجات من العداء والصدام بين الغرب والإسلام السياسي وبالتالي ما يحدث حاليا هو الجولة الخامسة في صراع تاريخي طويل.
الجولة الأولي : جاءت من الإسلام السياسي عبر الغزوات الإسلامية الأولى أو ما يسمى بالفتوحات الإسلامية في التعريف الإسلامي، والفتوحات الإسلامية الأولى وصلت إلى الغرب وهددت أوروبا وتركت بصماتها الواضحة في الأندلس.
الجولة الثانية : جاءت من أوروبا عبر الحروب الصليبية تحت شعارات دينية أيضا مثل سابقتها الإسلامية.
الجولة الثالثة : جاءت من الإسلام السياسي عبر الخلافة العثمانية وهددت بقاء أوروبا للمرة الثانية وتركت بصماتها الواضحة في البلقان.
الجولة الرابعة : جاءت من أوروبا عبر الاستعمار الغربي لما يسمى بالعالم الإسلامي.
&& واضح أنها جولات تبادلية للاعتداء والعدوان والنتيجة تقريبا متعادلة فالإسلام السياسي ترك في أوروبا ودول الاتحاد السوفيتي السابق كيانات استعمارية استيطانية مزروعة والغرب قذف لهم باليهود وساعدهم على تحقيق حلمهم التاريخي بأحياء مملكة اليهود على أرض فلسطين.
&& وجب التنويه أن هناك فرق بين الإسلام كدين أي شعائر وعبادات وإيمان بالله وأركان خمس وبين الإسلام السياسي بمعنى استخدام الإسلام كأيديولوجية لخلق كيان سياسي إسلامي وهو ما حدث تاريخياً باسم (الخلافة الإسلامية) ويحدث حاليا تحت ما يمكن تسميته (بالإسلامية الدولية) وهي مفهوم واسع جدا يمثل الإرهاب يده العنيفة أو جانبه العسكري.وبعنى اوضح هناك فرق بين الاسلام الدين والاسلام الدولة فالاسلام الدين هوحق شخصى لمعتنقيه ولا غبار على ذلك والاسلام الدولة سياسى ومن ثم يرتكب الاخطاء التى ترتكبها الكيانات السياسية الاخرى.
&& وجب التنويه أيضاً أن الشيء الهام في هذا الصراع بين الإسلام السياسي والغرب هو صراع سياسي أساسا وليس دينيا وإن كان يغلف بقشرة دينية كغطاء من ناحية وكأداة للحشد والتعبئة من ناحية أخرى. والدليل على ذلك أن المسيحية الشرقية أضيرت أيضاً من هجوم الصليبيين في صراعه التاريخي مع الغرب. وقد ساعد الصليبيون في إضعاف المسيحية الشرقية وما فعلته الحروب الصليبية في القسطنطينية خير دليل على ذلك.
الجولة الخامسة : جاء الدور على الإسلام السياسي ليبدأ جولته الخامسة والتي تجسدت في أحداث 11 سبتمبر، ومن ثم فهذه الجولة ليست مصطنعة وإنما هي مدبرة مع سبق الإصرار والترصد الفرق الوحيد أن الجولات السابقة كانت تقوم بها " دولة الخلاف الإسلامية " أما الجولة الأخيرة فقامت بها ما يسمى "بالإسلامية الدولية" والإسلامية الدولية كما قلت مفهوم واسع وشامل وذراعها العنيف هو "الإرهاب غير المنظم" ومن ثم فإنه عندما كانت هناك دولة مركزية تقود الإسلام السياسي عسكريا كان ذلك يسمى "بالخلافة الإسلامية". وفي حالة غياب الدولة الإسلامية المركزية فالبديل العسكري هو "الإرهاب" (طبعا الإسلامية الدولية مفهوم أوسع بكثير من الإرهاب.)
&& والإسلامية الدولية لها مراكز تفريخ وليست مراكز قيادة وتأتي السعودية كمركز رئيسي للتفريخ تليها مصر وباكستان. ويعيش المسلمون في أنحاء العالم كمتفرجين لأن المواجهة هذه المرة جاءت من المتطرفين الإسلاميين فقط وليس كل المسلمين ويقدر الغرب هؤلاء المتطرفين بحوالي 10-15% من تعداد ما يسمى بالعالم الإسلامي وهنا نحن إزاء حوالي من 130-200 مليون متطرف.
وللعلم ساهمت أمريكا في بناء وتوجيه الإسلامية الدولية وفقا لمصالحها عبر السعودية لمدة تقترب من نصف قرن منذ إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي بترتيب من وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس وحتى استخدام العنف الجهادي في أفغانستان ضد السوفيت وحصد الجميع جوائز هذا التعاون سواء السعودية أو الإسلام أو أمريكا وتخلت أمريكا منذ عام 91 عن هذا التوجيه مما أدي إلى فوضي عارمة تحولت إلى إرهاب سرطاني.
&& السؤال الآن، ما هي الدولة الإسلامية المؤهلة لقيادة ما يسمي بالعالم الإسلامي.
هناك ثلاثة أنواع من القيادة :
أولا القيادة السياسية والعسكرية، وكما هو واضح لا توجد فيما يسمي بالعالم الإسلامي دولة واحدة مؤهلة لهذه القيادة لأسباب كثيرة كما أنه في المقابل فإن الغرب لن يسمح لهذه الدولة بالظهور لأن معنى ذلك عودة الخلافة الإسلامية بما فيها من غزوات هددت أوروبا ذاتها أكثر من مرة.
ثانيا : القيادة الفكرية وتقديم النموذج المؤثر وهناك عدة دول تسعى لذلك وتأتي في مقدمتها إيران كنموذج واعد للخروج من مستنقع الأصولية، ولكن هذا إذا حدث لن يزيد عن كونه إصلاح قطري ولن يتعدى ذلك إلى التأثير في ما يسمي العالم الإسلامي.
ثالثا : نموذج الإصلاح الإسلامي، ويعني ببساطة كما حدث لليهودية والمسيحية وهو الفصل التام بين الدين والدولة في الدول الإسلامية، وحتى هذه اللحظة لم توجد دولة إسلامية واحدة تجرؤ على هذا الطرح في ظل إيمان الأغلبية الإسلامية الكاسحة بأن الإسلام دين ودولة. وما حدث في تركيا ليس أكثر من حالة خاصة مضطربة وغير مستقرة وغير قابلة للتعميم أو التكرار وهي نفسها في طريقها للتراجع.
&& إن هذه الاحتمالات الثلاثة السابقة تبدو بعيدة في الوقت الحالي كما أن مصر غير مرشحة بالمرة للعب أي دور في هذه الأدوار ولهذا أعتقد أن ما جاء في مقالة د. أسامة عن الدور المصري هو مجرد تفكير بالتمني wishful thinking فمصر كما قلت أحد أهم مراكز تفريخ الإسلامية الدولية ويكفي أن نقول أن حفيدة المصلح الإسلامي الشهير رفاعة الطهطاوى هي زوجة أيمن الظواهري وأن أبن الكاتب الإسلامي المستنير الراحل أحمد أمين هو جلال أمين الذي كتب في جريدة الحياة " أن إصلاح الإسلام معناه نهايته" ولن أزيد عن ذلك والدراسون للظاهرة يعرفون بالضبط وضع مصر الآن.
ماذا عن السيناريوهات المستقبلية
&& السيناريو الأول : طرحه برنارد لويس أهم مؤرخ في العالم للخلافة العثمانية في كتابه "ما الخطأ" الذي كتبه قبل 11 سبتمبر ونشر بعد 11 سبتمبر، وقال فيه أن الحضارة الإسلامية انتهت وأن العالم الإسلامي ضعيفا فقيرا غارقا في الجهل وقال بوضوح "أن الإسلام لا يمكن أن يزدهر بدون فتوحات". أي أنه لا يمكن أن يكون هناك كيان إسلامي سياسي كبير بدون خلافة إسلامية.
السيناريو الثاني : وهو عودة نوع جديد من الخلافة الإسلامية وكان هذا حلم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأن يتحقق ذلك عن طريق الإرهاب حتى يسيطروا على دولة تنطلق منها الخلافة وكان الأمل أن يبدأوا بأفغانستان وينطلقوا منها بعد ذلك لاحتلال السعودية وعودة الخلافة من هناك وهذا الحلم تبخر بعد ضرب أفغانستان، وهناك من يحاول عودة الخلافة تدريجيا وبأساليب سياسية في البداية على أن تنقلب عسكرية بعد وصولهم إلى الحكم وأبرز الداعين إلى ذلك هم الأخوان المسلمين في مصر وأعتقد أن محاولات عودة الخلافة لن تحظ بالنجاح.
السيناريو الثالث : طرحه صامويل هنتنجتون في كتابه (صدام الحضارات ) وقال فيه" في النهاية محمد سينتصر" ويقصد نبي الإسلام عبر تكاثر المسلمين وانتشار الإسلام، أي بالتكاثر والتحول. أي بنشر خلايا إسلامية تتحول إلى كماشة حول العالم كله فيما بعد.
السيناريو الرابع : وطرح هذا الرأي عقب أحداث 11 سبتمبر بأن هذه الجولة الأخيرة بين الإسلام السياسي والغرب وأنها ستؤدي إلى "نهاية ما يسمي بالعالم الإسلامي"، أي القضاء على الإسلام السياسي نهائيا خلال عدة عقود لان الارهاب قادهذه الجولة وما يسمى بالعالم الاسلامى فى اضعف حالاته وربما هذا ما جعل د. أسامة يقول أنها أخطر محنة يتعرض لها العالم الإسلامي.
&على كل حال رغم اختلافي مع أغلب ما جاء في التراث الإسلامي إلا أنني أتمسك بالمقولة التي تقول من اجتهد وأصاب له أجران ومن أجتهد وأخطأ له أجر واحد , وأنا اكتفي بالأجر الأخير.
كاتب وباحث - نيويورك
[email protected]