موسى جعفر محمد
&
في غمرة احداث ووقائع وطنية و أقليمية ودولية تتسع وتتعمق ابعادها يوماً بعد يوم، ويتسارع ويشتد وقع خطاها ساعة بعد ساعة، وتزداد سخونة اجوائها مع ازدياد برودة الطقس هنا في هذه المنطقة من العالم: والتي تشير كلها إلى حتمية و اقتراب حصول تغيير لنظام الحكم الحالي في العراق.مع كل هذه وتلك ينعقد هذه الأيام المؤتمر المنتظر، منذ ألف شهر وشهر!؟ لقوى و فصائل وحركات المعارضة الوطنية- الإسلامية العراقية، لبحث ومناقشة شكل وطبيعة النظام القادم في العراق بعد السقوط الأكيد للنظام الدكتاتوري الحالي، ومن اجل& توحيد الخطاب السياسي لهذه القوى والفصائل والحركات. ونحن و مع احتفاظنا برأينا فيما يخص الكيفية التي جرى فيها الإعداد لهذا المؤتمر، ومدى حقيقة تمثيله لكل الشعب العراقي سياسياً، ودينياً- مذهبياً، وأثنياً، وايضاً في مشاركة القوى الفاعلة ذات التأريخ الجهادي الطويل على ساحة الوطن، ولمكان انعقاده كذلك: لا نريد هنا ان نخوض في ذلك، بسبب المحنة التي عاشاها ويعيشها الشعب العراقي المظلوم في كل لحظة من كل يوم ومنذ ما يزيد على الثلاثين سنة عجافاً، التي لأجلها لا بد من التغاضي وغض الطرف والنظر عن بعض السلبيات والنواقص التيحصلت عند اعداد المؤتمر، والتي قد تحصل اثناء انعقاده من اجل ان تتوحد كل الجهود ولتحقيق الهدف المنشود، والمتمثل في خلاص العراق وطناً وشعباً من براثن طغة القمع والظلم و الاستبداد.نعم انه أمام هذه المحنة التي لهولها لم تستطع اية مفردة في لغتنا العربية رغم غزارتها وثرائها ان تعبر عنها، كما استحال ذلك على اية عبارة او جملة او مقالة، بل وحتى دراسة او كتاب، من ان تترجمها وتصورها كما حدثت فعلاً، على مكان و ارض من هذه الكرة الارضية وعلى اناس عاديين من لحم ودم كباقي البشر الآخرين؟.لا بد من تجاوز بعض الخلافات في الاداء والتوجهات، ما دامت النوايا صادقة وأمينة وتسعى لغاية واحدة شريفة، وهو عين ما دعى اليه آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي في فتواه الأخير، حيث قال: (على جميع المؤمنين وفقهم الله تعبئة كافة الطاقات وبذل الجهود)...ثم اضاف سماحته قائلاً:(انني ادعو المؤمنين الكرام الى جمع الكلمة وتوحيد الصفوف).و لكن و لكوننا جزء من ذلك الشعب المظلوم، و لا نقول أكثر!، ومن الذين قاسوا و يقاسون من آثار ظلم النظام المتسلط على رقاب العراقيين و تعسفه، ويهمنا مستقبل العراق، وتقرير مصيره فلنا بضع كلمات نود قولها، لعلها تجد من يفتح لها صدره بعد قراءتها.
قد يقول قائل اننا عندما نقول ان العراقيين كانوا هم اول البشر الذين اقاموا كيان الدولة وحددوا مفهومها وبنوا مؤسساتها, وانهم كذلك اول من شرع للبشرية القوانين التي بينت حقوق الانسان وحمت حياته وصانت ممتلكاته في شرائع سميت بأسماء مشرعيها كأورنمو ونرام سن وحمورابي، وانهم ومع الأسلام صاروا مؤسسوا ومنتجوا المذاهب والافكار والمدارس الفقهية التي عرفتها الحضارة العربية الاسلامية كلها، قد يقول ذلك القائل اننا بذلك نعيد انشاد ترنيمة قديمة، لم تعد غير احجار تماثيل ونصب في متاحف دول آخرى غير العراق!؟.غير اننا نعني بذلك ان نرد على ما يثار هذه الايام من اقاويل وكلام، تشكك في مقدرة العراقيين على ادارة أنفسهم بأنفسهم، تماماً كما قاله الأنكليز عند احتلالهم للعراق بعد الحرب العالمية الاولى. لقد بين السيد صادق الشيرازي في فتواه وبشكل لايشوبه اللبس اوالغموض، طبيعة وشكل النظام السياسي الذي نريده لعراق المستقبل، بل والوطن الذي نتمنى ونسعى اليه، بعد سقوط الظالمين، يقول(اسأل الله القوي القدير ان يحقق الامال بازاحة المستبدين الطغاة وبناء عراق مستقبل وموحد على اسس التعددية والمشورة والعدل والحرية المشروعة والله هو الولي المعين).
ووفق هذه الرؤية الواضحة والصريحة فالعراق الذي نريده هو العراق المستقل عن كل هيمنة اجنبية مهما كان مصدرها وكيف كان شكلها، وهو عراق يضم ويجمع كل العراقيين من كل القوميات والاديان والطوائف. أي انه ومع الأخذ بنظر الاعتبار وجود اكثرية غالبة لطائفة معينة(الشيعة)إلا ان ذلك لايعني استئثار تلك الأكثرية بالسلطة دون الباقي من الطوائف. نريده عراق يعيش فيه العرب سوية مع الاكراد والتركمان والكلدان ولآشوريين والآخرين بسلام وأخوة ومحبة آمنين، وكما سبق للامام الشيرازي الراحل(رحمه الله)ان اكده في كتابه(الى المجاهدين في العراق)حينما قال(للاكراد والتركمان وامثالهم كامل الحق في المشاركة في الحكومة القادمة) وهذا يعني انه يجب ان يكون للجميع ليس حق العيش في الوطن فقط، بل وايضاً في رسم وتحديد مستقبل الحكم فيه كذلك، واكثر من ذلك، في ان يكون الحكم القادم انشاء الله شركة بينهم، تماماً كما هم شركاء في ارض وثروات الوطن. لم يعد خافياً على احد ما عاناه ويعانيه العراقيون من تسلط واستبداد وطغيان حكم الحزب الواحد الحاكم حالياً في بغداد، ولذا فلابد ان يكون البديل المطلوب لعراق الغد، هو حكم تعددي، يمنح الحرية الكاملة لتأسيس وعمل الاحزاب الوطنية الحرة، لكون الاحزاب الوطنية كانت قد لعبت الدور الهام والكبير في نضال العراقيين من اجل الحرية والاستقلال طيلة عقود القرن العشرين المنصرم، كماانها ساهمت في بناء الروح الوطنية وتأسيس مفهوم الانتماء للوطن في العراق المعاصر،ولأن نظام تعدد الاحزاب، كما قال الأمام الشيرازي الراحل ايضاً، هو(الضمانة العملية للحفاظ على الديمقراطية والحيلولة دون الأستبداد) ووفق ذلك يتحتم ان تكون المنافسة الحرة الخالية من الترهيب والترغيب هي المبدأ الوحيد الذي تعمل بمقتضاه تلك الاحزاب، وان تكون صناديق الانتخاب هي الحكم والفيصل الذي يقرر نتائج تلك المنافسة.
لقد عرف كل العالم، بأنه لم يعش شعب من شعوب هذه الارض، الكبت وكم الافواه كما عاش ويعيش اليوم شعبنا في العراق، الى الدرجة التي اصبح فيها الرجل في داخل بيته يهمس في اذن زوجته عندما يريد التحادث معها في شأن من الشؤون، خوفاً من ان يسمع صغارهم ما يقولون، فينقلونه عن غير قصد الى غيرهم من الصغار حين يلعبون، مما قد يجلب اليهم الويل والثبور والموت الاكيد او قطع الالسن، ذلك الفعل الاجرامي الشنيع الذي تمارسه اجهزة السلطة المستبدة في العراق، لكل من يتجرأ بالادلاء برأي مخالف لما تقوله أو تفعله تلك السلطة، لذا فأن العراق الذي نحلم به ونعمل ونسعى اليه، هو عراق يضمن ويكفل حرية الرأي والعقيدة والفكر وممارسة الشعائر الدينية. فبعد هذه السنين الطويلة من القمع والخوف والارهاب، الا يحق لنا ان نعيش في وطن الرأي والرأي الآخر، فتعدد الآراء في شعبنا هو سمة من سماته، وميزة من ميزاته، وهو ليس عيباً او نقصاً او حالة مرضية، لكنه على العكس من ذلك تماماً فهو العافية والحالة الصحية المفروضة والمطلوبة، بل هو اكثر من هذا وذاك، فهو رحمة. ولكن الحرية التي نريد ونبغي ونعمل لأجلها، يجب ان لا تكون مخالفة لأحكام الشريعة الاسلامية السمحاء، ولا منافية للاخلاق والتقاليد والاعراف التي نشأت وتكونت على مدى الدهور السحيقة في العراق قديماً، ولا مضادة للقيم والمثل النبيلة والسامية التي تربى عليها العراقيون، وعرفوا بها وطبّعوا بطابعها، وبسببها تحملوا كل تلك الكوارث والمصائب والمحن. ولا يخفى على احد بما فعله النظام المستبد الحالي تجاه العلماء ومراجع الدين الأعلام من اعتقال وسجن وتعذيب وتشريد وتهجير، في محاولة خائبة ويائسة منه للقضاء على المرجعية الدينية، ولإنهاء ومحو تأثيرها على الجماهير المؤمنة في العراق، التي ارتبطت معها بعرى وثيقة، حيكت من أنسجة الروح وخاطتها شرايين القلب، وعلى امتداد العقود الماضية من تأريخ العراق الحديث والمعاصر. فأننا نود الأشارة هنا الى ان على القيادة القادمة في العراق لابد لها وان ارادت& ان تعيش بانسجام ووئام مع الغالبية الساحقة للشعب العراقي، والتي تمثل القاعدة الأمينة والوفية للمرجعية الدينية، عليها ان تأخذ بالحسبان والاعتبار رأي المرجعية الشرعية، وان تستمع وبآذان صاغية الى اقوالها، وان تفتح صدرها لمشورتها. لأن تأريخ العراق الذي كتب بالدم والدموع قد خط لتلك المرجعية انصع الصفحات لأشرف وامجد المواقف التي وقفتها في سبيل حرية العراق واستقلاله وسيادته، ورفاه وأمن&وكرامة شعبه.
&
مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات. مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية