حسين كركوش
&
اعتاد الصديق الشاعر محمد سعيد الصكار ان يقول لي, كلما تحدث عن شخصية عراقية يكن لها إعجابا وحبا شديدين, (يا أخي, هذا رجل تحفة. لازم تتعرف عليه). وعندما تحين الفرصة, ويستضيف أبو ريا في داره أو في مكتبه, واحدة من هذه (التحف), يتصل بي, طالبا مني ان احضر للتعرف على (التحفة) القادمة لزيارته.
&مرة, اتصل أبو ريا ليخبرني ان عبد الغني الخليلي سيصل غدا وسيحل ضيفا في داره, في جادة الشانزليزيه في باريس خلال عدة أيام. وكرر لازمته المعهودة إياها, لكنه أضاف إليها هذه المرة (لازم) جديدة, للتأكيد, فقال: ( لازم لازم تتعرف عليه, يا أخي هذا الرجل فعلا تحفة ). في اليوم التالي كنت أعانق ( التحفة ) عبد الغني الخليلي.
أحيانا يقول أحدنا, وهو يتحدث عن شخص يدخل إلى قلبه حالما يلتقي به لاول مرة : ( كأنني اعرف هذا الشخص منذ سنوات. )
هذا الشعور لم يخالجني, وأنا التقي عبد الغني الخليلي لأول مرة. شعرت, رغم فارق السن بيننا,ان الخليلي صديق طفولة, فارقته في الصباح, وها أنا التقي به بعد الظهر, لا اكثر ولا اقل, وربما اكثر ولا اقل.

&بعد أيام على وصوله, بدأ أبو فارس الخليلي يستطلع معالم باريس, بعد ان تبرع الشاعر عدنان محسن لان يكون ( مرافق الشرف ) يصطحب الخليلي في حله وترحاله في العاصمة الفرنسية.
لا أدري ان كان الخليلي قد زار باريس سابقا, لكني ادري ان الخليلي الذي ترعرع في النجف, مدينة ( المآذن والقباب الذهبية, ومرعى القطا ومنبت الشيح ومنجم الحصى ) كان شغوفا برؤية باريس الثقافية, وليست باريس برج أفيل.
( خذني إلى حيث كان سارتر يحتسي قهوته ) , كان يقول لعدنان. ( دعنا نسير في الشوارع التي وطأتها أقدام بودلير وشاتوبريو). ( قدني إلى حيث أُعدم رجال كومونة باريس). هذه هي ال( باريس ) التي كان الخليلي يرغب برؤيتها, هو الذي رضع مع حليب أمه( قصائد مولانا جلال الدين الرومي, والشيرازي حافظ, ينشدها القطب بهار علي شاه, في مجلسه العامر بذكر الله وبذكر مُثل الإمام علي ).
فرحا مثل طفل كان الخليلي, طوال إقامته الباريسية. في النهار, يتحايل على أبي ريا الصكار للإفلات من قبضته, والسير في باريس بصحبة عدنان محسن, للتمتع بزيارتها, وفي المساء يتنافس العراقيون على دعوته في مجالسهم الخاصة.&
&ومثل ساحر أتقن مهنته جيدا, كان الخليلي يبكي ويضحك مضيفيه في نفس الامسية. فإذا حدثهم عن غناء طائر ( الحجل ) الذي كان يستمع إليه في طفولته على ضفاف الفرات, بكى وابكاهم. وإذا قص عليهم رحلة تهجيره وعائلته إلى إيران, فاضت عيونه وعيونهم بالدموع. وإذا كشف لهم عن ( مغامراته, هذا الصباح مع حسناوات باريس ), ضحك من القلب واضحكهم.
في تلك الأيام الباريسية من أيار / مايس 1994, واثناء إقامة الخليلي بيننا, كنا نتهيأ لاقامة أمسية احتفالية بمناسبة ارتقاء الشاعر محمد سعيد الصكار, العتبة الستين من سلم سنوات عمره
وقبل الموعد, بأيام, حل ضيفا سعدي يوسف على باريس, بعد ان كان قد هجرها, بعد إقامة مؤقتة / طويلة فيها.
أقيمت الأمسية التكريمية للصكار, وحضرها سعدي, والخليلي, بالطبع. وفي تلك الأمسية تعانق سعدي مع ( الباريسي غني أب فارس الخليلي), فمنح ذاك العناق قراء سعدي يوسف قصيدة جديدة, حرص أبو فارس الخليلي على تثبيتها في الجزء الثاني من كتابه ( سلاما يا غريب ) :

أبا فارسِِ,لا يأتَكَ الحزنُ ساعة / وهل بعد باريس لمغترب حزنُ
أقمت بها في الشانزليزيه روضة& / وأنت بها البستان والورد والغصن
سلام على تلك الربوع... هل انطوت / صحائفها, أو جف أملوها اللدن
أم الأمر أن العيش لحن, فلن ترى& / غضارة عيش حيثما أخرس اللحن...
نقول لها صبرا, وصبرا, وثالثا& / ولكننا, في الريح والصرصر, العهن
يلوب إذا جاست .. ويهوي إذا جست / وهل نحن في الحالين, إلا كما نحن ؟

&نعم.( أنتم كما أنتم ), يا سعدي. لكن قل لنا, يا نخلة العراق الفارعة, لماذا ( أنتم كما انتم ) ؟
لماذا اخترتم ( الريح والصرصر, العهن ) على ( غضارة العيش ) في تلك ( الربوع ) ؟
هو ( العناد), سمعتك تقول لي, مرة.
حسنا. وصاحبك ( البستان والورد والغصن ) ؟ عاندَ مَن ؟ وعاندَ ماذا ؟
هو عاند حتى يظل ( بستان ) تسر خضرته العين العراقية, وقد أتعبتها رؤية القبح في تلك ( الربوع ) العراقية.
وأي قبح أقبح من طرد عبد الغني الخليلي إلى إيران, لانه ( غير عراقي ) ؟&
عاند الخليلي ليظل دائما ( الورد ) في بستان العراق, وليس عوسجا منفيا في صحراء الحدود الإيرانية العراقية.
عاند أبو فارس الخليلي ليبقى ( الغصن ), الأشد اخضرارا في اشجار العراق الباسقة : محمد مهدي الجواهري, هادي العلوي, إبراهيم السامرائي, عبد الوهاب البياتي, غائب طعمة فرمان, عبد الأمير الحصيري, علي جواد الطاهر, محمد مكية,& مصطفى جمال الدين, إبراهيم الوائلي, اليعقوبي, محمد رضا الشبيبي, عبد الرزاق محي الدين, جعفر الخليلي, مهدي المخزومي, ابراهيم السامرائي, جواد سليم, محمد غني حكمت,خالد الجادر,كاظم السماوي, ناجي جواد الساعاتي...
مع كل واحد من هولاء العماليق للخليلي قصة, لا يرويها إلا ويتهدج صوته, فيظل يغالب دمعته حتى تخونه وتسقط. يبكي شوقا للأحياء منهم, وحسرة على الذين رحلوا.
&بعض من هولاء تفيئوا, في ظلال( البستان), وتضوعوا عبير ( الورد ) عندما كان ( المتحف ) / هكذا كان زوار الخليلي يطلقون على داره في بغداد, لجماله ولأهمية الكنوز الفنية التي يحتويها / عامرا, مشرع الأبواب أمام الكثير الكثير من الذين صنعوا ذاكرة العراق.
( تحياتي إلى الذي استضافني في بيته. إلى الحبيب عبد الغني الخليلي, وجعلني أعيش أو أسترجع ذكرياتي في الوطن فهو صندوق عامر زاخر بالذكريات, ورصيده الأسمى علاقته بالناس وحبه للأرض التي ولد عليها وللناس الذين لا يمكن أن يتصور حياته بمعزل عنهم).
هذا ما كتبه الروائي العراقي الأشهر, غائب طعمة فرمان في الرابع عشر من آب 1989 إلى عبد الغني, بعد أيام قضاها في ضيافته في منفاه السويدي, وقفل راجعا الى منفاه الروسي.
منفيون يستعينون برمضاء المنفى لإطفاء لهب الحنين لبلدهم.&
مرة, رجوت أبا فارس الخليلي ان يحدثني عن ذكرياته مع غائب طعمة فرمان وهادي العلوي وحسين مروة, فتهلل وجهه, وراح يتدفق في الحديث, لكن دموعه سبقته وسقطت, كالعادة, فأفسدت المشروع.
اثنان خسرا الخليلي بعد رحيله الأبدي : تاريخ الأدب العراقي والوفاء الانساني.
أقول تاريخ الأدب, لان عبد الغني الخليلي يملك ذخيرة غنية وواسعة عن النشاط الأدبي في العراق, ساعدته على امتلاكها علاقاته الواسعة والمتشابكة مع الكثير من الرموز الأدبية, بالإضافة إلى انتمائه شخصيا لأسرة أدبية يعرف أفضالها على الأدب العراقيون. إذ يكفي ان يتم الحديث عن تاريخ القصة العراقية, حتى يرد اسم ال الخليلي, ولا بد ان ُتذكر مدرسة الخليلي في النجف, اذا تحدث العراقيون عن تاريخ التعليم في العراق, ولا يمكن الحديث عن أمهات الكتب العراقية, دون ان تُذكر ( موسوعة العتبات المقدسة) الخليلية, وليس من السهل الحديث عن تاريخ الصحافة في العراق, دون الاشارة الى دور آل الخليلي في اصدار الصحف. زد على ذلك كله ان عبد الغني الخليلي ترعرع في عاصمة العراق الثقافية, النجف, وليس في مكان اخر. وإذا توفرت لأي إنسان الموهبة الأدبية والعلاقات الأدبية والبيئة الأدبية, فإن ( المرجعية ) الأدبية لا بد ان تجد طريقها إليه, إن لم يكن بالمعنى النقدي, فأقله على مستوى الأرشفة والتوثيق وامتلاك المادة الخام, التي سيستفيد منها, بالتأكيد, دارسو الأدب ونقاده.
في الجزء الأول من كتابه ( سلاما ياغريب) يتحدث عبد الغني الخليلي عن المفكر اللبناني الراحل حسين مروة. وما كتبه الخليلي عن مروة يدخل في باب الوفاء الذي يكنه الخليلي للناس الذين مروا في حياته وتأثر بهم. لكن, حديث الخليلي عن مروة, يتحول إلي صورة قلمية, يقدم خلالها معلومات مهمة عن النشاط الثقافي في مدينته, النجف في مطلع القرن الماضي, وتسجيلا للحالة الأدبية في العراق عموما, وخصوصا إشاراته إلى الإرهاصات الفكرية والثقافية الجديدة التي كانت في طريقها إلى الظهور.
يقول الخليلي : ( اذكر مرة جرى فيها الحديث عن ذكر العلامة دارون ونظرية التطور واصل الأنواع, فراح أستاذنا ( يعني حسين مروة) يتحدث عن دارون ونظريته حديث الدارس العالم, ولكن دون ان يقول رأيه فيها أو يصدر منه تصديق أو تأييد لها. وكان في ذلك المجلس شيخ عرف برفضه لكل جديد من الأفكار, فما كان منه إلا ان قال, بعد ان غادر أستاذنا مروة المجلس مخاطبا الجالسين : " أشك إن كان الإيمان ما زال قائما في قلب هذا الرجل" ).
ما يذكره عبد الغني الخليل هنا, يتعدى كلمة وفاء لرجل احبه وقدر افضاله الفكرية والأدبية, ويلقي مزيدا من الضوء على الأوضاع الثقافية التي كانت تعيشها آنذاك مدينة النجف, التي عرفت بشدة محافظتها على القديم, وارتيابها بكل ما هو جديد ومستورد من الافكار. وهذه الحادثة, رغم بساطتها الظاهرة, فإنها تساعد المؤرخ للحياة الثقافية والفكرية في العراق, وفي العالم العربي, على الإلمام بمراحل التطور التي مر بها المفكر حسين مروة, وتحولاته الفكرية.
وفي مقال بعنوان ( صورة نجفية ) في الجزء الأول, ايضا, من كتابه ( سلاما ياغريب), يتحدث الخليلي عن نشاط جمعية الرابطة العلمية الأدبية في مدينة النجف, أيام صباه, وكيف كانت تلك الجمعية, بما تضمه من رموز أدبية, ربما لم يعد يعرفها الكثير من العراقيين هذه الأيام, بينها اليعقوبي والجعفري ومحمد جمال الهاشمي وعلي الصغير وهادي محي, ومحمد البلاغي والحاج عبد الله الصراف وعبد الوهاب الصافي ومحمد حسن الصوري وعبد الرزاق محي الدين وغيرهم, تقوم بنشاطات سياسية , كاستقبالها (الوفود العربية بالقصائد والخطب والهتافات المعبرة عن العداء والرفض لتجاوزات المستعمرين والصهاينة).
&
ومن المؤكد ان ( العداء والرفض لتجاوزات المستعمرين والصهاينة ) التي كان عبد الغني الخليلي, شاهدا عليه, قاده شخصيا, فيما بعد, ان يسير في طريق ( الريح والصرصر العهن ), الذي تحدث عنه سعدي يوسف في قصيدته التمجيدية للخليلي.
وذاك العداء لتجاوزات الصهاينة, ظل ملازما لعبد الغني الخليل, منذ أيام صباه وشبابه.
في بداية شبابه, فضل الخليلي ان يقضي أيام ( شهر العسل ) في سوريا, التي ذهب أليها عام 1958 محملا برسائل من صديقه الأثير شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري, كتبها الى بعض من أصدقائه السوريين يوصيهم فيها ان يحسنوا ضيافة ( الأستاذ الخليلي, الذي هو الى جانب كونه من اعز الاخوان علي, شاعر مبدع وأديب متعمق). وذكر الجواهري في رسالته ان عبد الغني الخليلي سيجد في الشباب السوري ( الصورة الصادقة الشفافة لطليعة الجيل الكريم الواعد في قلب العروبة النابض دمشق العظيمة).
وفي رسالة أخرى, أوصى الجواهري صديقه السوري جبران كورية ( لعله الناطق الرسمي الحالي باسم رئاسة الجمهورية السورية؟ ) ان يحسن وفادة الخليلي وهو قادم إلي سوريا حاملا ( قيثارة شعر حلو عذب, وصناجة أدب رفيع, ومصباح نفس فياضة بالوفاء والمحبة قدر ما هي فياضة بأحاسيس القومية العربية, ومشاعر الصفوة المتحررة من أبنائها الميامين).
هذه الرسائل ذكرتها عمدا, لأخلص من خلالها الى القول, بان عبد الغني الخليلي, ذو النفس ( الفياضة بأحاسيس القومية العربية ), منذ ان كان صبيا, تطرده حكومة صدام حسين ( القومية العربية ) الى إيران, بالضبط لانه غير عراقي وغير عربي, ومن ( التبعية الإيرانية).
أريتم أكثر ظلما وهَوَجا وحقدا وإجحادا من هذه المفارقة.
عبد الغني الخليلي الذي أثرى وعائلته لغة الضاد, ترميه حكومة البعث ( العربي ) في العراق على الحدود الإيرانية, حاملا أمه العجوز على ظهره, هائما في البرية, بعد ان شاهد بأم عينه مواطنيه الذين هجروا معه ( تأكلهم الذئاب ), كما روى في مذكراته عن رحلة التيه المريرة هذه.
مع ذلك, فان الخليلي ظل ينوح على بغداد, كما تنوح الفاختة, ويردد, حتى وهو على فراش المرض : ( أنا تعب جدا وحزين جدا, ومتيم الى حد الجنون بوطن أسمه العراق ). وكل من عرف عبد الغني الخليلي يدرك كم هو صادقا في شهادته وشكواه.
وعندي ان عبد الغني الخليلي لن يتورع قيد أنملة, إذا ُذكر أمامه العراق وأهله, ان يردد ما ردده صفي الدين الحلي :
غيري بحبل سواكمُ يتمسكُ / وأنا الذي بترابكم أتمسكُ
أضعُ الخدودَ على مَمر نعالكم/ فكأنني بترابها أتبركُ
قد ذقتُ حبكمُ فأصبحَ مهلِكي / ومن المطاعم ما يُذاق فيهلك
هذا هو الخليلي. ظل ( يتمسك بتراب ) العراق الذي طُرد منه طردا, ف( أهلكه ) حب هذا العراق.
أريتم, ألان هذه المفارقة الأخرى, إنسان ُيطرد طردا من أرض, ويظل ( متيم الى حد الجنون ) بعشقها. ثم قارنوا بين المفارقتين, واحكموا, كم كان الخليلي وفيا ونبيلا, ومخلصا لوطنه, وكم كان هذا الوطن ( وفيا ) في تعامله مع بنيه, مع ابنه عبد الغني الخليلي.