مصطفى احمد نعمان
&
الفيلسوف السعودي الكبير عبد الله القصيمي رحمه الله، كتب ـ في اعتقادي ـ أعظم المؤلَّفات العربيَّة في مرحلتين فكريَّتين مختلفتين. تناول في الأولى الصراع المذهبي الذي عصف، وما يزال بالأمَّة، منذ يوم السقيفة، ونشر خلالها كتاب "هذي هي الأغلال" تعرَّض فيه لمعوِّقات نهوض المسلمين. ثمَّ في مرحلة لاحقة من حياته، تناول بجرأة نادرة التخلُّف الفكري والعقم السياسي اللذين عانى العرب منهما، وما يزالون.
أنا لا أرغب في تناول سيرة حياته من الناحية الفلسفيَّة، فذلك ليس المجال، ولكنَّني أتمنَّى أن نحاول مماثلته في التجرُّد عند تناول الأحداث والتعليق عليها.
&غيرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر مجرى السياسة الدوليَّة، وجعلت الكثير من المحرمَّات متداولة وفي متناول الجميع. وعمد العالم الغربي، والولايات المتَّحدة خاصَّة، يإلى إعادة ترتيب أوضاعه الأمنيَّة على وجه الخصوص بما يتلاءم مع مصالح كلِّ دولة على حدة. وكثر الحديث في وسائل الإعلام وعبر الندوات والمؤتمرات والاجتماعات السريَّة والعلنيَّة، في محاولة للبحث عن السبب وراء ما حدث.
اتَّفق الكثيرون واختلف الكثيرون، ولكن شبه الإجماع كان يتحدَّث عن وجود خلل حقيقي في المجتمعات العربيَّة التي أفرزت كلَّ هؤلاء الذين يقومون بالعمل الذي لا يمكن وصفه بأقلَّ من "عمل شرِّير".
الغريب، أنَّ أحدًا في العالم العربي لم يدعُ إلى اجتماع عاجل يجمع قادة الأمَّة ومفكِّريها للبحث في الأسباب التي دعت هؤلاء الشباب لتوجيه طاقاتهم نحو قتل الأبرياء، على أعتبار أن هؤلاء هم نبتة من أرض هذه الأرض، وليس واقعيًّا أن نحاول تحميل الغرب مسؤوليَّة ما حدث، وكأنَّنا أبرياء براءة& الذئب من دم ابن يعقوب. ذلك لن يجدي، ومن المحتَّم أن تحدث أعمال، قد تكون أقلَّ بشاعة ممَّا حدث، إذا لم يتم الغوص في أعماق المشكلة والحديث المفتوح عنها والعمل الجاد لتجاوز آثارها.
كلُّ ما نسمعه في أجهزة الإعلام العربيَّة الموجَّهة، ولا ينقصنا منها الكثير، يتحدَّث عن أنَّ الغبن والظلم اللذين يقعا على الفلسطينيِّين والعراقيِّين، هو الذي جعل هؤلاء النفر يرتكبون تلك الأعمال الخارجة على ناموس الأخلاق الإنسانيَّة السويَّة. وتجاوز بعضهم في حديثه إلى استخدام القرآن الكريم للترويج بأنَّ الغرب ـ الذي يطلقون عليه المجتمع الكافر ـ والولايات المتَّحدة تحديدًا لا يفهم إلاَّ هذا النمط من الأعمال. واستخدم آخرون كلَّ المفردات العقيمة لشرح الصراع التاريخي بين المسلمين وغيرهم، وبأنَّ ما يحدث اليوم هو امتداد لحدث تاريخي تمَّ ابتساره وحانت الساعة لمواصلته.
المؤكَّد أنَّ المفردات التي تطلقها أجهزة الإعلام العربيَّة تمثِّل أصواتًا لا طائل تحتها ولا مردودًا من ورائها، وهو ما أكَّد عليه القصيمي في كتابه: "العرب ظاهرة صوتيَّة". وفسَّر ذلك في إحدى ندواته، التي كنت حريصًا على التواجد فيها كلَّما سنحت لي الفرصة، بأنَّ الكلام لا يصدر إلاَّ بعد تفكير، وأنَّ الأصوات لا معنًى محدَّدًا لها، وإنَّما هي للتعبير عن الوجود.
الخطاب العربي في أغلبه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تركَّز على ضرورة التحقٌّق من هويَّة مرتكبيه، ثمَّ انتقل إلى عدم تحميل الإسلام الوزر، ثمَّ اعتبار هؤلاء من الخوارج المارقين، وفي نهاية المطاف، بدأ الحديث يأخذ منحى التبرير بصيغة التهديد بإمكانيَّة تكرار ما وقع ما لم يقم الغرب والولايات المتَّحدة خاصَّة بتغيير سياساتها وإصلاح أمورنا!
المفردات التي استخدمت هي ذاتها التي نستخدمها لنفي المسؤوليَّة عن أنفسنا عند كلِّ مصيبة وواقعة، وما أكثرهن في تاريخنا. المتَّهم دائمًا هو الآخر الذي يريد نهب ثرواتنا، وتبديد طاقاتنا وتشتيت شملنا وخلق الفرقة بين أعضاء الجسم الواحد. مفردات جاهزة للاستعمال، ولا تتجاوز معانيها وحقيقتها الحناجر التي أطلقتها. حتَّى الشعوب أخذت تملُّ سماع "الأسطوانة المشروخة" تلك، وراحت تبحث عن أصوات جديدة علَّها تجد فيها ضالَّتها. لكن هيهات أن يتحقَّق لها ذلك!
أكثر ما يثير الحزن ويصيب المرء بالكآبة هو استخدام القرآن في معاركنا. حدث ذلك قديمًا، وما يزال يحدث اليوم. ولكنَّنا فاقدو القدرة في التبصُّر والتأمُّل. نتلو القرآن بدون أن ندرك من معانيه إلاَّ ما يصوغه لنا الفقهاء، كلاًّ حسب ميوله الفكريَّة وانتماءاته السياسيَّة. ألا يوجد فقيه متجرِّد واحد يدعو الناس إلى الاكتفاء بفهم القرآن! وهو أبسط من أن يحتاج إلى تفسيرات هؤلاء الذين أضافوا وحرَّفوا وابتدعوا!. كلُّ ذلك تَّم تحت باب "الاجتهاد".
أفزعني الكم المذهل من كتب الأدعية التي توزَّع في المكتبات وعلى أرصفة الشوارع وعند إشارات المرور في عددٍ من المدن العربيَّة. القرآن فيه من الدعاء ما يفوق كلَّ هذه الكتب مجتمعة لغويًّا ووجدانيًّا. كتب يدَّعي ناشروها أنَّها تجلب لقارئها السعادة والطمأنينة. ويقولون إنَّها تعود لإمام قد يعود، وفقيه وليٌّ، وداعية لم يحفظ القرآن إلاَّ من سنوات قليلة، و "عالم دين" يروِّج لمعتقداته!
لا يمتلك هؤلاء الفقهاء الذين يسيطرون على جماجم العامة الشجاعة للحديث عن حقيقة محتوى القرآن ومطابقته لكلِّ زمان ومكان حسبما يدَّعون. ذلك - على حدِّ علمي ليس صحيحًا- لأنَّ القرآن الكريم فيه من الآيات ما يتعلَّق بأحداث معيَّنة وقعت في ظرف معيَّن وفي زمن محدَّد بعينه. فهل يعقل أن يقول هؤلاء إنَّ حرب اليهود هي قضيَّة لا تنتهي! إذا كان ذلك صحيحًا، فما هو الحكم على من يعيشون بيننا أخوة في الأرض منذ الآف السنين! ماذا ينطبق عليهم؟. إن التحجُّج بالأحاديث النبويَّة الشريفة مسألة اختلف عليها هؤلاء الفقهاء أنفسهم، فكيف لهم أن يتركوا نصوص القرآن الواضحة والتي لا يمكن لعاقل أن يختلف فيها، ليفسروها بأحاديث لم يتفق عليها، وتصبح بعد ذلك هي المرجع يتناسى الجميع النص الآلهي.
هذا الكم الهائل من الاختلاف هو المدخل الذي تسلَّل منه بعض الفقهاء إلى جماجم شباب يعاني من فراغ فكري. أمتلك هؤلاء ناصيته وأفسدوا العقول والنفوس ودفعوا بالملايين من العرب إلى التحلُّق حول مجالس الذكر تاركين أمر الدنيا لسواهم، أو ربَّما إلى يوم الحساب.
عندما أطلق عبد الله القصيمي، يرحمه الله،صرخته المدوِّية في مطلع الأربعينيَّات عبر "هذه الأغلال"، كان العرب يعيشون في ظلِّ عصرٍ مزدهر فكريًّا، وحراكًا سياسيًا فاعلاً ومؤثِّرًا. واليوم وبعد مرور أكثر من ستِّين سنة على تلك الصرخة، تزداد أحوالنا الفكريَّة والسياسيَّة تدهورًا، وإن بدت لنا فيها مظاهر التحسُّن التي هي أشبه بعمليَّة تجميل تجريها ممثِّلات هوليوود وغيرهنَّ ليتوهمنَّ بأنَّ الزمن قد توقَّف في مسحةٍ من خداع لا علاقة لها بالحقيقة!.
أحلام هذه الأمة لا ترتبط بواقعها وحقائقه، ونعيش جميعا في تيه لا ينتهي، نشاهد السراب ونتمناه واقعُا.، ونرى الكارثة ونحسبها وهما.
الواقعية والرؤية المجردة من زيف الأحلام هي الطريق للخروج من مأزقنا وورطتنا. نحن مقبلون على كارثة ستأتي على الأخضر واليابس ولن يجدي معها مزيد من كتب الأدعية والتفسير.
العرب بحاجة الى مؤسسات تعليمية تربي الأجيال على التفكير الحر والسليم والحوار البعيد عن الأساطير والأوهام. العرب بحاجة الى أنظمة تؤمن بأن المشاركة الشعبية هي الطريق لمستقبل آمن للحاكمين والمحكومين. بغير ذلك سنظل في سرادب التاريخ حتى ينتشلنا منه الغرب إذا رأى أن ذلك يعود عليه بالنفع.
&
دبلوماسي عربي