د. سليم نجيب
&
بعد أن استعرضنا -في الجزء الأول من البحث- تعريف الأقلية في ضوء الموسوعات الأجنبية وإعلانات الأمم المتحدة ذات الطابع الدولي بخصوص الأقليات يجدر بنا أن نحدد بعض الأقليات غير الإسلامية في العالم العربي عامة وفي مصر خاصة. فنذكر الأقباط والجنوبيين في السودان والأشوريون والأرمن .. الخ.
&
ويثور التساؤل هنا وبكل صراحة هل هذه الأقليات غير الإسلامية تتمتع بحقوق المواطنة الكاملة المتساوية مع الأغلبية المسلمة أي هل مبدأ المواطنة مطبق على تلك الأقليات في مصر والعالم العربي؟
&
ليس غريبا أن يشغل موضوع المواطنة العلماء الاجتماعيين وصناع القرار السياسيين في مختلف أقطار العالم بما فيها الوطن العربي بطبيعة الأحوال. ذلك أن التغيرات العالمية التي حدثت في العقود الأخيرة ومن أبرزها ظاهرة العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية قد جعلت ظاهرة المواطنة تصعد إلى الصدارة في اهتمامات الدول. أما في الوطن العربي فقضية المواطنة أصبحت قضية ملحة تحتاج إلى حلول إبداعية. إن المجتمع العالمي لن يتسامح كثيرا في المستقبل مع النظم السياسية التي تهدر حق مواطنيها سواء من زاوية منعهم قسرا من التمتع بحقوقهم السياسية أو عدم احترام التعددية الثقافية والسياسية لبعض فئات المواطنين أو إهدار حقوق الإنسان لكل المواطنين. ومن هنا على مصر وعلى الدول العربية أن تراجع أوضاع المواطنة في بلادها لكافة المواطنين عامة وللأقليات غير الإسلامية خاصة.
&
في السنوات الأخيرة وعلى امتداد الساحة السياسية والثقافية العالمية تصاعد الاهتمام بمسألة حقوق الإنسان والديمقراطية ومع تفاقم مشكلة الأقليات وتصاعد حدة التوتر جراء التناحرات بين أقليات وأغلبيات وانعكاساتها الدولية أدركت الأمم المتحدة مخاطر مشكلة الأقليات في العالم وتداعياتها فكان الإعلان العالمي الخاص بحقوق الأفراد المنتمين لأقليات قومية أو اثنية أو لغوية أو دينية والصادر عن لجنة حقوق الإنسان واللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات والمصدق من الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 18/12/1992 هو ذروة العطاء القانوني الدولي لمسألة الأقليات. فهو الأكثر وضوحا ويعتبر ثورة حقيقية في القانون الدولي فهو ينص في أحكامه على واجب الحكومات في الدول التي تحوي الأقليات في حق تلك الأقليات في المشاركة في سياسة صنع القرار السياسي أي احترام مبدأ المواطنة المتساوية لكل أعضاء المجتمع بغض النظر عن اختلاف الدين.
&
وهذا هو ما تأكد في المؤتمر العالمي الثاني لحقوق الإنسان الذي انعقد في فيينا فيما بين 14و 26 حزيران (يونيو) من عام 1993 والذي حضرته 171 دولة حيث أكد هذا البيان على ضرورة التزام الدول الكامل والفعال بحقوق الإنسان والحريات السياسية والتماسك القانوني والترابط العضوي التام بين حقوق الأقليات والشعوب والإنسان كفرد. إن بيان فيينا مع بقية الإعلانات العالمية الخاصة بقضية حقوق الإنسان لهو خطوة متقدمة على طريق حل مشكلة الأقليات. هذه المشكلة التي باتت تهدد الأمن والسلام في أكثر من منطقة منها على الأخص منطقة الشرق الأوسط حيث تتواجد جميع أنواع الأقليات كالأقباط في مصر والجنوبيون في السودان والأشوريين والأرمن وغيرهم في كل من العراق وتركيا وإيران وسوريا ولبنان.
&
للأسف الشديد مازالت معظم دول منطقة الشرق الأوسط تتجاهل عن عمد القضايا الإنسانية الناجمة عن عدم حل مشكلة الأقليات بل وتنكر وجود هذه الأقليات أصلا بزعم باطل أن هذه الأقليات من نسيج واحد ولحمة واحدة مع الأغلبية المسلمة في الوطن زاعمين أيضا أن الدستور ينص ويقرر مساواة جميع المواطنين أمام القانون.
&
كثيرا ما نسمع تصريحات من كبار المسئولين في مصر والعالم العربي يصرحون فيها بأنه لا توجد لدينا مشكلة أقليات لأنه لا توجد أصلا أقليات حيث أن الأقلية والأغلبية نسيج واحد وأن الدستور المصري يساوي بين كل المواطنين بصرف النظر عن اللون أو الدين أو الجنس.
&
يتناسون، هؤلاء الأفاضل بأن هناك فارق كبير بين النص والواقع. قد يتضمن الدستور وهو أسمى القوانين وأعلاها شأنا نصوصا عن المساواة والحرية واحترام حقوق كل الأفراد ثم يدلنا الواقع والتطبيع على انتهاك هذه النصوص الدستورية وبالتالي يتأكد الانفصال بين الواقع ونصوص القانون. يقاس نجاح نصوص القانون بمدى أثرها وتعبيرها عن الواقع. فكيف يمكن لهذه النصوص أن تحقق الإنصاف والمساواة في ظل انتهاك شبه يومي في الواقع المعاش فيحدث الفصل بين النص والواقع.
&
إن التقدم الحضاري لا يقاس بوجود تشريعات وقوانين وإنما بمقدار العمل بهذه القوانين واحترامها فتكون القوانين مرآة صادقة للمجتمع وصدى لما يحدث في الواقع. نكرر أن العبرة ليست بوجود النصوص بل بمدى التزام الدولة بالقانون. وأنقل هنا فقرة من حكم للمحكومة الدستورية العليا برئاسة الدكتور عوض المر في 1998& جاء فيها "إن الدولة القانونية -وعلى ما تنص عليه المادة 65 من الدستور- هي التي تتقيد في ممارستها لسلطاتها -أيا كانت وظائفها أو غاياتها- بقواعد قانونية تعلو عليها وتردها على أعقابها إن هي جاوزتها فلا تتحلل منها ذلك أن سلطاتها هذه -وأيا كان القائمون عليها- لا تعتبر امتيازا شخصيا لمن يتولونها ولا هي من صنعهم بل أسستها إرادة الجماهير في تجمعاتها على امتداد الوطن وضبطتها بقواعد آمرة لا يجوز النزول عنها ومن ثم تكون هذه القواعد قيدا على كل أعمالها وتصرفاتها فلا تأتيها إلا في الحدود التي رسمها الدستور وبما يرعى مصالح مجتمعها".
&
فالعبرة إذن ليست في إصدار دساتير وقوانين ونصوص غير& مطبقة -حبرا على ورق. وإنما العبرة بالإيمان بها وتنفيذها وجعلها ممارسة يومية فعلية في الحياة اليومية. فالعبرة في التطبيق العملي الذي يسمح بمعرفة هل يتم بالفعل إعمال مبدأ المواطنة أم لا؟
&
إن معيار شرعية أي نظام سياسي سيقوم على مدى احترامها للتعددية واحترام الآخر واحترام حقوق الأقليات وحق أعضائها في المساواة الكاملة مع أعضاء الأغلبية.
&
إن مصر بلد تتسم بالتعددية الدينية بمعنى وجود مسلمين وأقباط يعيشون في نفس المجتمع فانه بالرغم من أن هناك أصوات تقول أن الأقباط ليسوا أقلية فان الواقع الأليم المعاش يثبت أن هناك مشكلات عديدة لهم ينبغي التصدي بكفاءة وبإخلاص ووطنية لحلها في ضوء ضرورات الوطنية. هذا هو الطريق الوحيد لسد الباب أمام التدخلات الأجنبية ولعل هذا يقودنا إلى أن نتأمل بعمق الرؤية القبطية لمبدأ المواطنة وكيفية إعماله في السياق المصري المعاصر. وخير ختام حكمة المهاتما غاندي حينما قال " تقاس حضارة الدول بطريقة معاملتها للأقليات".
قاضي سابق ومحام دولي وداعية حقوق الإنسان.
دكتوراه في القانون والعلوم السياسية/ مونتريال - كندا
&