لم تكن مفاجئة صورة طلاب الجامعات في تعاملهم مع الكتاب والانترنت وفْقَما قدّمها استطلاع الرأي الذي انجزته "الدولية للمعلومات" ونشرته "النهار" صباح الثلثاء الفائت. فالكتاب ليس في اجندة قراءات الجامعيين لا لعيب فيهم بل لأن الكتاب مغيّب في معظم عناوينه الاساسية والآنية عن مكتبات تسعين في المئة من الكليات ومعاهد التدريس العالي، ولأن الاساتذة نسوا التوصية بالعودة اليه ليَقينهم من انه صار نقداً نادراً لا يصرفُ في الجامعات. نسبة 7.5 في المئة فقط من الطلاب يقرأون. امرٌ محزن جداً وصفعة توبيخ للقيّمين على المقدرات المالية للكليات والجامعات في المقام الاول، وصرخة تحذير مذهلة في اتجاه هذا الجيل الناقص المعرفة والثقافة والذي يفاجئ الجميع بعدم اكتراثه بهذا النقص الفادح في تلوينه العلمي.
اما ان يُقبل 36.3 في المئة على الانترنت لغرف المعرفة منه فأمر مشجع جداً في بلد يزداد فقراً وعدم قدرة على اقتناء التجهيزات الالكترونية والرقمية المكلفة. والأهم ان يعتبر 32.3 في المئة التلفزيون رفيقاً للأنترنت "كأهم وسائل اكتساب المعرفة والثقافة"، مما يعني، في المحصلة العامة، ان وسائل الاتصال والاعلام الالكترونية وغير الالكترونية هي قبلة انظار الجيل المتقدم علماً وثقافة، وأن الجامعات ذات التطلعات المستقبلية الرائدة هي التي تبني مناهجها وبرامجها وأهدافها على هذه المعلومة الموثقة، وأن عدم الاكتراث المذهل بالقراءات الورقية يعوّض عنه الطلاب بالاقبال على مصادر المعرفة البديلة.
هدايا الكترونية "ملغومة"!
في موسم الاعياد، او على ابواب السنة الجديدة، تتردد في مخيلات الكبار والصغار اشكال الهدايا المنتظرة. بعض الكبار يتصورها حتما مُندسة في الالكترونيات وصرعات تكنولوجيا الاتصال عن بعد، وبعض الصغار يؤخذون بثرثرات الكبار عن تخيلاتهم فيتصورون لعبهم المهداة لهم من الآباء والامهات او الجد والجدة او بابا نويل اجهزة تصنع العجائب وتقلب الدنيا رأسا على عقب. الجميع غارقون في موضة الالكترونيات والرقميات، في حين ان الاتجاه السائد لدى صانعي الالعاب هو المزيد من الحنان والرقة والطرافة وتجنب "الخارق" و"المرعب" و"الفانتازيا المستقبلية" على الاقل من خلال ما يتفوه به اولئك عبر وسائل الاعلام.
ميني كومبيوتر للأولاد في التاسعة او العاشرة من العمر؟ ربما، مع امكان الاتصال بشبكة الانترنت؟ ربما، وإن مع بعض الحذر كي لا يقع هؤلاء في محظور الانبهار امام عالم المعلومات المفتوح على كل الاحتمالات.
اجهزة العاب الفيديو؟ لمَ لا وخاصة اذا ارفقت بمجموعة مختارة من الافلام ذات الاهداف التربوية النظيفة.
ولكن الخوف كله قائم في الهدايا والالعاب الالكترونية المخادعة. تلك التي تقدم التسلية او التعليم او القوة المنضبطة ظاهراً لتدسّ في ثناياها اخطارا سلوكية مزعجة. علماء النفس حذروا ويحذرون من اخطار لعب مثل الحيوانات - الروبو التي تتفاعل باللمس او الاشارة او الريموت كونترول بناء على تركيب الكتروني اتصالي معقد. انها، في نظرهم، تخنق المخيلة وتضعف تفاعلها في ذهن الولد، باعتبار ان انضباط حركات هذه الحيوانات - الروبو ضمن تعليمات اليد او الاشارة يحدد التحولات الطريفة والغريبة والخلاقة التي يخترعها الخيال الطفولي او الولادي ويكسر فيها الحدود ليبني العوالم غير المسبوقة.
والعلماء انفسهم يؤكدون ان الاسوأ هو في خدعة إلباس بعض الحيوانات - الروبو او ربما بعض الشخصيات الشائعة في افلام الاطفال (صور متحركة وسواها) فروات ناعمة الملمس، زاهية الالوان، لطيفة الشكل، في حين انها تدار عمليا بواسطة الاوامر الالكترونية عن بعد. فالنتائج الوخيمة على المخيلة هي ذاتها التي يحصل عليها الطفل او الولد من لعبة الكترونية عادية. اتذكر هنا قولا لبرونو بوكانوفسكي مدير تحرير صحيفة La revue du jouet اوردته "لوموند" وفيه: "اللعبة ليست منفصلة عن التكنولوجيا. المتغير المستحدث فيها هو اللباس. لقد غطّيت بالفراء".
ويعتقد بعضهم ان الاسلحة التي تماثل الاسلحة الرقمية المرسلة اللايزر او الاضواء والاصوات الفضائية هي "العاب نظيفة" لانها ليست مسدسات او بنادق اوتوماتيكية تقليدية تحرّض على العنف والقتل، بينما تؤكد دراسات منشورة على مواقع الانترنت ان لهذه الاسلحة الالكترونية الباهرة المفاعيل النفسية والسلوكية ذاتها التي في لعب الاسلحة التقليدية.
المهم في كل هذه الحواشي ان التكنولوجيا المتطورة، وفيها تكنولوجيا الاتصال، اضحت في صلب صناعة العاب الاطفال والاولاد وهدايا الكبار والصغار، وإن لم تدخل السوق اللبنانية على نطاق واسع الا انها تفرض وجودها في اعياد الميسورين وتتساوى في اسعارها مع اسعار اي كومبيوتر شخصي. ولعل خطورتها في كونها تقدم الدهشة جنبا الى جنب مع مجموع مساوئ التكنولوجيا المتطورة التي قد يكون اوانها لم يحن بعد في حياة الاطفال والاولاد.
&
طموحات كبيرة واحلام صغيرة
هل هي بلادة التفكير لدى شعوب بلدان البحر المتوسط والخليج العربي أم هو النقص في السيولة ما يجعل المشاريع الاعلامية والاتصالية الكبيرة تتأخر طويلاً في التقليع والانطلاق والنجاح والاستمرار؟ منذ الثمانينات والعرب يعقدون الاجتماعات والمؤتمرات على مستويات الوزراء والاختصاصيين والفنيين والعقائديين ليخرجوا الى العالم بمحطة اذاعية او تلفزيونية قادرة على مخاطبة العقول والعيون والآذان غير العربية بلغاتها، ولم يحصل شيء عملي. ومنذ التسعينات والفرنسيون يحاولون تطوير "أورونيوز" لتكون الفضائية الاخبارية العالمية المنافسة بامتياز "سي إن إن"، ولم يحصل شيء عملي. ومنذ مطلع الألفية الثالثة يحاول الفرنسيون والمحطات العربية الخاصة استعادة سوق الاعلانات، ولم يحصل شيء.
اليوم، ها هي شبكة "سي إن إن" التي أسسها تيد تيرنر عام 1980 ويدير عملياتها العالمية كريس كرامر رئيس مؤسسة "سي إن إن انترناشونال" تنفّذ خطوة خطوة، وفي سرعة قياسية، نزولها الى لغات الناس في تجمعاتهم العالمية الكبرى لتوصل حضورها الاخباري المميز ليس الى المليار مشاهد بل الى مليارين وأكثر وتصير "تلفزيون العالم" كله وبمعظم لغاته. فهي تنطق اليوم بالاسبانية في اسبانيا واميركا اللاتينية، وبالالمانية في المانيا، وبالتركية في تركيا، وتتهيأ لتنطق بالفرنسية في فرنسا والبلدان الفرنكوفونية، والحبل على الجرّار.
أكثر من ذلك، لا تكتفي "سي إن إن" بالنطق المحلي بل تعمل على مراعاة طبائع الشعوب التي تنطق بلغاتها لتكون العلاقة اكثر حميمية وليكون الانجذاب الى برامجها طبيعياً اكثر. تنقل صحيفة "ليبراسيون" عن إريك لدْغود نائب رئيس "سي إن إن انترناشونال" قوله في شرح هذا المفهوم: "الفرنسي، مثلاً، قادر على متابعة موضوع عن العراق لمدة ست دقائق. الاميركي يعتبر ذلك وقتاً طويلاً. علينا معرفة اهتمامات هؤلاء واولئك ومصالحهم كي نتوصل الى ارضائهم في طريقة افضل".
في لبنان ثمة عقول غير بليدة. إنها قليلة ولكنها غير بليدة وعلى المستوى العالمي. وفي البلدان العربية حيث بعض الحرية للقطاع الاعلامي الخاص ثمة عقول غير بليدة وعارفة بأصول اللعبة، ولكن الجو العام الطاغي متخلّف ومأخوذ بالانانيات والمصالح الضيقة على مستوى الزواريب. هذه النخبة من العقول تعمل حالياً ليس على اكتساح السوق العالمية بل على الاقل المحافظة على وجودها المميز. بيار الضاهر رئيس "المؤسسة اللبنانية للارسال" يصرخ في المحافل الاعلامية: اذا بقينا في حال التشرذم، محطات تلفزيونية صغيرة متقوقعة محرومة من الايرادات الاعلانية الضرورية سيكون المصير اسود. سوق لبنان لا تحتمل اكثر من محطتين كبريين ولا بد من التفاهم على الاندماج في هذا الاتجاه كي لا يُقفل ما هو قائم حالياً.
وما لم يقله بيار الضاهر يقوله آخرون في مجالات اخرى، ومما يردّدونه أن "سي إن إن" تعمل على الانفتاح على المشاهدين وعلى الاندماج اكثر في اهتماماتهم الاقليمية والمحلية طلباً لمزيد من المتابعين لبرامجها. في حين أننا في لبنان نزداد انكماشاً وبعداً عن الناس ارضاءً للسلطة وقوى الامر الواقع. أخبارنا تنقل اهتمامات المسؤولين ومواقفهم وتبتعد رويداً رويداً عن اهتمامات الناس العاديين الذين يريدون من الشاشة الصغيرة ان تكون مرآة لاهتماماتهم وتوجهاتهم. البرامج تتهرّب من القضايا الرصينة والموضوعية لتتلهى بالتفاهات السياسية الهامشية او بالمنوعات الترفيهية التسلوية التي لا تغني ولا تسمن عن جوع. والمشاهدون يتبرّمون ويضغطون على الريموت كونترول ليختاروا محطات غير لبنانية او يقفلون التلفزيون.
في "سي إن إن" الاميركية قامت الدنيا ولم تقعد بعد لأن شبكة "فوكس نيوز" سرقت منها المرتبة الاولى في قائمة الشبكات الاخبارية المستمرة في الولايات المتحدة، ولأن برنامج لاري كينغ الاشهر في العالم منذ عشرين سنة مهدّد بمرتبته من خلال برنامج استعراضي يقدمه هانتي وكولنز على احدى شبكات روبرت موردوخ. والنتيجة؟ تسريع المفاوضات بين "سي إن إن" و"إي بي سي" لعملية دمج محتملة بينهما اتقاءً لشرّ مردوخ.
أما عندنا فطارت "إم تي في" وغيّبت البرامج السياسية وحُجّم بعضها الآخر وحُلِبت "ماوية" بعض من البعض المتبقي، ولا أحد من المسؤولن يرفّ له جفن، كما لا أحد يسمع صراخ العتاق في الكار من "الآخرين" الذين ذكرناهم. تماماً كما لو أننا في بلاد الواق الواق لا في القرية الكونية التي مات مارشال مالكوهان المبشّر بها ولم يشهد ولادتها الكاملة!
نعود لنتذكر: البلادة ليست في تفكير الشعوب بل في عقول المسؤولين عن مستقبلنا. وهل نلومهم اذا كانوا لا يقرأون ولا يسمعون ولا يرون؟! ولأن هذه العقول هي القابضة على كل شيء - تقريباً كل شيء - فلا حول ولا قوة الاّ بالله.
الحياة