نبيل شـرف الدين
مساكين أهلنا في صعيد مصر..
تخيل نفسك ـ لا قدر الله ـ عزيزي القارئ نائماً في أمان الله ومعك أسرتك وأطفالك، بعد يوم شاق من العمل، وإذا بقادم لا يخطر ببال مخلوق يوقظك فجراً بطريقة بالغة البشاعة تتجاوز خيال الروائيين والسينمائيين، ولا يمنحك الفرصة للفرار، بل يحاصرك، ويأتي على الأخضر واليابس والحي والجماد، وكل مقتنيات منزلك، واشياءك الصغيرة التي تعتز بها، وقبل كل هذا يحاصر صغارك، ويحول ليل البلدة كلها إلى ما يشبه يوم الحشر.
هذا القادم ليس جهاز مخابرات ولا مباحث، ولا حتى لصوص، ولا نيران، إنها مياه الصرف الصحي، وبتعبير أكثر دقة "مخلفات المجاري"، التي صار منسوبها في غضون دقائق ثلاثة أمتار، اغرقت الحقول والطرقات، واقتحمت البيوت على الناس في مكان لا يسمع ولا يهتم به أحد، اسمه نجع "الشيخ حامد" يتبع قرية "الكوله" التابعة لمركز أخميم بمحافظة سوهاج في صعيد مصر.
طوبى لأهلنا في "نجع المجاري"
فجأة استيقظ الناس فجراً في هذه القرية المنكوبة رغما عنهم ليجدوا أنفسهم يسبحون في "مياه المجاري"، وبين محاولتهم انقاذ أنفسهم وأطفالهم، والبحث عن أوراق أو مستندات مهمة أتى عليها الطوفان، أو مصوغات سيدة، أو كتب تلميذ أو غيره، كانت الكارثة قد وقعت، وخرج الناس يحملون أطفالهم، أو يجرون مواشيهم في الصقيع، بينما تسبب "طوفان المجاري" في إخراج جيش العقارب مذعورة من جحورها، لتسابق الناس في الصعود إلى قمم المرتفعات المحيطة بالقرية، وما أدراك عزيزي القارئ بعقارب هذه المناطق.
بعد أربع ساعات حضر السادة المسؤولون المحليون هناك، وبعد وصولهم بساعات تم استقدام "سيارات الكسح"، التي راحت "تشفط" المياه من المنازل والحقول، فالخراب لم يقتصر على البيوت وما بها من مقتنيات متواضعة، لكنه أتى على مائة وخمسين فداناً من المحاصيل، وفق التقديرات الرسمية المبدئية، بينما يؤكد الأهالي إن كل الزراعات في قريتهم تلفت تماماً، وانهار نحو خمسون منزلاً، كما نفقت عشرات الرؤوس من المواشي، وهي لمن لا يعرف تمثل كل رأس مال الفلاح المصري، إذ يعاملها باعتبارها أحد أفراد أسرته، وهي بالفعل لا تقل أهمية عن ذلك، وفي ما بقي الأطفال والنساء على رؤوس التلال والجبال يهربون من العقارب والأفاعي التي تحاصرهم، فقد انهمك الرجال والشباب في التصدي للطوفان، والقيام بمحاولات يائسة لانقاذ ما يمكن انقاذه من البشر والمقتنيات والمواشي والحقول والبقول.
انه "الخراب" بكل ما تعنيه الكلمة، حين يفقد هؤلاء البسطاء كل شئ في لحظات، وبأبشع صورة لم تخطر ببال حتى مخرجي أفلام الرعب، وبعد ذلك يخرج علينا السادة المسؤولون مؤكدين تمام السيطرة على الموقف، وتعويض الناس بمعونات عاجلة، من نوع "بطاطين الحكومة"، أعاذنا الله وإياكم شر الحاجة إليها، وجنيهات الحكومة التي تحتاج إلى أكوام من المستندات، وسلسلة طويلة من الإجراءات حتى تخرج من خزائنها، وهي في النهاية لا تغني ولا تسمن، وتصل بعد شهور طويلة، لهذا لم يضعها هؤلاء المساكين في حساباتهم أبداً.
كل هذه الكوارث !
فبعد مآسي عادة الثأر المتأصلة في هذه المنطقة البائسة، ومحنة الإرهاب التي التهمت جيلاً وربما أكثر من أبناء الصعيد كله، ونغصت عيش ما تبقى منهم بما ترتب عليها من اجراءات أمنية وإدارية، فضلاً عن ضحايا قتلوا بيد عصابات الإرهاب تارة، والسلطات تارة أخرى، جاءت كوارث قطارات الشواء البشري، ثم كوارث السيول التي تتجدد سنوياً، ولن أتحدث عن مشكلات المرفهين مثل البطالة والتضخم وارتفاع أسعار كل شئ إلا البشر، لن اتطرق إلى النقص الفادح في كافة الخدمات، من التعليم إلى الصحة مروراً بالأمن وحتى القضاء، إذ تبعد أقرب محكمة عن مثل هذه النجوع مسيرة يوم كامل تستخدم فيه كافة وسائل المواصلات، بدءاً بالسفن التي تنقل الناس إلى البر الشرقي، ومروراً بسيارات "النصف نقل" التي يتم تكديس الناس بها كالأنعام أعزك الله، انتهاء بركوب الحمير، وهناك في بعض قرى الصعيد "مواقف للحمير"، وشر البلية ما يضحك، أي والله "مواقف للحمير"، لم تخصصها الحكومة بالطبع، بل أملتها الحاجة التي هي أم الاختراع، إذ يتعذر الوصول لبعض النجوع النائية إلا بواسطة الدواب، ومن هنا كان لزاماً أن يتجمع أصحاب الحمير الراغبين في تأجيرها لجنود الجيش العائدين من وحداتهم لزيارة ذويهم في أجازات لا تزيد عن بضعة أيام، أو لطلبة الجامعات والمدارس، أو حتى للضيوف، ومؤخراً تم استبدال الحمير بمواقف للموتوسيكلات أو الدراجات النارية، حيث يركب الشخص خلف سائق محترف يخوض به مغامرة تسلق هذه المناطق الوعرة، و"رزقي ورزقك على الله".
بعد كل هذه الكوارث والمحن، يأتي دور "المجاري"، التي يدللها بعض المثقفين فيطلقون عليها مصطلح "الصرف الصحي"، ولا هو صحي ولا من يحزنون، إذ جاء قدر أهالي هذه النجوع أن تصب بالقرب منهم كل مخلفات المركز، في محطة صرف صحي بدأ العمل بها قبل 11 عاماً، ويبدو انه لن ينتهي ابداً، إذ انه حين ينتهي العمل فيها سيكون عمرها الافتراضي قد انتهى اساساً، وهكذا ندخل دائرة مفرغة من الاتهامات المتبادلة، يتفرق فيها دم المسؤولية بين مسؤولين ذهبوا، وآخرين أتوا وقد ورثوا تركة ثقيلة من سابقيهم، في الوقت الذي أكد فيه أهالي النجع أن هذه ليست المرة الأولي التي تنهار فيها سدود أحواض الصرف الصحي بالجبل الشرقي، فقد سبق انهيارها أكثر من ثلاث مرات من قبل، وفي كل مرة كان الأهالي يتصدون للمخلفات والقاذورات بأجسادهم، قبل أن تصل سيارات السادة المسؤولين الذين يأتون متأففين، يرتدون نظارات الشمس، ويشيحون بوجههم بعيداً عن تلك المناظر الرثة، ويسدون أنوفهم حتى لا تزكمهم روائح المجاري المنفلتة من عقالها.
وشر البلية
فلا الحكومة ترحمهم، ولا تدع رحمة الله تحل عليهم، فهم مثلاً ـ أي أهالي النجوع ـ لا توجد لديهم شبكة صرف صحي أساساً، بينما قدر عليهم بقرار حكومي أن يتحملوا مخلفات "وخراء" كل الأفندية في المدن، الذين يتأففون منهم، ويطلقون على ابناء هذه النجوع النكات، ويتندرون عليهم مطلقين على هذا النجع المنكوب بالمجاري "نجع الخرا"، وعذراً عزيزي القارئ، لم أجد في قاموسي تعبيراً أكثر لطفاً وتهذيباً، فهذا شر البلية الذي يضحك ويبكي في آن واحد، إذ قدر على هؤلاء المساكين أن يستضيفوا مخلفات وأوساخ كل القرى والمدن، في ما هم محرومون ليس فقط من هذه الخدمة، بل من راحة البال قبل اختراع الصرف الصحي، فقد اعتادوا مثلاً على السيول، وهي مياه نظيفة جميلة تفيض بها السماء في مواسم محددة، لكن "طوفان المجاري" فضلاً عن قذارته التي لا تحتاج إلى وصف، فهو وغد شرير، يدهم الحرث والزرع في أي وقت وكل مكان، ولا مهرب منه إلا إلى تلال العقارب والأفاعي، وهكذا بدلت "المجاري" المسماة زوراً بالصرف الصحي أسلوب حياة الناس في هذه النجوع المنكوبة، ولم يعد الناس يحتفظون في بيوتهم بشئ ذي قيمة، اللهم إلا بعض الطعام، لكن تبقى هناك أمور لا مفر منها، إذ أين سيحتفظ ابناؤهم مثلاً بكتب الدراسة؟
واين ستضع المرضعات أطفالهن؟، وكيف سيغازل الرجل امرأته، وهو محاصر بطوفان قد ينفلت من "محطته" في أي لحظة ؟!ولك أن تضحك عزيزي القارئ حتى الاستلقاء على الأرض لو أطلقت لخيالك العنان، وتصورت مشهداً لعروسين في ليلة عرسهما وقد دهمهما "طوفان المجاري"، أو حفل عرس أو حتى مآتم كان من حظ أصحابه العاثر أن أقاموه وقت القدر المحتوم الذي ينفلت فيه الطوفان الذي لا يبقي ولا يذر.
إنها شر البلية بحق، خاصة إن الجيل الجديد من أبناء هذه النجوع يتندر على حظه العاثر قائلاً إن الحكومة لو كانت أقامت محطة نووية بدلاً من محطة الصرف الصحي لهان الأمر، إذ أن التسرب الإشعاعي سيقتل الناس ويريحهم من مأساة أن يصبحوا أضحوكة خلق الله، ويطلق عليهم أبناء المدن النكات والتعليقات، وتنتهك أدق خصوصياتهم على هذا النحو المروع الهزلي، حين تضطر فتاة صغيرة أن تفر بملابس النوم من منزلها فجراً، وحين تتذكر أم انها نسيت طفلها في المنزل وهي تهرب بجلدها من طوفان المخلفات الذي أطلقه عليهم "أفندية المدن"، أو شيخ طاعن تحمله ساقاه بالكاد، أو معوق أصابه شلل الأطفال، لأن هذه النجوع لا تعرف التطعيم، وحين تصلها حملات التطعيم يكون مفعول الطعم قد انتهى، وفسد بسبب سوء الحفظ والنقل في وسائل وأدوات بدائية، على يد ممرضين جهلة وأطباء متأففين منعدمي الضمير.
دعوة لمناصرة "الصعيد الشقيق"
ولا أدري لماذا أجدني مضطراً للانتقال إلى القاهرة، التي شهدت في نفس يوم مأساة "نجع المجاري" ما أطلق عليه مؤتمر مناصرة شعب العراق، وشاهدت وسط هذا الحشود التي أتت لمناصرة إخواننا في العراق، وجوهاً أعرف انها تنتمي بجذورها إلى نجوع لا تختلف أحوالها كثيراً عن "نجع المجاري"، وحدثتني نفسي الأمارة بالسوء متسائلة، أليس إخواننا المصريون وأهلنا في الصعيد "الشقيق" أولى بمؤتمر مناصرة، خاصة وإن "المجاري" توحشت وصار مفعولها أكثر فتكاً من الـ (B 52) التي تريح الناس دفعة واحدة من همومهم، فتحول منازلهم إلى مقابر، بلا "بهدلة" وعقارب ونكات وتعليقات ساخرة ؟
إنني أدعو بالفعل إخواننا المناضلين والمجاهدين، خاصة هؤلاء المستعدون لمحاربة أميركا والقاء إسرائيل في البحر، أن يمدوا يد العون لأشقائهم في "نجوع المجاري"، فقد "طفح" الكيل، ولا أراكم الله "طفحاً" في مجاري لديكم.وقديماً قيل كم ذا بمصر من المضحكات، وياما جاري فيك يا مصر ياما جاري.