علي النجار
&
&
عن اسطورة الانبساط
بما إننا نتاج جغرافيا تلبستنا مكونات محيطها الضاغط، والذي هو بالأساس متشبع بنشوة الماضي، و ماضي الماضي اسطورة، واسطورة الاساطير وتفتتها للحد الذي لم يبقي إلا على النزر اليسير من وهجها وبما يساير تماسك بعض مكوناتنا الأكثر رقة في زمن ساد فيه إلغاء ذواتنا، وباتت عزلاتنا ندوبا قاسية، مما يوضح بروز ظاهرة الشد الملازم لنتاجنا الفني اغلب الاحيان، ليس اقحاما، بل بسبب من فقدان لأسطورتنا، أو التي لم نعشها مطلقا، أما من عاشها أو عايشها فليس غريبا أن تتمتع أعماله بكل هدا الانبساط المتلصص على ما فقدناه من أساطير العصور الذهبية. بما مفترض به من مدوناتها المذهبة.
مقتبس
حتى بفضل زهرة ،أو ثمرة، أو أي شئ معهود يأتي فجأة طالبا بإلحاح أن نفكر فيه، وان نحلم بالقرب منه، وان نساعده على الارتفاع إلى درجة مرافقة الإنسان. أن وجود الحالم يتكرر بفضل ثمرة وهو ينشرح بفضل زهرة. ( باشلار)
&
صدفة
&
غمرني الماء وكدت ألاقي حتفي في عمر مبكر، كما غمرني في حوادث عديدة مشابهة في أيام لاحقة، وكانت لي نشوة ما قبل انقطاع الأنفاس الأخيرة ماء .. ماء، عماء، فناء .. هذا السطح المتماوج المزهو بشساعته وغوره الشفيف، يخفي أحيانا ما تخفيه تلافيف أدمغتنا في بعض من متاهات أسطحها ليس له من الارباك بشيء.&
في العام 1977 كان المخدر ماء وانسلت الروح ولا ادري إلى أين، كان حلما، وكنت بحاجة للحلم كي استمر بمحاذات زمن ملغوم ولأبقى على مبعدة، وحتى في عقود قادمة هي هبة منحتني إياها عياداتي التخديرية المتكررة.
الصدفة تدركنا بازاحتها للمألوف وإمساكها بمفاتيح العلل، جوهر الكينونة الغامضة تفاجئك في لحظة غياب العقل، في لحظة الصفر وتعذر العد، في ومضة انبساط الحواس وانفلاتها على المجهول، في تحرر المادة من صلابتها، في استدعاءها أعرافا جديدة واطلاقها العنان للذهن للانقياد إلى تجلياتها. الصدفة هي الشفرة السرية الأعمق كشفا، كانت بركة أن امتلك صدفتي وان تستيقظ منبهات، صور كانت غافية ومستعصية على البوح.
&
عن الجسد والتلوث
&
للجسد انتصاراته، ديناميكيته، حبوره، نزواته، شهواته الخاطفه.
وللجسد كذلك عثراته العصية على اللمس، وبما أن العين فاحصة والجسد سيار ملازم.
&في محاولة السير بمحاذاته أو التقاطع مع مسيرته والانعطاف لتلمس ندوبه..
&ما ظهر منها وما استتر..
في لحظات انفجاره مرورا بحقل ألغامه.. و بما إننا شهود عصر على الرغم منا، فالأحرى بنا أن نكون شهودا على أجسادنا التي حشرت في غفلة من الزمن ، في حاوية نفايات مقتطعة من رقعة كوننا الأرضي.&
للتلوث عالمه الملون المتوهج الذي يتقاطع مع ملونات أخرى ما بين انفجار وكمود، ما بين دمل وقيح، هل يكفي لصق ضمادة مطهرة على برزخه، أم على قصاصات اوراقنا، بعد أن لصقناها على شفاهنا وما تبقى من نسيج اجسادنا.
&وهل الضمادة وأطيافها ملونتنا حقا. الإعجاز أن تجترح معجزة، لكن أن تمنح وبكل بساطة معجزة، أو الأصح أن تخترقك معجزة ميثولوجية بعنف ظلامها الدامس، مستدعية صور رعب العقاب الأبدي بدهاليزه السبع وخباياها التي تفكك نسيج الروح الوهمي وتصهر خلايا الجسد حتى العدم. مما يستدعي ضرورة التماسك واستنفار قدرات ذهنية موروثة ومناورتها أو محاورتها بمعارف مكتسبة على مدى عمر خضع لتقلبات مناخات ايديولوجية وثقافية و عاطفية متقلبة0 وبما تخلف من بصماتها تحاول مواصلة حياتها الملتبسة..& بصماتنا هي نتاجاتنا، معادلتنا الرابحة.
&
شهادة
&
معجزة السرطان كما يدونها الكاتب المسرحي هارولد بينتر:
قالت ممرضة في مستشفى مارسن الملكي الخلايا المسرطنة هي تلك الخلايا التي نسيت كيف تموت..
نسيت كيف تموت
واطالت حيلتها القاتلة
أنا وورمي على قتال دائم
لنأمل أن يكون هناك موت مزدوج في الخارج.
&
اريد ان ارى ورمي ميتا&
الورم الذي نسي كيف يموت
ولكنه يدبر موتي بالمقابل
ورغم كل الشهود
إلا إني اذكر ما قالوه
عن ورم اذابهم
بكم عمي كما كانوا
قبل ولادة هذا المرض..&
الذي احضر الورم إلى الساحة
ستجيب الخلايا السوداء وتموت
أو ستفنى بفرح وتكمل طريقها
وبهدوء تتكاثر نهارا وليلا
لا يمكنك أن تعرف فهي لا تتكلم أبدا.
كانت الأورام قبل هذا المرض تحوطني.. ورم الحرب.. ورم السلم المزعزع بالحرب، حرب الداخل وحرب الخارج .. أورام وحروب وسلم متورم، استئصال الكبد.. الأطراف، أستئصال ما يحلوا من احتياطي الجسم وأحشاءه، واستئصال الدماغ هو الأقسى، ولسنا مطالبين بخرافة الشهود في عالم مسخ الشهادة، أنا الآن لست منصاعا لحيل الرسم بقدر ما أحاول مجارات تداعيات جسدي في فقدانه لكثافة الوجود، حزوزالالم، ركلاته واهتزازاته المفاجئة في كثافة اللون، في وهم التفاصيل، في غيبوبة المسميات، في استباحة اللحظة.
&
تداعيات تشكيلية
&
للتشكيل حيله التي هي اساليبه، تقنياته،تداعياته وخدعه.
كان المنظور سابقا خدعته الكبيره، رؤيته ورؤاه المؤنسنه، مرآة التطابق بنظرياته الهندسية البصرية وقوة حججه وبراهينه في زمن يقدس البراهين حتى في تقنين حسيات الفن، والعين مقياسه المفضل .
(تتقاطع مجالات الرؤية بعيني الأرنب وراء رأسه، لذلك يرى ما يدور خلفه، وهو لا يستطيع أن يرى، ماذا لو استبدلنا عيننا بعين الأرنب، أو الخروف أما أمامه فهو معرض لان يصطدم بأي شئ، أما عيني الخروف فهما مثبتتان بحيث لا تتقاطع مجالات الرؤية لهما اطلاقا، ومن هنا فانه يرى عالمين، عالم على يمينه وعالم على يساره).
الخروف، الطائر، السمكه، دودة الأرض.. صور مكتشفة ومعاد اكتشافها في حقل دورة الحياة، في حقل الترميز، في حقل تهافت الموروث الذي نأيت عنه في بعض من تخريجاته أن لم تكن قطيعة، كما نأى عنه حاضرنا هو الآخر.
&
عن الرسم ومواده الأولية
&
كثافة.. صلابة، تمنحني مادة الزيت تراكم طبقاتها خشونتها، صلابتها، ثقلها نعومتها الصقيلة، مرادف لبوح حالات قصوى، توتر وانبساط مشوب بهاجس العدم تجميع ذرات توشك عل الفناء في ثبات زمنها المنزلق دوما، حافز الأنامل لإباحة التلمس والكشف عن سرية الأشياء المستفزة. متحفية مهددة دوما بسر ديمومتها.
&
الحبر
&
حبر العين ومدادها سائل ألهي بهي عصارة القلب في أطيافه، هيولى القزح المحوط ذواتنا يجري مجرى الماء، وحينما ينضب تترك لفحته بركات معشوشبة جريئة حد الإعجاز، عذب حد الهيام يقودك قبل الانقياد أليه في غمرة الكشف عن خفاياك في اختلاط المقدمات بالنتائج، في ومضة إيعازات الحواس في الانصياع للاندهاش تتبلور معجزته.
&
اللون
&
كسر للصمت، في تضاداته منبع حكمته، في ومضته إشراقة الروح ، في عتمته خبايا الوجدان.. شوق.. بوح.. خمر.. عسل ينسل خلل الذهن شظايا تتوحد قبل الإفصاح عن
وهجها، تفتح أبوابا، أبراجا، في عالم بات ينأى في متاهاته، موشوره زمن متكرر لا يفقه خساراتنا إلا في حدودها القصوى، مثلما يفجر مكامن الانشراح في نشوته سريع القريحة، عصي عن الإدراك كله، محاور لا يبوح إلا لمن يفكك طلاسمه، متقشف فاخر، في حده بين ا الظلمة والنور.
&
استرجاعات
&
الدراميون الاوروبيون يقدمون موقف مادي.. حركة لعرض حالة باطنية، الهندي يهدف إلى عرض خبرة انفعالية لا عرض حدث، فالخبرة الجمالية نشوة و بهجة للعقل.
هذا ما فعلته عندما ساورني الغضب، من اجل أن تخلق الأرض.
&في زمن افتقاد الألفة تبقى المرأة عندي هي الوردي، البنفسجي، الأرجواني، والبرتقالي.. هي الافق والسماء، الأرض والمياه، الخصب والربيع، هي الشجرة الوارفة المخضرة الدفء والحنين، الخيال، هي الجمال، هي بساطة اللون ومدوناته..& ما الضرر أن نستنسخ رأسها طيرا أو مهرة، خلدتها الفنون الكلاسيكية أسطورة ومنحها تيتسيان ملامح دنيوية، مثلما أجلسها مانيه على العشب امرأة كسائر النساء.
&المرأة امتلكتني.. كذلك الطائر، المهرة و السمكة، وتعثرت بعدها بتصدعات دواخلي المبتورة في دورة انحلال وتداعي الملامح فقدت تفاصيل، رعشة عصب اليد، الأصابع، حبل الظهر في لحظة وخزة مؤخرة الرأس، افتقدت كلية الأشياء المستبصرة وتصدع الحلم بتعدي أزمنته وبما حايثها من وقائع لا تمت له بصلة. ويبقى الإمساك بالحلم متعة كما الإمساك بتفاصيل لحظاتنا المعاشة، وللعمل الفني حكمته الخاصة في الإمساك بما تيسر من هذه اللحظات وبطرائق تتعدى اغلب الأحيان مدلولاتها.
علي النجار/ فنان وناقد تشكيلي عراقي- ولد 1940 مقيم في السويد. خريج معهد الفنون الجميلة- بغداد- 1961 . أقام العديد من المعارض الشخصية والمشاركات الجماعية داخل العراق وفي عدة دول عربية وأوروبية