حسين كركوش
&
الأدلة كلها تشير الى ان موعد الحرب الأميركية ضد الرئيس العراقي صدام حسين, اصبح قاب قوسين أو ادنى. وهذه الحرب إن حدثت فلا يمكن ان تتوقف في منتصف الطريق. أي, ان الولايات المتحدة ستربح الحرب بأية وسيلة, حتى لو قادها ذلك الى استخدام أسلحة الدمار الشامل.
&والحشود العسكرية الضخمة التي تواصل الولايات المتحدة حشدها في المنطقة هي, رسالة واضحة للرئيس العراقي, مفادها ان أمامه خياران لا ثالث لهما: إما ان يخوض معركة خاسرة, أو يتخلى طواعية عن السلطة ويغادر البلاد, فيحفظ, له هذا الخيار, دمه وعائلته وعدد من مساعديه المقربين. وسبق لبعض رجال الإدارة الأميركية ان أعلنوا في أوقات سابقة عن عدم رفضهم لهذا الخيار الاخير.
والسؤال هو, أي من الخيارين سيفضل صدام حسين ؟
ما يحدث في العراق حتى ألان, ولو ظاهريا, يشير الى أرجحية خيار المواجهة. ولكن علينا ان نعرف ان هذه المواجهة المنتظرة لن تحدث هذه الليلة أو غدا.والرئيس العراقي يعرف ان أمامه, على الأقل, اكثر من شهر, من ألان, حتى يكون وجها لوجه أمام الاستحقاق الاميركي. وهناك فرق بين ان تسمع أو تشاهد عدوك يشحذ سكينه لقطع رقبتك, وبين ان تتلمس السكين وهي في طريقها لقطع الرقبة.& ثم, ان الرقبة التي ستقطع في هذه الحالة هي, ليست رقبة صدام حسين فحسب, وانما رقاب نجليه قصي وعدي, وقد يطال الأمر نجله الأصغر المدلل, علي, وبناته وأفراد عائلته الآخرين, ومساعديه الذين منحوه ولائهم, وربما حبهم, ايضا.
ويشير تاريخ صدام حسين وطريقة تفكيره وأنواع تحالفاته وتصرفاته العملية ومناوراته السياسية مع أصدقائه, وأعداءه, على السواء, انه رجل أحمق, ولكن ليس مجنونا, ومغامر, لكنه يحسب الأمور بدقة عالم رياضيات, وجريء, لكنه لا يهدم أي جسر وراءه, ورجل مزايدات, لكنه رجل ملذات, ايضا, يعشق الحياة كما لو لم يعشقها إنسان آخر, حتى لو كان بقائه على قيد الحياة يكلفه كرامته الشخصية, كما يحدث ألان, حين يسمح ان يستباح مخدعه الزوجي ( قصوره) على مرأى ومسمع العالم كله.
ويتذكر العراقيون ان أولى الخصال السياسية التي اطراها صدام حسين, عند رجل السياسة, في خطاب عام ألقاه في ساحة الكشافة ببغداد, بعد اقل من سنتين على مجئيه الى الحكم, ولم يزل آنذاك ( نائب ) لرئيس مجلس قيادة الثورة, هي ( البراغماتية). فقد رد صدام, في ذلك الخطاب على خصومه السياسيين الذين قال انهم يتهمونه بالبراغماتية, وتسائل قائلا: ( مَن منهم غير براغماتي؟)
الفن الذي يجيده صدام حسين بامتياز هو, فن ( الانحناء أمام العاصفة حتى تهدأ ), والشعار الذي يهتدي به هو, ( عدم تجاوز الخطوط الحمراء ) في السياسة, كما في الحياة, إذا تيقن ان هلاكه يكمن في تجاوزها.
فعندما شارك صدام حسين في عملية اغتيال رئيس الوزراء العراقي الأسبق, عبد الكريم قاسم عام1959, وفشلت المحاولة, لجأ مع مشاركين في العملية الى وكر حزبي في بغداد. لكن صدام كان أول من غادر الوكر, حتى وهو جريح, لانه أدرك ان بقائه مع رفاقه هو, خط احمر عليه ان لا يتجاوزه. وبعد ذلك بأيام داهمت الشرطة الوكر, ففضل صدام الهرب الى سوريا, بدلا من البقاء بصورة سرية داخل العراق, ومواصلة نشاطه الحزبي.
وعندما حاولت الشرطة العراقية إلقاء القبض عليه في منتصف الستينات في بغداد, داخل الوكر الحزبي الذي كان يتخفى فيه, لم يقاوم صدام حسين, رغم انه كان مسلحا, وفضل ان يقاد الى السجن, أملا في إنقاذ نفسه, وهو ما حدث بالفعل.
وفي مسعى منه لاستلام السلطة عام 1968, لجأ صدام حسين الى توثيق علاقته مع احمد حسن البكر, رغم انه لا يثق بالبكر, ويعتبره ( خائنا) لأنه قبل ان يكون رئيسا للوزراء بعد انقلاب عبد السلام عارف الذي أزاح البعث عن الحكم في تجربته الأولى عام 1963 .ولكن بعد ان رسخ صدام أقدامه, و تيقن ان البكر بدا يصبح عائقا أمام تحقيق طموحه في قيادة البلاد, لم يتردد من طرده عام 1979 .
وعندما وصل حزب البعث الى السلطة عام 1968 ( آنذاك كان صدام حسين يعتبر القائد الفعلي للبلاد, رغم انه كان, من الناحية الرسمية, الرجل الثاني بعد رئيس مجلس قيادة الثورة, احمد حسن البكر), كان أمامه, لكي يقوي موقعه في السلطة, خياران: أما الدخول في مواجهة قاتلة مع الحزب الشيوعي العراقي, الذي كان يعتبر وقتها القوة السياسية الأكبر في البلاد, وما تسببه تلك المواجهة من تصعيد الخلاف مع الاتحاد السوفيتي وبقية الدول الشيوعية التي كان الحكم الوليد في العراق بحاجة لدعمها, أو التحالف مع الشيوعيين.وكأي ميكافيلي محترف, قرر صدام الانحناء مؤقتا أمام العاصفة الشيوعية, وعدم تجاوز الخط الاحمر.لكن في اللحظة التي مرت بها العاصفة وتأكد صدام حسين ان التحالف مع الحزب الشيوعي ليس بذي أهمية بعد ألان, فانه وجه للشيوعيين ضربة ماحقة, ردد بعدها ان هذا الحزب استنفد أغراضه السياسية. والغريب, ان صدام حسين عاد ألان وبعد مرور ربع قرن, للترويج من جديد, الى تشكيل حزب شيوعي في العراق.
والشيء نفسه حدث مع الحركة الكردية بزعامة مصطفى البارازاني. ففي الوقت الذي أدرك فيه صدام حسين ان خوض معركة مع قوات الحركة, من شأنه ان يقضي, أو يضعف الحكم, بادر شخصيا, لقيادة مفاوضات مع زعيم الحركة, ومنحَ الأكراد, حتى اكثر من ما كانوا يطالبون به, ربما, أي الحكم الذاتي. لكن, عندما أدرك صدام لاحقا ان مصير الحكم الذي يحتل فيه موقع الشخص الثاني, اصبح مهددا من قبل الحركة الكردية, لم يتوان من ( بيع ) نصف شط العرب الى الجانب الإيراني في اتفاق وقعه في العاصمة الجزائرية مع شاه إيران, في مقابل استفراده بالحركة الكردية وتشتيت شملها. وعندما خُيل له ان إيران أصبحت ضعيفة عسكريا بعد حدوث الثورة الإيرانية, شن حربا ضدها, ومزق الاتفاق الموقع بينه وبين ايران.
وحتى لا تطول قائمة المواقف التي تؤكد كيف ان صدام حسين يجيد( فن )الانحناء أمام العاصفة, وعدم تجاوز الخطوط الحمراء إذا عرف ان مقتله في تجاوزها, نشير الى حرب الخليج الثانية, التي عرفت بعاصفة الصحراء. فقد انفق صدام بلايين الدولارات من اجل بناء ترسانة عسكرية, أعلن اعتمادا على وجودها, وقبل وقت قصير من حرب الخليج, بأنه سيحرق نصف إسرائيل إذا هي بادرت للاعتداء على العراق. والكل يعرف, بل ان صدام نفسه أعلن, وما يزال يعلن, بان حرب الخليج الثانية استهدفت تدمير أسلحة العراق, لتحتفظ إسرائيل بتفوقها العسكري في المنطقة.
فلماذا لم يبادر صدام حسين الى حرق نصف إسرائيل, أو ربعها, أو حتى شبر واحد منها, عندما شنت الحرب؟ ولأي غرض كان يصنع أسلحة الدمار الشامل والصواريخ بعيدة المدى ؟
السبب بسيط, وهو ان صدام يعرف جيدا ان مهاجمة إسرائيل تعني تجاوز الخط الأحمر, الذي يعني, في نهاية المطاف, موته شخصيا.
&وعندما نقل وزير خارجية العراق آنذاك, طارق عزيز, الى صدام حسين, تحذير وزير الخارجية الأميركي وقتها, جيمس بيكر, أثناء مفاوضات اللحظة الأخيرة في جنيف, والذي قال فيه بأنه في حال استخدم صدام حسين أسلحة دمار شامل ضد القوات الأميركية, فان ( الحكومة العراقية الحالية لن تبقى في السلطة), فان صدام اظهر من ( الحكمة) و( الواقعية ) ما لا يظهره أي سياسي محنك. فقد خاض الحرب حتى النهاية, ولكن بعد ان تأكد له ان تلك الحرب لا تستهدفه شخصيا, ثم ترك لمساعديه ان يوقعوا على أي شرط في ( خيمة صفوان), عشية انتهاء الحرب, شرط ان يظل هو على قيد الحياة, ويتفرغ لقمع الانتفاضة العراقية التي استهدفته.
جميع الأمثلة التي ذكرناها توا, وهي غيض من فيض, تشير الى ان صدام حسين ليس مجنونا, وانه يحسب عواقب الأمور بدقة, كما يحسبها أي ( كومبيتر) متطور التقنية, وهو يفكر الف مرة, قبل ان يخطو أية خطوة.
ألان, والولايات المتحدة تخيره بين أمرين: رأسه ورؤوس عائلته, أو التخلي عن السلطة, و( العاصفة ) التي ستهب, ليست ( عاصفة الصحراء) إنما عاصفة بغداد, حيث الكرسي الذي يجلس عليه صدام حسين, فأي الطريقين سيسلك؟
نحن نرجح الخيار الثاني, خصوصا إذا تعهدت الإدارة الأميركية بعدم متابعته كمجرم حرب, مثلما تقول. ويبدو ان دول اوربية نافذة تسعى حاليا, بالتعاون مع بعض الدول العربية الرافضة لخيار الحرب, لاقناع صدام حسين بالتخلي عن السلطة, ومغادرة العراق, هو وأفراد عائلته, وبعض من اقرب مساعديه.
وإذا ضمن صدام حسين هذا الأمر, فليس من غير المتوقع ان يلقي خطابا أمام ( الأمة) يقول فيه انه ( الكبش ) الذي حتمت العناية الإلهية ان يفدي روحه لإنقاذ هذه الأمة, مثلما قال عشية اندلاع حرب الخليج الثانية بعد ان تأكد له أنها لن تطيح برأسه: ( يا نار كوني بردا وسلاما).