&
لم أصدق نفسي مرتين. الأولى وأنا أقرأ لسناء البيسي رئيس تحرير مجلة نصف الدنيا. وهي تكتب أن المطربة والفنانة نجاة الصغيرة قررت اعتزال الغناء بشكل نهائي. وإن تصفيق الناس وإلحاحهم لن يجعلانها تتراجع عن قرارها . والأمر الثاني الذي لم أصدق نفسي وأنا أتابعه كان في الصمت الذي قوبل به النشر. كنت أتصور أن تكون هناك محاولات لجعل نجاة تعيد النظر في قرارها الخطير هذا. وأن تكون هناك كتابات كثيرة تطالبها بالعودة. وإن كانت مصممة فعلاً. فلابد من تكريمها بالصورة التي تناسب الجهد والعطاء الذي قدمته على مدى ستين عاماً من الغناء.
وربما كانت نجاة هي أول مطربة تعتزل الغناء. هذا باعتبار أن قرار شادية السابق عليها بسنوات كان مرتبطاً بارتدائها الحجاب. لذلك من الصعب القول أن اعتزال نجاة للغناء كان مرتبطاً بموقف آخر. هناك إذا فرق بين الاعتزالين. اعتزال شادية واعتزال نجاة.
آخر مرة غنت فيها نجاة كانت قبل أكثر من عام. وكانت خارج الحدود. مثلما كان الحال معها في سنواتها العشر الأخيرة. حيث شحب دورها الغنائي داخل مصر. وامتد في الخارج. يومها غنت نجاة وهي ترتدي السواد على وفاة شقيقتها سعاد حسني. ورغم أن جمهور المستمعين كان من الشباب. الذين لم يعاصروا مجد نجاة. لكن تجاوب الشباب معها فاق كل تصور، وأصبح أكبر حتى من الخيال الإنساني. غنت لهم وغنوا معها في هدير جماعي يؤكد توحد الجمهور مع الفنان. الطير المسافر. حمدا لله على السلامة، إلا أنت، أيظن، ومتى تعرف كم أهواك. يا أملا.
لو عدنا إلى المطربين الكبار في تاريخنا سنكتشف أن أم كلثوم حتى لحظة وفاتها كان الإعلان مستمراً عن أن لديها الجديد الذي ستغنيه، وعبد الوهاب ظل يغني بألحان له ويلحن للآخرين حتى آخر عمره. وليلى مراد وإن كانت قد اعتزلت التمثيل في سنة 1955. فإنها سجلت للإذاعة المصرية بعد ذلك العديد من الأغنيات حتى الثمانينيات. بل إنها حتى قبل وفاتها في 1995 وعدت نجلها زكي فطين عبد الوهاب أنها ستشارك في فيلمه القادم ولكن بالغناء بصوتها فقط. وهو ما لم يحدث لأن الموت كان أسبق إليها من الغناء في فيلم إبنها.
نجاة الصغيرة مطربة أولاً وأخيراً. ثم ممثلة في عدد قليل من الأفلام وهي كمطربة تميزت بأمرين أولهما دفء صوتها غير العادي. حيث كان هذا الصوت يجعل العديد من المشاعر تتداخل مع بعضها. نسيج هذا الصوت عبقري وفريد. الأمر الثاني أنها تعد من أكثر مطربات عصرنا غناء للشعر الفصيح. وهي المحاولة التي قامت بها أم كلثوم في منتصف رحلتها الغنائية. أما نجاة فقد كانت قريبة من الشعراء مأمون وكامل الشناوي. واستطاع صوتها العريض والعميق أن يحول الشعر الفصيح الموزون المقفى إلى غناء جميل وعذب، وهي المحاولة التي يحاول الاستمرار فيها المطرب كاظم الساهرالآن. ولو أنه استمر في محاولته وكان هناك غيره من المطربين الذين يغنون الشعر الفصيح. لقصرت المسافة بين شعر الفصحى والأجيال الجديدة التي لا تحب قراءة هذا الشعر لأسباب كثيرة لا داعي للخوض فيها الآن. والتراث العربي في الشعر، يعد من أهم أركان التراث العربي عموماً.
ولدت نجاة في 25/7/1938 واسمها بالكامل نجاة محمد محمود حسني. وقد ولدت هي وأختها سعاد في القاهرة. وإن كانت مدينة الإسكندرية قد شهدت بدايتها الفنية. عام 1948 وكان عمرها عشر سنوات فقط. حيث غنت لأول مرة. ومن أشهر أغنيات البداية: أسهر وانشغل أنا، تزوجت نجاة من رجل الأعمال السوري موفق قباني ولها منه وليد. وعن اهتمام نجاة الصغيرة بالغناء لكبار شعراء زمنها وعصرها. فقد غنت لكامل الشناوي: لا تكذبي.. إني رأيتكما معاً.. ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا. ويقولون في حكايات الوسط الفني أن هذه الأغنية إنما خرجت من تجربة خاصة بين الشاعر والمطربة. من الصعب القول أن هناك شاعرا عاصرها لم تغن له.. ابتداءً من نزار قباني، مأمون الشناوي. ومروراً بمرسي جميل عزيز وحسين السيد. ومحمد حمزة وعبد الفتاح مصطفى. وصولاً إلى عبد الرحيم منصور. وعبد المنعم السباعي. وعناوين هذه الأغاني مازالت خالدة وباقية. لأنها اجتمع لها ثلاثي النجاح: الكلمة الجميلة واللحن العذب والأداء العبقري. سواء في الحفلات ذات الحيوية الناتجة عن التقاء الجماهير بالمطربة، أو في استوديوهات الإذاعة التي برعت فيها نجاة بنفس القدر. إن عناوين هذه الأغاني تعد جزءاً من تاريخنا الغنائي في القرن العشرين: أيظن، كلمني عن بكره. ساكن قصادي. غريبة منسية. الطير المسافر. طاير يا حمام. حمد الله ع السلامة. أنا باعشق البحر. يا هاجر بحبك.
بدأت نجاة الغناء وهي صغيرة. وهذه البداية هي التي أعطتها اسمها: الصغيرة ومن شدة دقة منظرها وقصرها احضروا لها كرسيا. لكي تقف عليه. حتى تصبح في مواجهة الميكروفون وهي تغني. وفي بداياتها الأولى غنت لأم كلثوم. ومن التي لم تبدأ بالغناء لأم كلثوم في الأجيال التي جاءت بعدها من المطربات؟!
في أواخر الأربعينيات كتب لها مأمون الشناوي أغنية اوصفوا لي الحب ولحن لها محمود الشريف. ثم يقدم لها محمد عبد الوهاب أغنية كل ده كان ليه. وهي آخر أغنية غناها عبد الوهاب. في حفل عام. وذلك بمناسبة مرور سنة على قيام ثورة 23 يوليو 1952، في نادي الضباط في يوليو 1953. ثم غنتها نجاة من بعده. ويقال أن نجاة هي التي سجلتها بصوتها. ولكن الأغنية أعجبت عبد الوهاب فغناها بعدها. مما أدى إلى حالة من الغضب والفتور. وربما الخصام بينهما. إلى أن صالحها بلا تكذبي وساكن قصادي وبحبه. وأيظن، وكتب لها مأمون الشناوي: عطشان يا اسمراني محبة، ونظم لها مرسي جميل عزيز العديد من الأغاني، وأيضاً فإن كمال الطويل لحن لها العديد من الأعمال الهامة: غريبة منسية. استناني. بان عليه حبه من أول مابان. والعوازل يا ما قالوا. ثم لحن لها كمال الطويل: اسهر وانشغل أنا. سيد مكاوي لحن لها: لو بتحبني.. لو بتعزني. وإن كان هذا اللحن لم يحقق نجاحاً كبيراً وقد عاد ولحن لها بعد ذلك: عيون القلب. ولحن لها رءوف ذهني: سلم علي واعرف جرى إيه. رياض السنباطي لحن لها: يا هاجر بحبك وأحمد صدقي لحن لها: طاير يا حمام مرسال الغرام. وبليغ حمدي لحن لها: أنا باستناك أنا. وفكر يا حبيبي والطير المسافر. ومحمد الموجي قدم لها: أما براوة. وحلمي بكر لحن لها: مهما الأيام تعمل فينا. وغنت من تأليف وتلحين الأخوين رحباني: دوارين في الشوارع دوارين في الحارات. ولحن لها هاني شنودة: أنا باعشق البحر. وسامي الحفناوي قدم لها: أنت أنت ولا غيرك أنت ولحن لها صلاح الشرنوبي اطمئن.
وعلى الرغم من شهرتها الطاغية كمطربة. إلا أنها مثلت قبل أن تغني. يحمل لنا تاريخ السينما المصرية. إن نجاة مثلت في فيلمين مرة واحدة سنة 1947 هما: هدية، والكل يغني. وفي سنة 1950 قدمت: محسوب العائلة. وفي 1954: بنت البلد وفي 1958: غريبة وفي 1962: الشموع السوداء وهو أكثر أفلامها شهرة.
وقد شاركها بطولته لاعب الكرة المعروف: صالح سليم. وفي 1963: القاهرة في الليل وفي 1967: شاطىء المرح وفي 1969: سبعة أيام في الجنة وفي 1971: ابنتي العزيزة وفي 1975: جفت الدموع. ولها سهرة تليفزيونية واحدة هي: الدعاء. أحد عشر فيلماً في الفترة من 1947 إلى 1975. علاوة على سهرة تليفزيونية واحدة وبالرجوع إلى سجلات السينما المصرية موسوعة الأفلام المصرية. التي كتبها محمود قاسم ويعقوب وهبي. نكتشف أن الأفلام الثلاثة الأولى. لا يرد فيها اسم نجاة ضمن كاست هذه الأفلام: هدية. الكل يغني. محسوب العائلة ويبدو أن نجاة لعبت في هذه الأفلام أدواراً ثانوية. أقرب إلى أدوار الكومبارس. ولكن اسمها يدون ابتداءً من فيلم بنت البلد. وهو إنتاج سنة 1954. ومن سيناريو وإخراج حسن الصيفي. وقصة: زكي صالح واستيفان روستي ومن تمثيل: نجاة. إسماعيل يس، كيتي، ستيفان روستي. واسمها كان الأول من بين الأسماء.
ومع هذا فإن شهرة نجاة الصغيرة. كمطربة لم تقترب منها شهرتها كممثلة. هل السبب في هذا يعود إلى شهرة شقيقتها سعاد حسني كممثلة؟ التي وصلت إلى قمة القمة. وبالتالي فإن هذا الانصراف الجماهيري إلى تمثيل سعاد حسني. أدى إلى إهمال تمثيل نجاة. أم أن السبب في هذا. أن اعتماد نجاة على الغناء وتركيزها فيه. هو الذي جعل صورتها الذهنية أقرب إلى المطربة منها إلى الممثلة.
أما فيلم عمرها التمثيلي فهو الشموع السوداء مصر 1962. فقد كان عن قصة وسيناريو وحوار وإخراج عز الدين ذو الفقار. واسمها مكتوب فيه نجاة الصغيرة. والفيلم عن قصة شاعر يحب وتخونه المحبوبة، فيقع من فوق الحصان فيفقد بصره. وتحضر له الممرضة فيقع في غرامها. وآخر أفلامها جفت الدموع. مصر 1975 عن قصة يوسف السباعي ومن إخراج حلمي رفلة وسيناريو وحوار محمد أبو سيف وفيصل ندا وصالح مرسي. وهو عن أزمة رئيس تحرير. يواجه مشكلة انتخابات نقابة الصحفيين. بسبب علاقته مع مطربة مشهورة. تستغل هذه العلاقة من أجل التشهير به. ولكن المطربة تقرر الانسحاب من حياته حفاظاً على مستقبله.
يبقى قرار نجاة بالاعتزال. ستبقى كافة أسرار هذا القرار عندها وحدها. ولأنها صموتة ولا تحب كثرة الكلام. ولا توجد أحاديث صحفية كثيرة أجريت معها، ولا أحاديث لوسائل إعلامية أخرى. مثل الإذاعة أو التليفزيون. اعترف أنه ليس من حقنا الاقتراب من قرار الاعتزال. لكن الذي من حقنا تماماً. هو السؤال عن التوقيت.
لقد قبلت نجاة الغناء بعد شهر واحد من الوفاة المثيرة والغريبة لشقيقتها سعاد. وكان سلوكها مستهجناً من الكثيرين. ثم ها هي بعد أكثر من عام من وفاة شقيقتها تعتزل الغناء فجأة. ومن المؤكد أن رحيل سعاد لم يكن السبب في الاعتزال. لأنه لو كان السبب لكانت قد اعتزلت بعد وفاتها مباشرة. أما هذا الاعتزال سيظل لغزاً. ولا يمكن اقترانه برحيل سعاد حسني. حتى لو قالت نجاة أنها اعتزلت بسبب وفاة أختها لأنها غنت بالملابس السوداء في حفل على الهواء في مهرجان قرطاج الدولي في تونس.
ليس من حق أحد أن يقدم لها مشورة لم تطلبها. ولكن ستبقى نجاة الصغيرة شقيقة تعسة لسعاد حسني مرتين. مرة في حياتها. ومرة بعد وفاتها. في حياتها كانت هناك محاولة لأن تشترك معها في فيلم واحد. ولكن سعاد بعد أن قرأت السيناريو واكتشفت أن الفيلم يقدم نجاة المطربة التي ضحت بكل شيء من أجل أشقائها. ومن بينهم سعاد. رفضت سعاد الفيلم. وأجل المشروع إلى الأبد. ثم بعد وفاتها تغني بملابس الحداد عليها في حفل عام. وقبل أن يمر عام على هذا الغناء تعتزل الغناء فجأة. هل هناك تعاسة أكثر من هذا؟ ومع هذا ورغم هذا فإن نجاة تستحق منا أن تخرج من المشهد الغنائي العربي مكرمة معززة. حذار أن ننتظر حتى تموت لا قدر الله ثم نبدأ في حفلات تكريم لا تنتهي لها. حذار.
روائي مصري