حسين كركوش
&
ذكرنا في هذه الزاوية من "أيلاف" الاثنين الماضي بان دول اوربية نافذة تسعى حاليا, بالتعاون مع بعض الدول العربية الرافضة لخيار الحرب, لأقناع الرئيس العراقي صدام حسين بالتخلي عن السلطة, ومغادرة العراق).
وهذا ما أكدته أمس الأربعاء 25/ ديسمبر, أسبوعية "لوكنار اون شينه" الفرنسية الواسعة الانتشار, عندما كشفت عن ان الرئيس الفرنسي جاك شيراك يبذل حاليا مساعيه, بالتشاور مع بعض القادة العرب, لتشجيع صدام حسين على التنازل عن السلطة, واختيار "منفى مريح" يقضي فيه بقية عمره.
واضافت "لوكنار اون شينه" المعروفة بسعة اطلاعها وتعدد مصادرها, ان الرئيس الفرنسي كان فاتح الرئيس السوري بشار الأسد حول هذا الموضوع, أثناء زيارته الأخيرة الأسبوع الماضي للعاصمة الفرنسية, وانه وجد ترحيبا بفكرته من قبل ضيفه السوري.
وواصلت الأسبوعية الفرنسية القول بان وزير الخارجية الفرنسي دومنيك دو فيلبان, كان نقل, بدوره, "فكرة" الرئيس الفرنسي الى الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة, والعاهل المغربي محمد السادس, ووجد ترحيبا بها من قبل الزعيمين.
وأشارت الى ان باريس تواصل مساعيها لدى الرئيس المصري حسني مبارك لحثه للانضمام الى المساعي الفرنسية/ الجزائرية / المغربية الرامية لاقناع الرئيس العراقي للتخلي عن الحكم.
وأية نظرة متأنية للتعامل الفرنسي مع الأزمة العراقية الحالية, ترجح كثيرا وجود مثل هذه المساعي الفرنسية الهادفة الى أيجاد مخرج سلمي للازمة العراقية, وابعاد شبح الحرب التي تهدد الإدارة الأميركية بشنها على بغداد.
إذ يبدو ان فرنسا تزداد قناعة, يوما بعد يوم, بان الإدارة الأميركية ماضية, دون عودة, في طريق الحرب, ولن يثنيها عن قرارها ما سيقدمه مفتشو الأسلحة الدوليين في العراق. بل ان الصحف الفرنسية دأبت على الإشارة, في الآونة الأخيرة,بان الولايات المتحدة ستضرب بعرض الحائط بالتقرير الذي سيقدمه مفتشو الأسلحة في نهاية الشهر القادم, مهما كانت النتائج التي سيحتويها التقرير.
وينطبق على فرنسا هذه الأيام, المثل القائل "إن أردت أرنبا, خذ أرنبا, وان أردت غزالا, فخذ أرنبا ايضا". ففرنسا ليس أمامها خيارات كثيرة, فيما يتعلق بسبل حل الأزمة العراقية.الخيار الوحيد المطروح حتى ألان هو, خيار الحرب.وليس في الأفق ما يشير الى توفر خيار آخر, في الأيام القادمة. وكان مساعد وزير الدفاع الأميركي ريشارد بيرل, واضحا في المقابلة التي أجرتها معه الأسبوع الماضي صحيفة لوفيغارو الفرنسية, عندما أكد بان لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية, التابعة للأمم المتحدة, من "حقها" ان تقول بأنها لم تعثر على أسلحة عراقية, ولكن "ليس من صلاحيتها" ان تعلن ان العراق خال من هده الاسلحة. والترجمة العملية لاقوال الرجل الثاني في وزارة الدفاع الفرنسية, تعني بان الولايات المتحدة ستشن الحرب, متى ما رأت ذلك مناسبا.
والوقت "المناسب" الذي تبحث عنه الأداة الأميركية, ليس في باطن الغيب, ولا يحتاج الى قدرة تنجيمية لمعرفته. فكل التقارير والتسريبات الأميركية التي تنشرها الصحافة الفرنسية, تقول ان هذا التاريخ "المناسب" هو منتصف شباط (فبراير) المقبل, على ابعد ترجيح.
ولهذا, فان فرنسا تبدو على عجلة من أمرها, في أبعاد شبح الحرب التي بدأت تدق الابواب.
وهناك اكثر من سبب يدفع فرنسا للعمل من اجل أيجاد أبعاد خيار الحرب.
داخليا, تعتبر الأزمة العراقية أول اختبار, على مستوى السياسة الخارجية, تواجهه حكومة السيد بير رافران, التي لم يمض على تشكيلها سوى سبعة اشهر. وهي الأزمة الثانية التي يواجهها الرئيس الفرنسي جاك شيراك في ولايته الثانية, بعد الحرب الأفغانية التي حدثت أثناء ولايته الاولى.
لكن أوضاع الحكم الفرنسي تختلف كليا في الحالتين. فعندما نشبت الأزمة الأفغانية, كانت فرنسا تدار من قبل اليمين واليسار, معا. فبينما كان "اليميني" جاك شيراك, رئسا للجمهورية, كانت الوزارة الفرنسية تدار من قبل الحزب الاشتراكي وحلفاءه اليساريين. ووقتها كان الرئيس الفرنسي شيراك "لا يعبأ" بطريقة تعامل بلاده بالأزمات الخارجية, ونحن نضع مفردتي "لا يعبأ" بين مزدوجتين, لانه لا يوجد مسؤول أوربي لا يعبأ بالقضايا المهمة التي تواجهها بلاده, وعيون الناخبين تترصد خطواته, وتحصي انفاسه. أننا نعني بان الرئيس الفرنسي, رغم انه يعتبر, من الناحية الدستورية, المشرف على قضايا الدفاع والسياسة الخارجية, كان يدرك, آنذاك, ان الفشل في حال حدوثه, لا يتحمله وحده, إنما يشارك فيه خصومه الاشتراكيين. أما ألان,وقد انفرد الرئيس شيراك وحده بالحكم, وجميع الهيئات الدستورية المهمة في البلد يسيطر عليها اليمين الفرنسي الذي ينتمي أليه الرئيس, فانه يدرك بان الفشل والنجاح, إذا حدثا, فيتحمل وحده عواقبهما.
بالإضافة الى ذلك, فان الحرب على العراق تحظى برفض ومعارضة من قبل جميع القوى السياسية في البلاد, بما في ذلك المعارضة اليسارية, واليمينية المتطرفة, التي يحسب لها الرئيس الفرنسي آلف حساب.
وفرنسا التي تريد ان تغلق بسرعة باب الأزمة الحالية في ساحل العاج, وتقلل ما أمكنها, من تورطها في هذه الأزمة الأفريقية, فأنها لا تريد ان تفتح الباب أمام أزمة دولية جديدة, ستكون نتائجها بالتأكيد, اكثر وبالا عليها. ففي الوقت الذي نكتب فيه هذه السطور, فان الأجهزة الأمنية والقضائية الفرنسية ما تزال تواصل تحقيقاتها ومحاكماتها لناشطين إسلاميين بتهم القيام, أو النية في القيام بعمليات إرهابية داخل فرنسا. وسبق لمسؤولين أمنيين فرنسيين ان حذروا من ان الحرب على العراق, من شانها ان تزيد في نزعات التطرف, وتعرض الساحة الفرنسية الداخلية الى مشاكل, لا يعرف أحد نتائجها.ولهذه الأسباب المناهضة للحرب, يوجد سبب آخر هو, وجود جالية عربية في فرنسا يقدر عددها بستة ملايين, تعارض في غالبيتها العظمى توجيه ضربة عسكرية الى بغداد.
ولكن قبل هذا كله, فان فرنسا تعرف ان الحرب التي تهدد الإدارة الأميركية بشنها على العراق, ستكون, إذا حدثت, "طوفان" يكتسح مصالحها هناك, وهي تعرف ان "سفينة نوح" قد لا ترسو على "الجودي", وحتى ان رست فانه من المستبعد ان تضم في ركابها "زوجين" فرنسيين, وحتى إذا وجد فيها ركاب فرنسيون, فانه ليس من المؤكد ان تتم مكافئتهم, بعد انتهاء الطوفان.
لهذه الأمور, تكثف باريس جهودها لاقناع الرئيس العراقي بترك الحكم ومغادرة العراق, وهو, على الأرجح سيأخذ بالنصيحة الفرنسية, ما دامت هذه النصيحة قادمة من بلد أوربي بوزن فرنسا, ستكون قادرة على انتزاع ضمان أمريكي بعدم متابعة صدام حسين كمجرم حرب.