عزمي بشارة
&
يوم 12 نيسان 84، قام اربعة شباب من غزة بخطف باص اسرائيلي رقم 300 بهدف اخذ ركابه كرهائن بغرض المبادلة مع اسرى، وخلال عملية الخطف جرح احد ركاب الباص. وفي فجر اليوم التالي قامت وحدة خاصة من الجيش الاسرائيلي باقتحام الباص قرب دير البلح واطلاق سراح ركابه. في هذه العملية قتلت جندية اسرائيلية من الركاب واثنان من الشبان الاربعة. وقد تبين فيما بعد ان الشباب الاربعة قاموا بالعملية بمبادرة ذاتية ولم يتبعوا لاي فصيل، كما انهم كانوا مسلحين بالسلاح الابيض فقط.
وقد اسر اثنان من الشباب الاربعة واقتيدا للتحقيق. واشرف على عملية التحقيق معهما في حقل مجاور ايهود يتوم احد كبار رجالات الشاباك في حينه. وتبين فيما بعد ان رئيس الشاباك الذي حضر الى مكان العملية امر بقتل الشابين. وعلى الفور قام ايهود يتوم باقتياد الشابين الى مكان قريب وببساطة وبمساعدة محققين اخرين من الشاباك نفذ عملية قتل الشابين بالايدي العارية مستخدما الضرب بالحجارة على الرأس وقضبان حديدية. لقد حطم هذا الرجل بيديه جمجمتي شابين سجينين فلسطينيين وهما احياء.
يتوم هو حسب كل المعايير قاتل ومجرم بالمعنى البدائي الحجري للكلمة. وقد حاول ان يغطي على جريمته النكراء فيما بعد وتواطأ معه في التغطية التي شملت الضغط على شهود جهاز الشاباك بأكمله بالقول ان الاثنين اصيبا اثناء عملية الاقتحام وكان من المفروض ان ينقلا الى المستشفى للمعالجة قبل التحقيق، والموضوع برمته هو اهمال. كما حمل هؤلاء المحققون مسؤولية الضرب باللكمات الى الضابط في الجيش الكولونيل، في حينه، يتسحاق مردخاي. وقد اصبح الأخير فيما بعد وزير أمن معروفاً واستثمر في تسلقه عملية الافتراء عليه، والتي حولته الى ضحية تمييز طائفي. فقد ادعي فيما بعد ان المسؤولية القيت عليه لأنه يهودي شرقي.
ولكن مصوراً صحفياً كان في المكان قام بنشر صورة الشابين سليمين معافيين في الصحافة الاسرائيلية. على اثر ذلك اقيمت لجنة تحقيق برئاسة الجنرال المتقاعد مئير زوريع سميت لجنة "زوريع". وقد استمر جهاز الشاباك بالكذب والتضليل امام هذه اللجنة التي اوصت باغلاق الملف، الى ان اعيد فتح ملف التحقيق عام 1986. وتبين آنذاك حجم الجريمة، واعترف يتوم بالكذب مقابل ان يقوم رئيس الدولة بمنحه ورجاله عفواً قبل المحاكمة، وهي ربما الحالة الوحيدة في تاريخ الدولة العبرية التي منح فيها عفو لقاتل اعترف بالقتل دون ان يحاكم.
جمعت هذه الحالة المسماة في القاموس السياسي الاسرائيلي ب "قضية خط 300" بين القتل والكذب كعناصر اساسية في عمل جهاز المخابرات الاسرائيلي. وقد اشارت مراقبة الدولة فيما بعد في تقريرها ان الكذب لا يشكل حالة استثنائية في عمل جهاز المخابرات وانما هو نمط سلوك او عرف وعادة داخل هذا الجهاز. المحققون يكذبون لرؤسائهم وهؤلاء لمن اعلى منهم مرتبة وهكذا..
لماذا نعود الى ذكر هذه القضية رغم انه منذ ذلك اليوم ارتكب هذا الجهاز عدداً كبيراً من الجرائم وعذب عدداً كبيراً من المعتقلين وذهب ضحية نمط عمل الشاباك عدد كبير من الابرياء؟ لان سخرية القدر شاءت ان يجتمع العنصران من جديد في الانتخابات للكنيست ال16. فايهود يتوم هو المرشح رقم 24 في قائمة الليكود للكنيست. وهذا يعني ان هذا القاتل سيصبح عضواً في هيئة التشريع السيادية في الدولة العبرية. واعتقد انه سيصعب حتى على جهاز المخابرات الامريكي الكلي الحضور ان يجد في دول العالم الثالث عضو برلمان قتل بيديه رجلين وحطم جمجمتيهما بحجر يجلس في برلمان احدى هذه الدول.
&
في هذا الموسم الانتخابي، ونقول موسماً ليس فقط لانه يأتي مباشرة بعد موسم قطف الزيتون وانما لانه يشكل مناسبة لجمع الثمار بالنسبة للعديد من صانعي الصفقات الانتخابية التي تجمع ما بين مساويء السياسة ومحاسن المال كما هو الحال في العديد من الديموقراطيات البرلمانية، في هذا "الموسم الانتخابي" يقوم الشاباك لاول مرة بتقديم تقرير بطلب من المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية محشو بالاكاذيب، على عادة هذا الجهاز، ضد التجمع الوطني الديموقراطي في مؤامرة مفضوحة لاقصاء الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل من التمثيل السياسي البرلماني. ولا بد ان يكون ذلك مقدمة لخطوات اخرى.
ويعترف معدو التقرير في تقريرهم ان التجمع الوطني الديموقراطي بدأ طريقه على شكل طروحات فكرية ما لبثت ان تحولت الى خطاب سائد تقلده الاحزاب، وان انتشار الافكار القومية والوطنية تم الى حد بعيد بفضل المنافسة السياسية الانتخابية ووجود تمثيل لهذا التيار في البرلمان. الذي لم يتأفف ولم يتعفف من قرف العملية الانتخابية في الظروف الاسرائيلية واختلاط الحابل بالنابل فيها. ويتضمن كلام المستشار في استئنافه المقدم الى لجنة الانتخابات المركزية اعترافا ضمنيا ان الخطوة المخابراتية ذات الغطاء القضائي انما تهدف الى منع ووقف عملية جارية، وهي عملية توسع هذا التيار وازدياد قوته.
&
الانتخابات الاسرائيلية موسم لقوى اجتماعية عديدة لا يسمح لها غياب قوتها الاقتصادية او الاجتماعية او منزلتها السياسية وعدم تمتعها بنفوذ موروث بالمشاركة في عملية صنع القرار ولذلك تستعين بقوتها الديموغرافية، او قدرتها على تجنيد الاصوات. وهكذا يستغل اصحاب مطعم ذوو علاقات في العالم السفلي وبالعالم السفلي الانتماء اليمني لتجنيد "ممثلي هذا الانتماء" في مركز الليكود بالنقود والنفوذ وغيرها والهوية المغاربية مثلا لتجنيد اصوات عبر شراء بعض "ممثلي الهوية" في لجنة الليكود المركزية لجعل ابنتهم، ابنة السابعة والعشرين، غير المعروفة اجتماعياً وسياسياً مرشحة متقدمة في قائمة الليكود. الانتخابات البرلمانية موسم يتبين فيه تشوه الديموقراطية واختلاط اعتبارات المصلحة الضيقة مع استثمارالهويات وقوتها الديموغرافية في العائلة او الطائفة من اجل الكسب المادي الآني واختلاط الجريمة بالاقتصاد والسياسة والإعلام. يمسخ هذا السياق الانتخابي مقولة حرية خيار الفرد والانتخابات الحرة كما يمسخ البرلمان كممثل لخيارات الجمهور العقلانية كاريكاتيراً مضحكاً مبكيا في أفضل الحالات.
يسمى اختلاط عناصر الاقتصاد بالسياسة بالاعلام، والحيز الخاص بالعام في عرف النظرية الديموقراطية فساداً. والفساد هو الد اعداء اجهزة الدولة الحديثة، انه الد اعداء الديموقراطية. ولكن المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية وحامي حمى الديموقراطية وسيادة القانون بصفته مدعيا عاما منشغل عن القاتل الهمجي الذي قتل سجناء اسرى، بمحاولة تبدو له اكثر اهمية، وربما بحق من زاوية نظره. انه منشغل بمحاولة اخراج التجمع الوطني الديموقراطي خارج عملية التمثيل السياسي البرلماني. وهو يعترف في توصياته التي قدمها الى لجنة الانتخابات المركزية لمنع التجمع ان التمثيل البرلماني قد قوّى التجمع وحول برنامجه من طروحات فكرية الى خطاب سياسي منتشر لدى الجمهور العربي.&
&
يدعي المستشار القضائي للحكومة ووراءه الحكومة ذاتها وجهاز المخابرات الاسرائيلي الذي خرج من الظلام وافصح عن نواياه مسعفاً المستشار بخمس صفحات رسمية قدمها الأخير الى لجنة الانتخابات ممهورة بتوقيع "الشاباك" اضافة الى ورقته، يدعي المستشار ان التجمع الوطني الديموقراطي يقوم بالسر بالتخطيط للقضاء على دولة اسرائيل اليهودية واستبدالها "بدولة فلسطين من النهر الى البحر" . وكيف يقوم التجمع بذلك؟ بتصريح هنا وتصريح هناك جمعها الشاباك في السنوات الاربع الاخيرة وكلها من نوع الوشايات الكاذبة، وسيكون للوشايات وللوشاة كما يبدو شأن عظيم في هذه الانتخابات. ولم يستثن الشاباك مخيمات الشباب الصيفية وغيرها من عملية جمع الاقتباسات الكاذبة المنسوبة لي ولمسؤولين آخرين في التجمع، هكذا سيقضي التجمع على دولة اسرائيل. والسبيل لمنعه من ذلك هو اخراجه من البرلمان.
لو وصلنا الآن رجل من الفضاء الخارجي واستمع الى تفاصيل هذه الحكاية المستشارية لحسبنا مجموعة من المهابيل الاغبياء. ولكن لا نحن مهابيل ولا سيصلنا شيء من الفضاء الخارجي قريباً.
لقد ضاقت المؤسسة الصهيونية ذرعاً بما يمثله التجمع الوطني الديموقراطي محلياً وعالمياً:
&
1 - &ازدياد ثقة المواطن العربي بنفسه في كل ما يتعلق بحقوقه ورفضه ربط هذه الحقوق بالولاء للصهيونية. وهذه هي أهمية مفهوم سكان البلاد الاصليين، كما لم يدركه من اصحاب القرار الا المستشار القضائي: اننا نستمد حقوقنا المدنية من انتمائنا لهذا الوطن وليس من الهجرة الصهيونية اليه. وهذا هو ايضا السبب من وراء اجتماع العنصرين الوطني والمدني وتلاحمهما في واقعنا. لقد ادرك ذلك شارون ايضا عندما نبهنا في خطاب في الكنيست القاه خصيصا للرد علينا دون سابق انذار قائلا: "لديكم حقوق في البلاد، ولكن ليس لكم حقوق على البلاد."
&
2- تمسك المواطن العربي بهويته القومية والوطنية بشكل غير مسبوق على المستوى الداخلي في العلاقة مع مؤسسات الدولة العبرية واصراره على التواصل مع امته العربية وشعبه الفلسطيني.
&
3 - مصادرة الخطاب الديموقراطي اللبرالي من الصهيونية وكسر احتكارها له عربياً، وربما كان هذا هو اشد ما يؤلمهم من انجازات التيار القومي في الداخل. ولذلك قال ايهود باراك في لجنة اور ان اكبر تحدّ يواجه دولة اسرائيل في المستقبل هو "قوميون عرب يتلبسون بلباس مطلب دولة لجميع مواطنيها". والحقيقة انه هو القومجي الصهيوني المتلبس بلباس الديموقراطية. عندما سيقوم المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية بمهاجمة برنامج "الدولة لجميع مواطنيها" الذي يطرحه التجمع فانه سوف " يدافع عن الديموقراطية الاسرائيلية" ضد الديموقراطية. وهذه ليست محطة سهلة بالنسبة للصهيونية.
وقد واجه خطابنا السياسي الديموقراطية اليهودية بعدة تحديات من هذا النوع في السنوات الأخيرة ارهقت كما يبدو المستشار ومن يقف وراءه.
على كل حال ستكون هنالك تفاصيل: كومبارس من النواب اليمينيين الذين يهرجون في طلبات لمنع النواب العرب من خوض الانتخابات بمن فيهم كاتب هذه السطور لكي يقال في النهاية لسنا ضد العرب، سمحنا لجميع العرب بخوض الانتخابات رغم حدة تصريحاتهم ورغم الشكاوى وبقي التجمع، والخطوة ضده ليست ضد العرب، ولولا وجود اعتبارات امنية خطيرة لسمحنا له ايضاً. فاسرائيل لا تتوقف عند تصريح هنا امام الكاميرات وتهريج هناك في التلفزيون، هكذا سيقولون، وهذا ما قاله في الماضي نفس المستشار القضائي عند بحث نزع حصانتي في الكنيست تمهيدا للمحاكمة التي لم تكن كما يبدو الا تمهيدا لشطب قائمة التجمع البرلمانية. ما يقلقه هو النهج المستمر والمثابر في بناء الحركة الوطنية في ظروف المواطنة الاسرائيلية. وستكون هنالك تفاصيل اخرى وتقارير شاباكية ووشايات ولن يخل الامر من تواطؤ خصوم سياسيين وتزوير وكذب من نوع ذلك الذي تم في "قضية خط 300" . لقد قرروا ان يحاولوا بكل قوة منع التجمع من خوض الانتخابات. والغاية تبرر الوسيلة وسوف يحاولون التعرض للتجمع بكافة الوسائل ان لم تسعفهم المحكمة الاسرائيلية العليا.
&
لا استبعد شيئاً، لا اثارة الاشاعات ولا الدس ولا العنف، لا استبعد عنهم شيئاً. فما داموا قد نجحوا في كتابة خمس صفحات من الاكاذيب مقدمة للجنة الانتخابات المركزية ومن بعدها المحكمة فانهم مستعدون لفعل اي شيء للتخلص من التيار القومي الديموقراطي في حالته القائمة الناضجة. ويجب ان تستعد الحركة الوطنية في الداخل للدفاع عن نفسها وعن انجازاتها امام هذه المؤامرات التي تذكر بخمسينيات جهاز المخابرات الامريكية. اذا تجاوز التيار القومي الديموقراطي هذا الامتحان فسيكون نصره كبيرا.