سرمد الطائي
&
حين أشاهد شاباً يرتدي قميصاً كتب عليه بخط عريض "نحن نحبك يا ..." واضعاً اسم رئيس دولته أو زعيم حزبه أو مرجعه الديني، فإنني لا استطيع تخيل ان ذلك مشهد مألوف في أوربا الغربية أو امريكا الشمالية. لن تقفز إلى ذهني سوى صورة شاب في طهران أو القاهرة أو بغداد، وربما صنعاء أو طرابلس أو كاراكاس وليما وكنشاسا مثلاً. وهكذا حين استمع إلى مجموعة من الرجال يصيحون "بالروح بالدم نفديك يا ..." .
لو قدر لي ان التقي توني بلير أو بيرلسكوني، وكذلك شيراك وبوش وشرودر أو زعيم حزب الخضر في دولة اسكندنافية أو شارون ربما... وأسأله: هل يحبك شعبك؟ لاعتبر سؤالي لوناً من السخرية يحمل طابعاً فيه كثير من التطفل على حياته الشخصية. ولو بررت له ذلك بأنني احاول التساؤل عن مدى نجاحه في عمله كرئيس، لقال لي دون تردد: عليك اذاً ان تسأل عن مدى ترحيب دافعي الضرائب بالبرامج التي جندت حملتي الانتخابية للتبشير بها، ومدى دعمهم لمقترحاتي في ادارة البلاد.
ولكن لو سألت صدام حسين أو العقيد القذافي أو ... عن مدى ترحيب الناس بسياساتهم لقالوا: لكي تحدد ذلك فإن عليك ان تنصت بإمعان إلى عبارات الحب والولاء التي يتفوه بها جميع ابناء الشعب حيال القيادة، والاوصاف الرفيعة التي يخلعونها علي وتقديسهم لكلماتي وإشاراتي وإيماءاتي وكتبي الخضراء والحمراء والسوداء، وتسابقهم على اقتناء صوري وتعليقها في أكثر الزوايا وضوحاً من منازلهم ومحالّ عملهم ومحافلهم العامة.
لا تمثل المفاهيم التي يستخدمها المرء أو التي تشيع ضمن نمط ثقافي معين، مجرد اشارات ورموز دلالية، بل هي تحدد أيضاً لون وعي الإنسان للاشياء وزاوية ملاحظته لها ومستوى استيعابه لحقيقتها. ولذلك فإن الاشخاص كثيراً ما يختلفون في انتقاء المفاهيم التي يصفون بها حقيقة واحدة يشاهدونها معاً وفي ظروف متقاربة، وإنما يقوم اختلافهم هذا على تباين في رؤيتهم للشيء ذاته والمنظومة المعرفية التي تكوّن الرؤية تلك، وهو أمر ينعكس على المفاهيم التي يجدونها مناسبة لوصفه أو تفسيره. وهكذا فإنه لا يمكن التعامل مع المفاهيم كرموز دلالية اشارية مجردة، بقدر ما يستدعي الأمر ان ندرك ما تعبر عنه من نظام في التفكير وشبكة علاقات نظرية معقدة لها طريقتها الخاصة في تحليل الاشياء.
هذا ما يمكن التعبير عنه كذلك في ما لا يحصى من الامثلة والمقارنات، ولكنه يبرز بوضوح اكبر في التباين بين مفاهيم الحب والولاء، والتأييد الدستوري. بماذا يشي هذا التباين في المفاهيم؟ هل ثمة فارق في الذوق اللغوي وحسب؟ أم ان المسألة تتصل بجذابية متفردة يحظى بها الزعماء الشرقيون ويفتقدها نظراؤهم في العالم المتقدم؟ من المؤكد ان التباين في المفاهيم التي تحدد العلاقة بين الحكومة والشعب (أو الزعيم والاتباع في شتى المستويات) يرسم منطلقات التباين بين نموذجين اجتماعيين لكل منهما منطقه الخاص وتصوره المحدد حول العلاقات الاجتماعية ومعايير الحقوق والواجبات فضلاً عن مفهوم الإنسان ذاته. لا أود كثيراً الخوض في تفاصيل ذلك ولدينا عدد من الدراسات الأكاديمية قد تولت الأمر على احسن وجه في العالم العربي ولا زلت اتذكر جيداً الجهد الكبير الذي بذله هشام شرابي في تفسير المجتمع الأبوي وسائر ما يتصل به من وجهة نظر سوسيولوجية، غير ان ملاحظة طيف واسع من الخطاب الثقافي العربي، توحي بأن الافكار والنظريات تلك ظلت حالة اكاديمية محضة عاجزة عن ان تتحول إلى عنصر من مكونات ثقافتنا العربية يدخل في أدوات التحليل والقراءة والوصف ويتاح للمثقف العربي استخدامه في ثرثرته غير المنقطعة.
هكذا نجد العديد من المثقفين العراقيين اليوم وهم يتحدثون عن مستقبل بلادهم الاكثر غموضاً، يبحثون عن نبي فيه مواصفات البطل الاسطوري وهو يأتي على فرس بيضاء ليحقق يوتوبيا طفولية نلهث وراءها. فقد طلع علينا الأستاذ سعد البزاز وأنا ممن يكنون له تقديراً كبيراً، بدعوة إلى اتخاذ السيد الفلاني رئيساً مستقبلياً للعراق، لأن فيه مواصفات لا تتوفر في غيره من الزعامات. وظهر مثلاً نخبة من البصريين ابناء مدينتي يدعون إلى (العلامة فلان الفلاني البصري) كي يتخذوا منه قائداً للركب في هذا الدرب الحالك! فهو (أو كل منهما) يمثل ((العارف الوحيد في مملكة الذاهلين عن الحقيقة)) أو المبصر الفريد في معشر الجاهلين بها والسابحين في غموضها. وخرجت علينا هذه الأيام دعوات مماثلة تتداولها الأقلام والألسن بعفوية ودون أدنى استغراب، بينما يحار البعض حين لا يقتنع بالأسماء المطروحة فيسأل بخوف وحرص على مستقبل البلاد: إذن من هو الرئيس؟ (أو من هو البطل والنبي والولي والكاريزما القادم الذي سنبادله الحب ونلهج بذكره ونصفق له بحرارة ونفتديه بأرواحنا وأموالنا وعيالنا) فلا فرق؟ وماذا لو لم تهيء لنا السماء هذا الكاريزما؟ أي ان غياب كاريزماهم يعني ضياع الوطن والشعب والمقدرات!
نجد في المجتمع الرعوي أو الاقطاعي وما شابههما من الانماط الاجتماعية، ان العلاقات والمفاهيم التي تعبر عنها هي حصيلة الفهم أو مستوى القراءة المتاح للعقل الاجتماعي في تلك المرحلة. ان العقل الاجتماعي المذكور لم يستطع ان يبدع صيغة تنظيمية أفضل من البطل الذي يستولي على مراكز القوى في مجتمعه بعد الإطاحة بالبطل العتيق، ويسيرها في اتجاه مجموعة مُثل وآمال يزعم انها تعبر عن ضمير أمته. يحمل هذا البطل صفات المنقذ الذي تنتظره أمة مقهورة تبدي استعدادها للاستماتة في سبيله ومن اجل مشروعه القيادي. ذلك البطل الذي يتجلى في النبي وشيخ القبيلة وزعيم الطائفة الدينية ووالي المدينة وسلطان البلاد...الخ، وهو يمتلك صلاحيات مطلقة بمجرد هيمنته على مراكز القوى، تخوله التصرف في البلاد والعباد والاعراض والأموال بما يمليه عليه ضميره المقدس الذي يستمد قداسته من صورة بطل اسطوري صنعتها مخيلة ميثولوجية خصبة هي جوهر العقل الاجتماعي الشائع في تلك المراحل الحضارية. وإذا كان على البطل ان يمارس دور المنقذ فإن على الأمة ان تهبه الحب وأن تكتوي بنار غرامه وتكون على استعداد للموت فداءً له، للتعبير عن عرفانها بجميله العظيم وتقديرها لمميزاته الفذة التي لا يمكن ان تتوافر في شخص سواه. وبالتالي فإن الدليل على البطولة هو ما يتملك الناس من مشاعر الحب ولوعات الجوى، وما يلهجون به من دعاء بعد تلفظهم اسم البطل (الرئيس القائد... حفظه الله ورعاه وأبقى اوتاد سلطانه وأدام ظلال دولته الوارفة...). ويلاحقه هذا التقديس حتى بعد مماته حيث يقترن اسمه بدعاء طويل مهيب (قدس الله سره...) وهو ليس تبرعاً من الأمة بل فرض ومسؤولية وطنية ودينية يحاسب من تخلف عنها وذكر اسم "البطل" مجرداً عن اوصافه المتعالية، أي ان السلطة في هذه الانماط الاجتماعية تطالب "الرعية" بالحب والاكتواء بنار الغرام وتقبيل الأيدي ولثم الاكتاف وبوس الأنوف... ثم الالتزام بكل ما تتطلبه هذه القداسة من فروض وطقوس وواجبات. ومن المنطقي في ظل تفسير كهذا وعلاقات من هذا الطراز، ان يتضرع الناس لربهم ليل نهار كي يأتيهم ببطل عادل رحيم يكافئهم على تقديسهم هذا بنحو لائق. ونراهم حين يثورون على أحد ابطالهم يسارعون إلى البحث عن بطل آخر تحظى بطولته بمصداقية اكبر، بينما لا يعترضون أساساً على تعاليه وغطرسته وهيمنته و"ربوبيته" ويتعاملون معها كأمر طبيعي لا مفر من حتميته التاريخية!
نلاحظ في التجربة المتقدمة ان الإنسان الغربي كما يبدو، قد قلّب وجوه الأمر كثيراً حين أطال المكوث إلى جوار ما اخترع من آلات وما اكتشف من قوانين، فوجد ان حكاية الابطال لن تنتهي طالما كان الجميع يطمحون إلى البطولة والهيمنة والاستحواذ والاستعلاء، ولا بد ان تعاد صياغة مشكلة السلطة ومقاربتها على نحو لا يترك مجالاً لظهور الكاريزما والبطل، بل لا بد ان يجري تحويل الابطال إلى اقزام أكثر فائدة وأقل قوة وتجريدهم من أي لون من القداسة، أي التخلص وإلى الأبد من نظام الأب المستبد وتحويله إلى موظف في جهاز مؤسساتي ضخم لا مركزي، يتقاضى اجره ويدفع ضرائبه إلى الخزانة العامة، كي ينصرف بعد بضع سنوات إلى حيث شاء، حتى ان بيل كلينتون رئيس الدولة الاقوى في عالمنا انصرف بهدوء وتحول إلى مذيع اخبار عادي بعد انتهاء الفترة الدستورية لرئاسته، ناهيك عن ان اسم بوش الابن تصدر لائحة الحمقى في أكثر الكتب الأمريكية مبيعاً لهذا العام (رجال بيض أغبياء). لم يعد هنالك رعية ينتظرون منقذاً يمارس بطولاته على اكتافهم فيما يقدمون له فروض القداسة ويكابدون جنون حبه والوله به ويكتوون بنار وجده. هذا ما افرزه التحول إلى المجتمع البرجوازي أو الصناعي وهذه معطيات الحداثة الحقيقية التي قلصت (ولا أقول ألغت) فرص الاستحواذ إلى حد بعيد، وأرست تقاليد المشاركة العامة في المصير العام وانتـزعت حقوقها لا بهدف تسليمها امانة إلى بطل آخر، بل لتخلق ضمانات ديمومة للحق تتوفر في إطار علاقة دستورية نسبية متكافئة ومحسوبة بدقة، بعيداً عن علاقة الولاء والحب والعبودية المطلقة.
لن يطلب الرئيس من اتباعه في النمط الاجتماعي المتقدم، ان ينشدوا "نسيباً عشقياً" أو غزلاً عذرياً يصف سحر سيادته الخادع وينافق لتكريس سلطته المتفرعنة، بل سيتوسل الرئيس إلى شعبه بكل حجج الاقناع والدفاع، ان يدعموا برنامجه الانتخابي المدروس و(يتسول) اصواتهم التي سيتاح له بفضلها لا على أساس كفاءته الذاتية، ان يكون ناطقاً باسم مؤسسة السلطة. لن يبحث ابناء العالم المتقدم عن رئيس ورع أو تقي أو زاهد يتظاهر بالمثالية أو يستعرض بطولاته، ولن يأبهوا كثيراً لصفاته هذه، لأن من يدخل البيت الابيض أو يذهب كل صباح إلى مبنى عادي في شارع داوننغ ستريت، لن يكون في وسعه إلا ان يكون انساناً صالحاً (بالمفهوم الحديث للصلاح)، لأنه ببساطة لا يمتلك صلاحيات سوى تلك التي تحقق مصالح الأمة وفي ظل رقابة دستورية صارمة في إطار تعددي مفتوح ورقابة شعبية تتحدث بصوت عالٍ ولا تضطر إلى البحث عن اسمى الاوصاف وأرفع النعوت لتلحقها باسم الرئيس حين تتلفظ احرفه العادية جداً.
لا اجد في هذه المقارنة تعقيداً يجعلها عصية على الاستيعاب، ولا أتفاخر بأنني أجيد تصوير الأمر على هذا النحو، فهي من بديهيات التأريخ للتحولات الاجتماعية. غير انني لا اخفي عجبي من القطيعة القائمة بين هذه البديهات، ونخبة واسعة من المثقفين العرب. هل يعقل ان هؤلاء استوعبوا منطلقات ذلك التحول نظرياً، بينما ظل العقل الثقافي المهيمن عليهم ملغوماً بتصورات بالية لا يمكن تبريرها إلا وفق المنطق الرعوي أو نمط العلاقات الاقطاعية في مجتمعات الخراج البائدة؟ ولمَ القول بأنها بائدة وكل المؤشرات المتوافرة تدلل بوضوح على ان اجدادنا الرعاة وأسلافنا من الإقطاع وعبيده لا زالوا يختبئون تحت كل تصور نتحذلق في رسمه، وفي طيات أي طرح نظري نتفذلك في بنائه أو مقترح وطني نستميت في التبشير به؟ حتى انني لن أصاب بالدهشة لو استيقظت ذات يوم ووجدت نفسي اعتنق نظرية "تناسخ الأرواح" العريقة كي أفسر من خلالها هذا التواصل التاريخي لمنطق الرعاة والإقطاع والسلاطين.
بدلاً عن ان يبحث ابناء جلدتي عن تصور لمؤسسة حكومية كبيرة تمتلك ضمانات التعايش السلمي وتقنن علاقات دستورية بين مختلف ابناء الوطن وتوفر لهم كرامتهم وحريتهم الشخصية، فإنني اجدهم يلهثون بحثاً عن بطل قومي وقائد فذ آخر يعادل صدام حسين في سطوته ويختلف عنه في قسوته فيما يحلو لآخرين ان يخلعوا عليه لقب "المستبد العادل".
وبدلاً عن التفكير بمنطق العلاقات المدمر الذي أطلق أيدي الجلادين في عالمنا الشرقي الكبير، على اختلاف فنون الجلد والقمع والتفرعن، فإننا نتمسك بالمنطق ذاته ولا نجد له بديلاً تاريخياً يتناسب وما يتوافر لدينا أو أمام اعيننا من تجارب وخبرات بشرية واسعة، فنلعن (روبسبير) ونعتزم السير في ركب (نابليون) المنقذ (مع انه خير خلف لأعتى سلف) نهتف يحياته ونذرف دموع الوجد والغرام بين يديه وقدميه.
أنهي حديثي الطويل بكلمة للرئيس الايراني الحالي وهو يتحدث بتأفف إلى ابناء مدينته اردكان قبل بضعة اعوام. يخاطب خاتمي الجماهير المحتشدة لتحيته بالهتاف والبكاء وآيات الحب قائلاً بلهجة تحذيرية: "لا ينبغي ان نكون ضحية لعبادة الأشخاص والكاريزمات. لا بد ان نركز اهتمامنا وحسب على ان الشخص الذي وصل الى السلطة إنما أتيح له ذلك بفضل ما ادلينا به من اصوات. لم يكن المأخوذ في نظر الاعتبار ابداً ان تتجه انظار الناس الى شكل الشخص المنتخب ولون عينيه وطوله وعرضه... بل ان الذي تم طرحه في الانتخابات كان جملة من الأهداف والتوجهات والمعايير". هذه كلمة تثير الاهتمام في بلد لا يزال المنطق الرعوي يهيمن على المشهد السياسي السائد فيه رغم كل محاولات الاصلاح الاجتماعي والسياسي. لكن الجدير بالذكر ان خاتمي وسواء شاء ام أبى قد اصبح كاريزما ايرانية جديدة في ضوء الشعارات التي رفعها، ذلك ان عقل الشرقي ومشاعره لا يزالان في طور يعجز خلاله عن كبت رغبته في اللهاث وراء البطل الذي يحب!
ترى هل سنظل ندفع ضرائب هيامنا بالابطال والملهمين؟ متى سننتقل الى طور حضاري آخر يقف فيه الإنسان مع الفكرة دون صاحبها ويهيم بالمشروع دون الكاريزما، فيحتفظ لنفسه بما يؤهله لحركة تحفظ له انسانيته وذاتيته وفردانيته البنّاءة؟